الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الفنان غسان مطر الذي يبقى بيننا

نشر بتاريخ: 19/04/2015 ( آخر تحديث: 19/04/2015 الساعة: 11:51 )

الكاتب: تحسين يقين

- كيف يبقى الإنسان؟
- سؤال الخلود!
آخر مرحلة من الحضارة هي الكوميديا!
هل كانت حياته الشخصية والفنية والوطنية إلا تعبيرا عن هذه المقولة التي أطلقها فلاسفة الفن؟!
أظننا سنعود لذلك، بعد استعراض ما هو جديّ في الحياة والفن إنسانيا وقوميا.

عندما قال محمود درويش "أنا لغتي" شعرا، راح الكتاب والأكاديميون والمفكرون يحللون تجليات ذلك في الثقافة والاجتماع والهوية، وأجد نفسي اليوم متذكرا لهذه العبارة الشعرية-الفكرية والفلسفية، وأنا في سياق تحليل اندماج فنان من قطر عربي معين في الحياة الفنية في قطر عربي آخر وأكثر؛ حيث مثّل الفنان الراحل غسان مطر هذه الحالة، فكان فنانا من فلسطين، وكان فنانا في لبنان ومصر.

يصعب تفسير ذلك خارج نطاق القومية واللغة؛ ولعلّ ذلك يثير الحديث القومي ذي صار حديثا شجنا، ولعله على الأقل يثير الحديث عن دور الفن.
كان الاندماج الفني لابن يافا الفلسطيني في لبنان ومصر اندماجا عاديا، منذ الستينيات حتى رحيله، وهو اندماج فريد، فهو اندماج في الفن والحياة الاجتماعية، فلم نكن نعرف أن غسان مطر فنانا فلسطينيا حتى عام 1985، أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان، وقد سررنا لذلك وطنيا كون هذا الفنان المشهور من بلدنا فلسطين المقفل عليها من الاحتلال.

وبذلك، يمكن القول أن الفنان الراحل القادم من يافا الجميلة، هو فنان لبنانيّ ومصريّ، ولعلي أركز على مصر لطول إقامته فيها، وهو الذي أحبها، فانخرط في العيش فيها، في قلبها كالمصريين تماما، فعرفه الجمهور العربي في مصر فنانا مصريا، ولذلك دلالة مهمة على الانتماء القومي الذي هو ضمانة كبرى للانتماء لباقي الأقطار العربية. ينطبق هذا التوصيف على الأخ غازي مرار أحد الشخصيات الفلسطينية الثقافية في مصر رفيق غسان مطر، الذي شغل موقعا قياديا في المجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم والسفارة الفلسطينية في القاهرة، وعلى عدد من الشخصيات الفلسطينية التي أقامت في مصر، أكان ذلك بسب جذب مصر لهم، أو حبهم لها أو الاثنتين معا.

بعد ثلاث سنوات من معرفتي بجنسية غسان مطر، كنت أشاهد مسرحية "واقدساه" على خشبة مسرح المركز الثقافي في عمان، في السنة الأولى للانتفاضة، في طريقي للدراسة في مصر، وأذكر وقتها تفاعل الجمهور العربي في الأردن مع المسرحية التي اشترك فيها فنانون من مصر والعالم العربي، في إشارة قومية لافتة. حيها كان غسان مطر عربيا، فلسطينيا ومصريا.
لكن من الأهمية بمكان أن ما يثبت الفنان في النهاية هو موهبته وقدراته، وغسان مطر كان أحد هؤلاء الفنانين المحترفين، والذي تتلمذ على أيدي كبار الفنانين في مصر حتى غدا فنانا كبيرا بحق.
المرة الأولى التي شاهدنا غسان فيها كان من خلال مسلسلين دراميين الأول "اللقاء الأخير" مع الفنانة سناء جميل، والثاني حاولت تصفح "جوجول" كي اهتدي على اسمه فلم أفلح، رغم ذكر أسماء عدد من مسلسلاته.

في "اللقاء الأخير" ما زلت أذكر الشخصية التي أداها، لكثرة مناداة سناء جميل عليه، كان جلال شريرا يستغل هذه السيدة رغم تحذيرها منها، وأذكر كيف كان يؤدي هذا الدور المعقّد، عاشقا معها، وثعلبا في غيابها، فاستطاع رحمه الله تنفيرنا من الشرّ والخداع.

أما دوره في المسلسل الثاني، فلعله كان من أهم أدواره على الإطلاق، حيث أن الأثر الفني ما زال حاضرا في وجداني حتى الآن، وكلما كنت أرى دورا لغسان مطر، كنت غالبا ما أتذكر إبداعه في ذلك المسلسل قبل 33 عاما وأكثر؛ حيث أدى شخصية من يريد أن يكون نائبا في البر. وما زلت أتذكر ملامح وجهه وهو يردد كلمة "نائب"، ولم أكن وقتها أعرف معنى الكلمة حتى عرفت بعد عدة حلقات، لم تكن هناك وقتها أخبار عن مجلس النواب الأردني في نشرة أخبار الثامنة مساء، لكن من خلال كتاب الاجتماعيات عرفت المعنى، وتساءلت وقتها هل إلى هذه الضرورة تستميت الشخصية التي أداها مطر في إنجاز ذلك؟
عاشت معي شخصية المسلسل الذي نسيت اسمه، خصوصا حين شهدت الدعاية الانتخابية في مصر، في الواقع كذلك في الأفلام.

وحين ظهرت مشاكل بعض النواب الذين تم رفع الحصانة عنهم لمحاكمتهم لتجاوزاتهم واستغلالهم عضوية مجلس الشعب، تذكرت غسان مطر. وبقيت أتذكر سحنة وجهه وهو يردد "نائب"!
لا أظن أن أحدا بعده أتقن دور المستميت على عضوية البرلمان مثله، وهذا مثال واحد على القدرة في التركيز في التعبير عن مكنونات الشخصية التي يؤديها من العمق لا من السطح.

فيما بعد عرفنا نكبته التي تعرض لها عام 1979، في حادثة قتل زوجته وابنه وأمه في لبنان أيم حرب المخيمات، حين كان متواجدا في مصر لتأدية دور في مسلسل تاريخيّ. أما كيف استطاع غسان مطر أن يستأنف حياته بعد ذلك، فتلك قصة أخرى، تدل على عظمة هذه الشخصية.
عرف الجمهور العربي غسان مطر في دور الشرير بشكل عام فترة طويلة، استمرت من أواخر الستينيات حتى أواخر التسعينيات، على غرار الشخصيات الفنية مثل محمود المليجي وتوفيق الدقن. ثلاثون عاما وهو محكوم في مثل هذه الأدوار الصعبة التي نجح نجاحا باهرا في تأديتها، حتى كان التحول إلى الأدوار الكوميدية في العقد ونصف العقد الأخير.

ما الذي حدث؟
ما الذي حدث فنيا وثقافيا وسياسيا في حياتنا العربية؟
هل هي السخرية من التراجع الفني والثقافي والعمل القومي؟
فاجأنا غسان مطر في تأدية عدة أفلام جديدة تغيرت فيها أدواره. وما فاجأنا فيها أكثر هو المضامين الفقيرة والمستوى الفني المتواضع، فرغم أنه علم فني معروف، ورغم أن أدواره فيها ناجحة كما يذكر النقاد، إلا أن السؤال المحيّر هو لماذا اشترك في تلك الأفلام؟
هل يعود ذلك لضرورة العمل لتأمين لقمة العيش؟ ربما، لكننا نستبعد ذلك في حالة فنان كبير في قامة غسان مطر.
إذن ما الذي حدث!
لعلنا نعود إلى ما ابتدأنا به!
آخر مرحلة من الحضارة هي الكوميديا!
تفسير ذلك فلسفيا وفنيا يمكن التنبؤ به، لكن أظنني أعيد فهم تلك العبارة من ناحية قومية؛ ففي وسط هذا الهبوط الفني والفكري والسياسي العربي بشكل عام، كانت مشاركة غسان مطر في هذه الأفلام احتجاجا على ما هو سائد، بل تمردا أيضا، وسخرية، وبعضا من جلد الذات؛ فبعد رحلة النضال القومي الطويل كانت النتيجة هي ما شهده غسان من ركاكة وسطحية في الفن والحياة، وتلك هي سخريته السوداء التي بدت في كوميديا خفيفة في أفلام تعكس ما يسود حياتنا بدلا من نقدها وقيادتنا نحو الفعل الإنساني والفني والثقافي الملتزم والنبيل؛ فلم تضع فلسطين وحدها بل ضاعت معها العروبة، ولم يعد يطفو على السطح غير الدواعش!

- ...............؟
- يبقى بأدوار الشرّ والكوميديا، بالفن يخلد بيننا.
وأخيرا يبقى غسان مطر فنانا عربيا، فلسطينيا ومصريا، نقابيا ومناضلا وفدائيا يقرأ دون كيخوت باحثا عن دور مقارعة طواحين الهواء!