الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

ناجي العلي .. يوم صعوده

نشر بتاريخ: 30/08/2015 ( آخر تحديث: 30/08/2015 الساعة: 13:13 )

الكاتب: المتوكل طه

هنا شجرٌ راقصٌ في الطريقِ،
وشمسٌ على حائطٍ في المساء.
هنا شغفٌ في العقودِ التي ارتفعت
في معاريجِ نجمتها، كي تنامَ على
أُفقٍ للبهاء.
هنا زفَّةُ الهادلاتِ على سروةِ العيد،
دربُ النشيد،
وأحداقُ زنبقَةِ الأنبياء.
هنا لا أرى دارَ مَن نَهَبَ الدار،
أو سُورَهُ في المهاوي،
وقَلْعَتَهُ في الخَواء.
هنا بيتُ عمّي وخالي،
صخورُ الرّعودِ، ونرجسَةُ الدفتَرِ الطّفلِ،
بئْرُ شقيقي،
وعتْمَتُهُ في الخلاء.
هنا يبدأُ الصوتُ حتى الفناءِ،
ويبقى، إلى أن يعودَ، النّداء.
***
ولم يكتشفْ يُتْمَه حينما كنتُ ألتاعُ في العيدِ،
لم يَفْرُك الزَّهرَ في حضرةِ الصّمتِ،
هذا حَمامي الأليفُ،
الذي حَلِمَتْ في جَناحَيْهِ لَيمونةُ الدارِ..
قالت له أُمُّهُ: قد وُلِدْتَ مع المَغْرِبِ الساحليِّ
في شَهرِ إعصار،
كان المحاربُ في أوَّلِ النَّحْرِ،
والدمعُ في أوّلِ الجَمْرِ
والدّمُ في مَوْقِدِ الانتظار.
وقد جاءَ يَحْلُمُ، بالسِّجنِ واللّونِ،
مثلَ أبيهِ الذي قَدَّ عُمْراً طويلاً،
وراءَ العَقاربِ حتى يرى في الليالي النهار.
وما زال يَحلُمُ عَكْسَ أبيهِ المُعَفَّرِ بالقَهْرِ،
كي يَشْهَدَ الشمسَ في بَهْجَةِ الانتصار.
وأَسْأَلُهُ: كيفَ عشقُكَ؟
يضحكُ ثم يقولُ:
إذا مسّني ريحُها هبَّتِ النارُ في النارِ!
يا صاحبي! إنها امرأةٌ منْ دموعِ الصلاةِ
وبرقِ القلوبِ ونارِ المجرّاتِ..
هذي، إذاً، ليست امرأةً
إنها كلُّ هذي الحياة!
لهذا، أخافُ منَ الموتِ أنْ
يستريحَ طويلاً على برزخِ الظلمات،
وألاّ أراها هناك على قمّةِ الغيمِ
تمشي وتتبعُها في الجنانِ عيوني،
وأندهُهَا، بعد عُمرٍ طويلٍ: لماذا تأخَّرتِ
أين ذهبتِ، فتأتي..
كأنْ لم تغب ساعةً في السُّبات.
***
ولو نِمْتُ يُشْعِلُ أجراسَهُ في الكؤوسِ،
ويُعْشي عُيوني دُخَاناً أليماً،
فأصحو على دَمْعَتيْنِ،
يشيحُ بِمُخْضَلِّ جفنيهِ عنّي،
ويندسُّ في الصُّوفِ،
أصحو أنا كي أرى طَيْفَ مَنْ جاءَهُ في المنَامِ،
فألقى ملاكاً جريحاً،
يُغَسِّلُ قُمْصَانَهُ في مآقيهِ،
يَعْدو إلى بَيْتهِ خَالِصَ الثّلجِ،
ألقى رفوفَ العصافيرِ،
وهي تُدَرِّجُ أبناءَها فوقَ جبهَتِهِ،
أو أرى دمعَ مِنْديلِ أُمّي على فَمِهِ،
مُطْبِقاً كالغَمام.
فأُوقِظُهُ مِن جَديدٍ،
فَيشْتمُني دُونَ سُوءٍ،
وَيأْمُرنُي أنْ أنامَ،
وَيَستَأنِفُ القَوْلَ بالسُّخْطِ،
ثم يقولُ: أنا مثلُ مَنْ ماتَ باللَّحْظِ،
لكنني أَقْرَبُ الآنَ مِن صدر قاتلتي..
سوف أودِعُها الطيرَ
حتى يكونَ له برجُهُ في الرخام.
***
يظلُّ على حاله،
يُؤْنِسُ الليلَ،
والنَخْلَ في البيدِ
والباكياتِ على طَعْنَةٍ في الوليِّ،
هَوتْ في قُلوبِ الذين أضاعوهُ،
حينَ أشارَ إلى حقِّ سِبطِ النبيِّ بسيفِ الإمام،
ولكنَّهُمْ خَذلوا ما أرادَ،
فلا بأس من كَرْبَلاءٍ تَنُوحُ،
وتمتدُّ مِن رأسِهِ في الطريقِ،
إلى حيثُ كانَ عليهِ السلام.
***
في فمي دَمُهُ،
بَلَّ حَلْقِي بفِضَّةِ أقمارِهِ الظامئاتِ،
وَأوْرَثني ما يُؤَثِّثُ هذا المدى بالنّشِيجِ
ولَمْعَةِ جُثَّتِهِ في القَتامِ،
فكيف أرى ما يُمَزّق عينيهِ،
في مَشْهَدِ الانكسارِ العنيفِ،
وما بدّدَ الصوتَ في صَرْخَةٍ للكَلام؟
وإنْ جاءَ بَيْتي،
سَيَحْمِلُ شُعْلتَهُ للشموعِ،
ويفتحُ نافذةً في الجدارِ، لأَنظرَ مِنها؛
أرى مُدُناً قَطعوا رأسَها في جَنازَةِ أبنائِها،
شَعْبَهُ في هيولى الدّماءِ،
نياشينَ مَنْ باعَ أرْضاً بِوَهْمٍ،
وَشُرِّدَ في كلِ فجٍّ عميقٍ،
.. وَلي أنْ أرى لَيْلَةَ العيدِ،
أو رايةً في الظَّلام.
***
ويعجبني أنّه كُلّما مرَّ قُرْبَ الزبرجد
قال: أُحبُّ خُواني الذي يطفح الزيتُ فيه
على الجَنَباتِ، لأُكمل قصّتنا السالفة!
(وكانت ملامحة خائفة!)
ثم يمضي إلى رُشْدِهِ قائلاً:
وغداً سوف نفردها، عند عودتنا!
(ثمّ تبرق في عينه دمعةٌ ناشفة!)
ثم يمضي إلى رُشدِهِ سائلاً:
هل نعودُ إلى أرضِ أحلامِنا الخاطفة؟
(وتغلِبُه العاطفة!)
نعم سنعودُ، غداً سنعودُ..
وكررّها، مثل طفل سيحفظ آياتِهِ
أو أناشيدَ أُمَّتِهِ الوارفة..
هذا صديقي الذي مَضَّهُ الحِبْرُ
لم يبرحِ اللعبةَ النازفة
نام..
ما نام، سافرَ في الحلمِ..
قبَّل كاساتهِ في السرير
فَصَاحت مناديلُها الذارفة .