الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

"فأما الزبد فيذهب جُفاءً "

نشر بتاريخ: 30/08/2016 ( آخر تحديث: 31/08/2016 الساعة: 09:48 )

الكاتب: د. حسن عبد الله



أصبح معروفاً أن وسائل التواصل الحديثة سلاح ذو حدين، فالجانب الايجابي، يتمثل في سرعة نقل المعلومة والوصول إلى قطاعات أوسع من المتابعين والمهتمين، إضافة إلى تبادل الأفكار والخبرات مع أناسٍ وكفاءاتٍ من كل أصقاع الأرض، حيث لم يعدْ يقتصر التواصل على جغرافيا أو حدود معينة.
وفي المقابل فقد كُتب عن السلبيات كثيراً، فيما يتعلق بالأخطاء في نقل الأخبار وتعميمها وتناول الآخرين بالقدح والتشهير أحياناً، إلى جانب الآثار الاجتماعية على الأسرة والمجتمع، نتيجة تقوقع الأفراد خلف شاشات صغيرة، كبديل عن التفاعل المباشر مع الأسرة والدوائر الاجتماعية الأوسع، لكن ليس الهدف من مقالتي التعرض لوسائل الاتصال الحديثة تقييماً ونقداً، في الاطار العام، إذ سبق لي وأن عالجت ذلك في مقالات سابقة وفي مشاركات بأوراق عمل متخصصة قدمتها لورشات ومؤتمرات.
لكن ما لفتني مؤخراً هو كيف يتعامل الأدباء والمبدعون مع وسائل الاتصال الحديثة، حيث لحظت ثلاث فئات.

الفئة الأولى تتعلق بأدباء كبار ما زالوا يديرون الظهر لوسائل الاتصال الحديثة ويكتفون بالنشر بالطرق التقليدية، وبالتالي فإنهم يحرمون أنفسهم من استثمار تكنولوجيا المعلومات ويصرون على التشبث بالرأي القائل، إن الفيس بوك ووسائل الاتصال الأخرى لا تؤسس لثقافة حقيقة جدية، بل تسهم في تسطيح الثقافة بما يكتب بسرعة وعلى عجالة. أما الفئة الثانية، فهي فئة الكتاب الكبار الذين تجاوزوا الوسائل التقليدية ونجحوا في التعامل مع الحديثة، وكسروا النمطي وخرجوا إلى الأفق الأرحب، وحافظوا على جودة ونوعية ما ينتجون، مع أن قِسماً منهم ينجر أحياناً لنشر الصور والزهو بتعليقات الاعجاب، علماً بأن هذه التعليقات لا تعكس دائماً متابعة دقيقة وقراءَة متمحصة للنصوص، وإنما يطغى عليها طابع المجاملات.
وبالوصول إلى الفئة الثالثة، نصدم بالاسفاف والاستعراض وتضخيم الذات ونفخ الانتاج، بالرغم من تواضعه وفقره، بينما التعليقات المجاملة السريعة فإنها تنفخ "الأنا" لدرجة كبيرة، فيصدق هذا الكاتب الناشئ أو المتواضع الامكانات أنه صار كبيراً وعظيماً في رمشة عين، ويكتفي بـ"أعراس الاعجاب"، معتقداً أنه وصل الهدف وحقق كل شيء، فيكف عن تطوير نفسه وصقل قدراته، من حيث الأسلوب والمضمون.

وقد يقع بعضهم في "فخ" الخديعة ويصدق تصنيفات المجاملات حينما يتم نعته اعتباطاً أو مداراة بـ"الكاتب الكبير"، مع أنه في حقيقة الأمر، لم تتجاوز اصداراته كتاباً أوكتابين أو ربما انحصرت في نطاق بضع قصص أو عدد من المقالات السريعة المتسرعة.

وهذه مناسبة لأناشد كتابنا الكبار الذين يتهيبون التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة أو يستصغرون ذلك، نتيجة تقديرات ومواقف مسبقة خاطئة، الا يتركوا الميدان للسطحي الغث، ويبادروا إلى التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، لكي يمتعوا القراء الجادين ويتحفوهم بنتاجات نوعية هي خلاصة تجارب إبداعية وكتابية صقلتها السنون والجلد والثقافة الواسعة التي تم التأسيس لها بقراءات ومتابعات دؤوبه، في حين انني أدعو الكتاب الكبار الذين تحرروا من التقليدي وركبوا موجات أفق الفضاء المفتوح، أدعوهم لصرف الوقت والجهد في كل ما هو مفيد ونافع، وعدم التسليم لاغراءات وسائل الاتصال الحديثة والانسياق وراء الكتابة السهلة التي لا تتطلب جهداً وتركيزاً، وأن يصمدوا أمام اغراءات جرهم إلى ساحة المديح والتبجيل من قِبل أناس لا يدققون ولا يمحصون، والاستماع إلى أصوات النقاد الدارسين القادرين على تقديم القراءات التحليلية المعمّقة بمنهجية استنباطية واستشفافية.

أما الكُتاب المتزحلقون على سطح الثقافة، فإنني لا أتوجه لهم بشيء، ولو فعلت عكس ذلك، فإن صوتي سوف يرتد إليَّ صدى، فكيف يستمعون لمن يناشدهم بالتروي والتعمق، وهم يرون أنفسهم وقد بلغوا ذروة النشوة وقمة الشهرة، ومن أين لهم أن يدركوا أن الغث سيذهب جفاءً وينطفئ بسرعة الاشتعال والتوهج ذاتها، لأن الذي ينفع ويبقى ويعيش هو الإبداع الذي ينفع الناس ويمتعهم وهو المرشح دائماً للبقاء والاستمرار، وإن اختلفت وتنوعت الوسائل وتبدلت "لعبة" التقييم والتقويم.