السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

بعد 16 سنة على انفجارها .. شهادة عن انتفاضة الأقصى

نشر بتاريخ: 29/09/2016 ( آخر تحديث: 29/09/2016 الساعة: 20:02 )

الكاتب: المتوكل طه


لم نتخلَ، نحن الفلسطينيين، عن أساليب الحرب واجتراح المعجزات، وإظهار الجسارة وممارسة الشجاعة الفذةّ، وما زلنا نستعمل الأساليب نفسها، الفردية، الجماعية، الإيمان العميق بالنهاية، ولكن دون العمل الكافي من أجل ذلك.
دخلنا انتفاضة جديدة، بعد عشرات الانتفاضات، كان أبرزها انتفاضة 1987-1992، وانتفاضة الأقصى الأولى 1996، وهذه الانتفاضة (الأقصى) التي ميّزها عما قبلها من انتفاضات عدة ميزات: أولها وجود سلطة وطنية، وثانيها توّفر السلاح الناري في أيدي المنتفضين، وثالثتها حدوث زلزال جديد هو الهجوم على الأبراج في نيويورك والبنتاغون في واشنطن بتاريح 11/9/2001، ما سيسمح لإسرائيل بتوظيف هذا الزلزال لصالحها بشكل حاسم.
وجود سلطة وطنية على الأرض الفلسطينية يعني وجود أراضٍ تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة ، ووجود اتفاقات تربط بين هذه السلطة ودولة إسرائيل ، وتوفر السلاح الخفيف في أيدي قوات الأمن والقوى والفصائل والجمهور الفلسطيني.
دخلنا الانتفاضة الحالية التي كانت الردّ الرسمي والشعبي على خداع أوسلو الذي تحوّل إلى تكريس للاستيطان والاحتلال مقابل عدد من رموز السيادة الفارغة، وبذلك أعادت هذه الانتفاضة الصراع إلى أصوله الأولى (حرب وجود، حرب كيانات) إلى حد كبير. وبمعنى آخر دخلت إسرائيل حربها ضد الانتفاضة لتحقيق عدة أهداف، أهمها فرض القراءة الإسرائيلية لاتفاقات أوسلو، وإبقاء الأمر على ما هو عليه، ولتصميم أو تشذيب الشعب الفلسطيني حسب المواصفات الإسرائيلية.
غير أننا دخلنا هذه الانتفاضة ولم نستفد من تجاربنا في الانتفاضات السابقة، ولم نستعد للمواجهة، في حين أن الإسرائيليين دخلوا حربهم ضدها وقد أفادوا من أخطائهم إبان الانتفاضتين الأخيرتين 1987، و1996.
عدا أن إسرائيل العام 2000 كانت قد راقبت ودرست وأثرّت في الحياة الفلسطينية في الضفة والقطاع، في الوقت الذي لم نرقَ فيه إلى سبر غور الإسرائيليين والدخول إلى أحشائهم ، ومعرفة نقاط قوتهم وضعفهم.

كيف دخلوا .....ودخلنا

دخل الفلسطينيون الانتفاضة بصورة أقرب إلى الارتجال منها للتخطيط ، وكان مقتل الانتفاضة يتمثّل في عدة أمور ، أهمها : عسكرة الانتفاضة، ما أدى إلى عدم تحييد السلاح الإسرائيلي الثقيل وما جعل المشهد كأنه حرب بين طرفين، والأمر الثاني غياب السلطة، بمعنى أن السلطة هي احتكار ممارسة القوة، وهذا لم يتم ، بل العكس تماماً ، إذ إن السلطة تركت الحبل على الغارب لكل مجتهد أو عابث ، وتركت المجال لأكثر من أجندة تمضي في طريقها ، ما جعل هذه الأجندات تتعاكس فيما بينها ، إضافة إلى الاستجابات الشعبوية ذات الطابع الانتخابي التي كان لها مردود سلبي ، ولم ترتبط بالقراءات الصحيحة للظروف المحيطة. وهنا لا نبرّئ الفصائل التي لم تكن على مستوى الضبط المطلوب، واستشعار المصلحة العليا، بل لم تفتح الحوار المطلوب مع السلطة لفرض صيغ عمل جماعية. كذلك فإن السُلطة لم تتخذ موقفاً واضحاً في كيفية التعامل مع الجماهير ، ولم تعمل على مصارحتها أو رفضها أو تبنّيها ، كما أن السلطة لم تنسق مع الجماهير خصوصاً في المواقف السياسية ، وحاولت السلطة أن تقدم نفسها للعالم كسلطة مسؤولة ، وحاولت ، أيضاً ، أن تقدم نفسها للجماهير وكأنها تقودها ، وهذا وضع لا يمكن الاستمرار فيه ومعه إلى الأمام ، لهذا تغير سقف الانتفاضة بسبب سوء المرجعية الأولى وبسبب تقديم السلطة لنماذج رديئة على مستوى التفاوض والإدارة والفساد ، عدا أن الجماهير ، ونتيجة لوجود السلطة قد تغّيرت مفاهيمها في المشاركة في الانتفاضة من حيث عدد وكمية وشكل المشاركة. إضافة إلى كل ذلك، فقد دخل الفلسطينيون الانتفاضة والموقف العربي مفكك ومُستلب وضعيف، وفي ظل وجود أطماع إقليمية مجاورة، وفي ظل خذلان دولي حقيقي ، وبالذات بعد أحداث 11/9/2001، وفي ظل نقص الإمكانات، والاستغلال غير الموفّق لأنواع مؤثرة من المقاومة، عداك عن تزوير الحقائق للجماهير من خلال تصريحات نارية لكثير من المسؤولين والشخصيات على الثوابت والمفاهيم الأساسية المشروعة.
أما الإسرائيليون فقد دخلوا الانتفاضة بعد أن وجدوا ثغرة أدخلوا من خلالها سلاحهم الثقيل سريعاً، وبلا رحمة، وبدأوا حرباً إعلامية قوية، وسريعة، ومنسجمة ومتواصلة، ومارسوا كل أشكال القمع ووسائل العنف الإجرامية والمحرّمة دولياً، في ظل دعم وتبرير أمريكي مطلق لهم، وصمت أوروبي وعالمي، وعدم تحرّش إقليمي بإسرائيل، ما جعلها مرتاحة، وتستمر في جرائمها دون رادع.
وربما كانت إسرائيل مُستغلة إلى أبعد الحدود هذه الحرب التي تشنّها، فقامت بتدمير كل شيء، دون استثناء، في الحياة الفلسطينية، بهدف إضعاف وتركيع وتلقين الفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم ، أخيراً، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانفجار في وجه الاحتلال ورفض إملاءاته ، وأما الاستسلام . ومن الطبيعي أنهم لم يستسلموا.
هنالك على ما يبدو قرار، غير مكتوب وغير معلن، أمريكي غربي إسرائيلي، مفاده عدم السماح للشعب الفلسطيني المنتفض بأن ينجح في تحقيق أهداف ثورته وانتفاضته، بوساطة العنف، لأسباب سياسية وعقدية. بمعنى أنه إذا انتصرت الانتفاضة فهذه سابقة ستتكرر في غير مكان، في العالم العربي أو الإسلامي، وستنتقل أشكال المقاومة إلى خارج فلسطين وتصبح نموذجاً يحتذيه الشبان والمقاومون، وبالذات شكل العمليات الفدائية التفجيرية، ما يفسر حرب أمريكا وإسرائيل لهذا الشكل على وجه الخصوص. ثم ينبغي أن تكون الأنظمة القائمة فيما يُسمى الشرق الأوسط، أنظمة مطيعة ومتعاونة مع أمريكا وحليفتها إسرائيل، وليست أنظمة ثورية تقول:"لا" في وجه سيّدة العالم وابنتها المدللة إسرائيل.
وبالتأكيد، فإن ما يولّد العمليات التفجيرية ويمهّد لردود الفعل الفلسطينية العنيفة هو مجمل إجراءات إسرائيل القمعية الدموية ، وتفنّنها في إذلال الشعب الفلسطيني وتعذيبه وتجويعه ومحاصرته. أي أن إسرائيل ومعها أمريكا وصمت العالم هو المسؤول عن كل قطرة دم تسقط ، هنا، في فلسطين التاريخية، وأن كل هذا الموت لن يمْحي من ذاكرة الفلسطينيين حقوقهم التي مهروها بكل هذا الدم والدمع والفجائع. خلال الثمانية عشر شهراً الأولى من الانتفاضة - وقبل الاجتياح الكامل والاستباحة والاحتلال الذي عاد مكتملاً للأراضي الفلسطينية - قمت بتسجيل هذه الملاحظات العامة على ما جرى:
1- لعل أسباب انفجار الانتفاضة الأم الكبرى1987، وهذه الانتفاضة (الأقصى)، هي واحدة، تتركز وتعود إلى الاحتلال، بكل ما يعنيه، من استلاب ومهانة وقهر وإذلال، يوّلد رغبة محمومة، هي ما يشكّل القرار الحاسم الذي يسعى للتخلّص من ذلك، لتهيئة الأيام القادمة، لتكون أكثر قبولاً ولطفاً وكرامة. لكن الانتفاضة الكبيرة تلك ولولاها لما وجدت هذه الانتفاضة طريقاً ممهداً لتمضي ، بمعنى أن تلك الإنتفاضة عملت على تسوية أول درب للشعب الفلسطيني ليمضي إلى مستقبله، بعد أن عملت الأعمال الفدائية منذ انطلاق الثورة حتى حصار بيروت على تهشيم وتحطيم الصخور الكأداء الضخمة التي كانت تسدّ الطريق أمام شعبنا. وبمعنى أن تلك الانتفاضة قد أسست لشكل نضالي شعبي " سلمي" يتوفر لنا، لتوظيفه كلّما دعت الحاجة لذلك، خصوصاً بعد أن تراكمت الأسباب الداعية لذلك.
وثمة سبب ساهم في اشتعال هذه الانتفاضة وتلك، ألا وهو الاحتقان المكتوم، الذي يتلفّت، هنا وهنا، ويتجلّى في النكات الساخرة، أو الاحتجاجات السياسية المحصورة، أو الخطابات الموسمية الخجولة، أو ينداح في الجلسات الخاصة، والذي يتمحور حول هامش الخطأ فينا . وبالرغم من إنه هامش مسكوت عنه، إجمالاً، ولم يصل إلى حدّ خلق صوت معارض يحمله بكيفية يكلفها القانون أو الدستور، فإنه كلام حق، يتدحرج .. ويكبر، ويختلط بالمبالغة حيناً ويستغلّه الاحتلال حيناً آخر، إلا أنه موجود، ويشكّل سبباً هامشياً للاحتجاج، وإعلاء صوت الغضب.
فالانتفاضة تلك أنضجتها حالة القمع المتواصلة، وحالة الوعي التي تعالت من مصدرين كبيرين، هما خرّيجي المعتقلات والجامعات المحلية، في حين أن الانتفاضة الحالية أنضجتها حالة الإحباط والغضب وممارسات الدولة العبرية التي لا تطاق.
وقد كشفت لنا هذه الانتفاضة، وبشكل صريح واضح أن عقليتنا عذرية تماماً، وأننا لم نستخلص العبر من الانتفاضة الكبيرة ، وأن الأخطاء تتكرر، وتُبهظنا بشكل مجانيّ، كأن الرعاة لم يروا الذئب إلا اليوم. ومما يعمّق الأسى والأسف، أيضاً، أن هذه الانتفاضة لديها من الأدوات ما لم يتوفّر لتلك الانتفاضة .. وبالرغم من كل هذا وذاك فإننا لم نوظّف هذه الأدوات كما يجب !!ومثالنا على ذلك وجود التقنيات المتطورة في عالم الإعلام والاتصالات، من فضائيات وبريد إلكتروني، وانتهاء بتكنولوجيا الأسلحة الدقيقة.
وبالرغم من عدم وجود وسيلة إعلامية سمعية أو مرئية فلسطينية في سنوات الانتفاضة تلك، وبالرغم من فرض منع الجول لمدة وصلت إلى ثلاثة أشهر متواصلة، على مدن وقرى كاملة، فإن الناس لم يُصابوا بحالة من الهلع، خوفاً من نقص المواد الغذائية او الماء او انقطاع الكهرباء أو مشتقات النفط.
وبالرغم من أن الاحتلال أغلق الجامعات والمدراس، وفتح سجوناً ومعتقلات جديدة، لتتسع لعشرات الآلاف من المعتقلين والأسرى، فإن الجامعات الفلسطينية كانت تؤدي رسالتها في غير مكان، وينتقل المحاضر مع طلبته، رغم الحواجز ومنع التجوال، من مكان إلى آخر، مثلما ظلت الجامعات البوابة الأولى التي تشتعل، ليكتمل الحريق المقدّس .. ويمتد من الجامعة إلى المسجد فالكنيسة والشارع والمخيم.
كان الشاب في الانتفاضة تلك يخجل من نفسه، ويتحاشى نظرات أهله وجيرانه، إذا لم يعتقل أو ينخرط في أتون المجابهة. وكانت المجالس جميعها تتغنى بالبطولات الجماعية، وتبحث عن دورها لتؤديه، كأنها برلمان صغير أو مجلس شورى للحارة أو البلدة، وكانوا يحرصون على الانتفاضة حرصهم على دماء أبنائهم وحياة فلذات أكبادهم التي تنزف تحت رعب الهراوات ومدافع الغاز والكلاب المسعورة والرصاص المجنون، في ساحات السجون والزنازين المرعبة!
لم تعرف الانتفاضة تلك أنْ تَمَايز جارٌ عن جاره، أو ضرب أحدهم دفّاً في عُرْس ابنه، ولم يخشع لشهادة ابن بلده! أو وضع أحدهم ربطة عنق يوم العيد، في حين تحوّلت المضافات والبيوت الثكلى إلى عناق حميم، وأيد تضع "ما تيسّر" في أياد أخرى.
لقد كانت تلك الانتفاضة إثباتاً ناصعاً على إمكانية تحقيق أحلام الجمهوريات المثالية أو اليوتوبيا، رغم الحالة الاستثنائية التي كان يعيش الناس تحت وطأتها، بل ربما ساعد وجود الاحتلال وتحدّيه، بتلك البسالة الجماعية المتواصلة، على سموّ الناس وارتفاعهم عن "عاديّتهم" واختراقهم الصورة الطبيعية المعتادة.

2- قلنا: لنبدأ من الطرقات التي تربط بين محافظات فلسطين، التي كانت آمنةً، نذرعها .. ونذهب ونعود، دون أن نخشى شيئاً! كان هذا خلال سنيّ الانتفاضة الأولى، التي ينبغي أن نسميها الكبرى أو الأم. وكان المستوطنون المتطرفون، الذين احتلوا ذُرى الجبال، وعبّروا، بدقة وبراعة، عن أنهم يستخلصون العبر، وأكدوا أن فوبيا مسّادا ما زالت فيهم ، هؤلاء المستوطنون كانوا لا يجرؤون على المرور بمركباتهم وسياراتهم، من تلك الطرقات. وأذكر مرةً أخرى، كان هذا إبّان الانتفاضة الكبرى.
أما اليوم، وخلال هذه الانتفاضة (الأقصى) أو الحرب.. سيّان! فإن المعادلة انقلبت مئة وثمانين درجة، فأصبح المستوطنون في أمان واطمئنان، وأصبحنا نحن الذين نرهب المرور بها أو قطعها .. حتى تكرّس السجن، وأصبح الفصل العنصري، أي إغلاق المدن والقرى، من قوات الاحتلال الإسرائيلي، فصلاً أكثر وحشيةً وعنصرية من "أبرتهايد" جنوب أفريقيا، وبذلك تفوّقت نابلس أو الخليل على سويتو ، وأصبح مانديلا الإفريقي آلافاً مؤلفة في باستيلات الاحتلال، الذي استطاع، وبجدارة عالية، أن يُعيد إنتاج أعتى أشكال القمع، على جلودنا وأرواحنا.
وكردّ شامل وحاسم، جاءت هذه الانتفاضة، التي نسمّيها انتفاضة الأقصى، على كل أشكال الاحتلال اليهودي في ظل ظروف مختلفة ،عن تلك التي أحاطت بالانتفاضة السابقة العميقة والواسعة ، الأمر الذي جعل الانتفاضة الجديدة هذه بمثابة حرب استقلال فلسطينية .. تتواصل وتبقى، حتى يحصل الفلسطينيون على أدنى حقوقهم الوطنية المتمثلة بالدولة والسيادة والقدس عاصمة لها، وعودة اللاجئين.
وبالرغم من أن الخطابات السياسية والإعلامية الصادرة عن الفلسطينيين، اتفقت على أهداف هذه الانتفاضة، إلى حدّ ما، فإن أحداً لم يعجم هذه الأهداف، ولم يفحص فيما إذا كانت هذه الانتفاضة تستطيع أن "تحمل" هذه الأهداف الكبيرة، نسبياً، أم لا! بمعنى هل من الحكمة أن يبقى خطابنا مُطلقاً كمطلب رئيس لهذه الانتفاضة، أم نحدد أهدافاً بعينها، حتى نستطيع أن ننجزها من خلال دم هذه الانتفاضة وعرقها وتضحياتها، مثل الاستيطان أو إعلان الدولة أو القدس أو اللاجئين، أو حتى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في أوسلو وما تبعها من اتفاقات!
وثمة اتفاق معلن، بين كل الفصائل الفلسطينية ، الوطنية والإسلامية ، على مواصلة هذه الانتفاضة ، ما فسح المجال لهذا التجلّي الملموس للوحدة الوطنية ، لكننا لم نلمس مسألتين : الأولى أن بعض الفصائل الفلسطينية لم تحسم أمرها كلياً للدخول في أتون هذه الانتفاضة ، إلا بمقدار ، تبريراً من هذه الفصائل الإسلامية ، بالتحديد ، أن هذه الانتفاضة جاءت لتحسين شروط المفاوضات ، وليس لكنس الاحتلال كُلياً ولعل ما برر موقف هذه الفصائل هو عدم التصريح الجازم من السلطة الوطنية بان هذه الانتفاضة ستتواصل حتى القدس والدولة والاستقلال وعودة اللاجئين ، الأمر الذي أوضح أن ثمة موقفين داخل السلطة : الأول من أتباع أن الانتفاضة أدت رسالتها وحَسّنت شروط تفاوضنا ، والثاني أن الانتفاضة يجب أن تتواصل حتى النهاية ، أي حتى الاستقلال والقدس والعودة . أما المسألة الثانية فهي غياب السلطة، نسبياً، عن ضبط بعض الأمور والسيطرة على كل الأذرع والإحداثيات.
ولعل أحداث الانتفاضة هذه كشفت ضعف ثلاثة عناوين في الساحة الفلسطينية، أولها وزارات السلطة، وثانيها الاقتصاد الوطني، والثالث المعارضة الفلسطينية، التي لم تثبت أن لديها استراتيجية كاملة، موازية لاستراتيجية، واجبة الوجود، لدى السلطة، وتحمل الإجابات المطلوبة عن كل الأسئلة. عدا غياب واضح لمعظم النقابات والاتحادات والمؤسسات الأهلية، التي لعبت في الانتفاضة الأولى دوراً مشرّفاً وعميقاً ومتقدماً.
وهنا لا أريد أن أشير إلى غياب بعض الأجهزة إلى حد كبير، خصوصاً أن حضورها الفاعل مطلوب الآن، أكثر من أي وقت مضى، حتى تقوم بحراسة الكوادر الفلسطينية التي تتم تصفيتها، وكذلك باعتقال الأصابع الخفية المزروعة للتخريب في صفوفنا، وكذلك دفع دماء جديدة لإنعاش العمليات الفدائية النوعية وتطويرها، هنا وهناك!
أما غياب الإعلام، فهذا ما يتحدث عنه الكثيرون، ولن أخوض في مياهه الواسعة! بالرغم من أن هذا الغياب يؤدي إلى سيطرة موقف الآخر إقليمياً وعالمياً، ويشيع الشائعات السوداء في صفوفنا، ويشكّل خطورة بالغة كحرب نفسية مسلطة علينا، في ظل غياب المعلومة الصحيحة والمستندة إلى المعطيات والوقائع، وبلسان مبين.


ولعل شباب "فتح"، وبلا مبالغة، هي التي تقود هذه الانتفاضة، ومن خلفها كل أبناء شعبنا وأطره وقواه .. ! رغم أن الاحتلال الإسرائيلي حاول أن يضرب هذه الحركة، من خلال الشائعات، وتصوير الأمور عكس ماهي عليه، حيث ادّعت الدولة العبرية، عبر مسؤوليها وأجهزتها الإعلامية، أن "التنظيم" هو الذي يقود الانتفاضة .. بمعنى أن السلطة الوطنية وحركة "فتح" بريئان من هذا التنظيم الذي يجب ضربه!!والذي يشكّل خطراً، ليس على إسرائيل فحسب، بل وعلى حركة "فتح" نفسها، من خلال "الانشقاق" وعدم الانضباط و"الخروج على تعاليم القيادة الفلسطينية"!!
وللحقيقة فإن هناك ثلاث قراءات داخل حركة "فتح" لهذه الانتفاضة: القراءة الأولى تتمثل في الرأي، سالف الذكر، الذي يقول إن الانتفاضة أدّت دورها، وحَسّنت شروطنا في التفاوض، ويجب أن تتوقف. ومبرر أصحاب هذه القراءة هوخوفهم على السلطة الوطنية، وحتى لا تقع "شيشان جديدة" إذا تفاقمت الأمور. أما القراءة الثانية فإنها تتمثل في مراقبة ما يجري، ومتابعة التفاعلات، واتّباع الخط الذي سينتصر ويغلب، دون أن يعترض أصحاب هذه القراءة الثالثة، المتمثلة في دعم الانتفاضة وتطويرها، حتى تحقق كامل أهدافها، من الدولة والاستقلال، حتى القدس عاصمةً وعودة اللاجئين!
هذه القراءات، وما جاء قبلها من قراءة، هو ما يفسّر لماذا بقيت الأعمال ضد قوات الاحتلال أعمالاً فردية! ولماذا نرى ثغرات، ونكوصاً هنا!
ولعل السلطة الوطنية الفلسطينية في وضع، أقل ما يوصف به، بأنه مضغوط! فالدول العربية والإسلامية، ورغم مؤتمرات القمة، فإنها لم تقدم أي دعم اقتصادي أو مالي أو سياسي نوعي أو جماهيري يذكر لتقوية السلطة ومدّها بأسباب الاندفاع والتقدم، بل إن الضغوطات السياسية التي تُمارس على السلطة ، بهدف عودتها إلى طاولة المفاوضات لم تتوقّف ، ناهيك عن ضغوطات أوروبا وباقي "الأصدقاء" في العالم.
لهذا، نجد السلطة الوطنية مضطرة لحضور أي اجتماع أو لقاء أو مؤتمر، حتى تؤكد، للمرة المليون، أنها لا تريد القمر أو المستحيل، بل حماية شعبها، ودرء الموت عنه، وتطبيق الاتفاقات، وتسوية تاريخية مقبولة! أمّا ما يثقل الضغوط ويزيدها على السلطة الوطنية، عدا الحياد العربي السلبي، هو الوضع الاقتصادي المتردي للشعب الفلسطيني، وانغلاق آفاق الحل بسبب موقف الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها المطلق للحكومة داخل الدولة العبرية، إضافة إلى أن أوروبا واليابان وروسيا وغيرها لم ترتق إلى مستوى تصبح فيه شريكاً يركن إليه، أو قوة يعوّل عليها، بل أثبتت الأيام أنها دول تتبع مصالحها، أو مسُتلبة لصالح وحيدة القرن أمريكا!
لهذا أعتقد أن لا خيار أمامنا، نحن الفلسطينيين، إلا الاستمرار في هذه الانتفاضة حتى النهاية. وعليه، ينبغي أن نحدد خطابنا ونعلنه واضحاً لا لبس فيه، وأن نعيد توظيف أوراقنا وإطلاق قدراتنا المعطلة واستنفارها ، وأن نبحث عن آليات إضافية ، ونطوّر الأساليب النافذة المؤثرة ، في مواجهتنا للاحتلال وعدوانه الدموي، وأن ننتظم جميعنا في الناظم الوطني الذهبي ، على قاعة أن الجميع في مواجهة الاحتلال، سلطةٌ وفصائل وجماهير ، وأن نبتعد عن كل ما يثبّط عزائمنا واندفاعنا المقدس ، وأعني اللقاءات التي "لا و لا تنفع " من اللقاءات الأمنية إلى اللقاءات التفاوضية .. لا لشيء إلا لأن لسان مسؤولي الدولة اليهودية ما فتئوا يؤكدون أن هدفهم من هذه الاجتماعات هو وقف العنف والإرهاب " الفلسطيني، أو تقديم صورة أكثر "مكياجاً" مما تم تقديمه في كامب ديفيد مؤخراً، ولكن على حساب تأجيل قضايا حيوية ومصيرية شديدة الخطورة والأهمية، فهل نضيّع المزيد من الوقت فيما هو غير مفيد، في حين تنتظرنا قضايا حيوية ومصيرية شديدة الخطورة والأهمية، ، فهل نضيّع المزيد من الوقت فيما هو غير مفيد، في حين تنتظرنا قضايا بحاجة إلى كل ثانية وانتباهه وتفكير نصرفها فيما هو أكثر جدوى وفائدة، وأعني كيف نطوّر الانتفاضة .. لتبقى ؟!
(مقطع من شهادتي عن انتفاضة الأقصى في العام 2002)