الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

فرنسا الهائمة أمام المفترق: مسافة يوم وسنرى!!

نشر بتاريخ: 22/04/2017 ( آخر تحديث: 22/04/2017 الساعة: 23:01 )

الكاتب: د. محمد نعيم فرحات

خرجت فرنسا من الحرب العالمية الثانية مثخنة بالدمار والأزمات والمهانة، لكن زعامة شارل ديغول ومقاربته التي استندت إلى جوانب معينة في الروح الفرنسية أكثر مما استندت إلى قدرات مادية ملموسة ، تمكنت من وضع فرنسا على خارطة نفسها وعلى خارطة أوروبا والعالم كقوة سياسية حاضرة صاحبة دور وشأن.
وفي سياق مقاربة ديغول اشتغلت قيمتين أساسيتين، الأولى قيمة المسؤولية العقلانية إلى حّد ما في إعادة إنتاج فرنسا لنفسها وفي ممارسة الدور والبحث عن الأقدار،. أما الثانية فقد تمثلت في استعادة قيمة الاختلاف باعتبارها إحدى أهم القيم المؤسسة والمكونة للوعي الفرنسي ومن مقتنياته الثمينة.
لقد أثمر اشتغال هاتين القيمتين أوضاعا وعوائد كثيرة في حياة فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية ، تمثلت فيما تمثلت في تبلور حس سياسي ثقافي فرنسي انفتح نحو ألمانيا فشكل النواة الأولى لما بات يعرف بالاتحاد الأوروبي، وتأكيد مبكر على فكرة الفضاء المتوسطي - الاوراسي وهي فكرة تدين في بلورتها لوعي ديغول وضعت روسيا وارو ربا ومجتمعات حوض المتوسط في مدار الرهانات المرتبطة بجغرافيا سياسية ثقافية تاريخية أساسية في حياة العالم وفي توازنه تأملت في وقت مبكر بحضور صيني عظيم قادم. كما ترتب عنها انتهاج فرنسا لسياسة خارجية متمايزة وتوجها دفاعيا خارج نطاق الحلف الأطلسي. وفهم هذا الخيارات وغيرها غير ممكن بدون استحضار نزعة عميقة للتمايز عن النزعة الانجلو سكسونية التي كانت تكشر عن أنيابها لاكتساح العالم كانت تقيم في اعماق وعي شارل ديغول.

انتهت حقبة ديغول وجمهوريته بعد أن حققت لفرنسا معطيات جيدة في أغلب المستويات، وقد واصل جورج بومبيدو وفالري جيكاردستان الموجة الديغولية ما استطاعوا لذلك سبيلا، وسط عالم كانت أوضاعه تزداد شراسة وتعقيدا، إلى أن صعد لحكم فرنسا خصم ديغول الشخصي والإيديولوجي والسياسي فرانسوا ميتران لولايتين متواصلتين، كان ابرز ما فيها أن ميتران في خيارات السياسة الخارجية كان آخر الديغوليين.

***
بعد فرانسوا ميتران قام وارثوا الديغولية والميترانية بخيانة الاثنين معا ، وجراء ذلك كانت فرنسا تخسر معنويا وعمليا على يدي الثلاثي: جاك شيراك وساركوزي وهولاند .ودخلت في مسار من فساد النخب وغياب الرؤى الكبيرة والتوتر الثقافي والروحي وفقدان الطابع وضياع لمكانة فرنسا وتأكل ضار في صورتها. وقد كانت مواقف فرنسا بشأن قضايا منطقة الشرق الأوسط أحد أهم المؤشرات على ذلك.

في لحظة مركبة وحساسة تعيشها فرنسا وأوربا والعالم برمته يذهب الفرنسيون نحو استحقاق الانتخابات الرئاسية. لحظة تشهد فيها فرنسا تصدعا ثقافيا ونفسيا وسياسيا تغيب فيه الزعامات الملهمة التي يمكن عقد الرهان عليها. ويقف مشروع الاتحاد الأوروبي باعتباره فكرة فرنسية ألمانية في الأساس امام تصدعات جدية . وعالم يشهد معارك متعددة في كل الصعد يلحظ فيه ضمور واندحار استراتيجي للعالم الانجلو سكسوني يجر خلفه بالقوة بحكم الخيارات والتبعية ، العالم الفرانكفوني . فيما يصعد القطب الروسي الصيني وحلفائه الإقليميين نحو بناء عالم متعدد الأقطاب وأكثر توازنا وسلما وتلبية لمصالح وحقوق الشعوب. عالم تتم صياغة معطياته بعقل امبرطوري بارد لكنه صارم ومصمم يتولها بوتين وحلفه ، ولاعبين إقليميين صبورين لكنهم وصلوا كل نقاط اللا عودة نحو الاندحار.

***
من سوء حظ فرنسا أنها تذهب نحو الانتخابات بمرشحين ينقص كل واحد منهم شيء جوهري ما في رؤيته وفي شخصه ، غير أن ممكنات اللعبة السياسية ستفضي بواحد منهم رئيسا لها ، رئيس سيقف بالقوة إزاء أمرين، إما استنقاذ صعب لمكانة فرنسا مع ما يتطلبه ذلك من شروط لملاقاة توقعات الدور بطريقة مناسبة وبناءة . وإما المضي في تيه جديد .
ومن بين العوامل التي ستلعب دورا في تحديد أقدار فرنسا وخياراتها الوشيكة يفترض التوقف عند أمرين ، الأول عمل اللوبيات والنخب والهياكل والقوى المنظمة في المجتمع السياسي والدولة العميقة وكيف ترى مصالحها وارتباطاتها من جهة،والثاني هو كيفية اشتغال الوعي الفردي والجمعي عند جمهور الناخبين الفرنسيين ممن هم خارج تأثير الأحزاب والقوى السياسية في لحظة حرجة وحساسة وغير مسبوقة على هذا النحو منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل.
في كل الأحوال فإن عودة فرنسا إلى نفسها والى إنسانيتها وخصائصها الايجابية، ومقاربة عقلانية تجعل منها طرف وازن وشريك معتبر في صياغة العالم الراهن ،هي حاجة فرنسية وأوروبية وكونية أيضا تلقي بأعبائها في وجه الفرنسيين نخبا وعامة، مسافة يوم وسنرى.
• كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين مهتم بالشأن الفرنسي