الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

أبيع نفسي

نشر بتاريخ: 28/05/2017 ( آخر تحديث: 28/05/2017 الساعة: 19:21 )

الكاتب: هبة محمد العزة

أنا فتاة اسكن بمكان غريب ومجهول الهوية، لم يكن خيار المكان بإرادتي أن أقضي حياتي باحثة عن وطن في المنفى، لم يكن بإرادتي أن اكون جزء من مجتمع لا يتجاوز اتجاهاته أكثر من حجم بلاطة ملصقة على الأرض، لم ادرك يوماً أني أعيش بأوهام نسخت بذاكرتي دون أن ابحث عن تفسير تلك الأوهام، أو إن كنت ما احمل بداخلي من حكايات توصف بها روعة المكان والأحساس بالواقع التي أعيشه هو شيء حقيقي أو يحمل بين طياته شيء من أكاذيب لم اتحقق منها، عيشت متوهمة بكل ما يدور حولي ومتقبلة تلك القيود التي خلقت وهي بيدي، ومتسلسلة حول رأسي، لم افكر بهذا الأمر أو لم يكن يزعجني، فلم افكر في ذلك الوقت بأي شيء غير معتاد على رؤيته أو سماعه أو الحديث فيه.

لم يخطر ببالي يوم أن اخالف القوانيين التي جعلت خطواتي لا تتجاوز على الأرض أكثر من حجم تلك البلاطة، لأني كنت مجبرة على العيش محصورة بين أزقة ذلك المكان، الذي لم أرى به نور الشمس غير بين سطور الروايات، ولم اشاهد به ضوء القمر غير بمخيلتي من وراء حكايات أمي التي حدثتني كثيراً عن حياة جميلة ومفعمة بالأمل، وأن حياتي ستكون أجمل حين أكبر، وستكون أمي سعيدة لو كبرت وأنا بجانبها الآن وتراني وأنا أحقق احلامها، نعم أحلام أمي التي أخبرتني عنها وأنا طفلة لا اتجاوز الخمس سنوات وبيدي لعبة نسميها (عروسة)، وهي اللعبة المفضلة لدي، أو لم اكن ادرك إن كانت مفضلة أو هناك أحد اختار لي ما هو مفضل لدي، والآن كبرت ولم يعد بين يداي سوى لعبة الحياة والقدر.

بالبداية حين كنت أفكر بجنة أمي كانت ابتسامتي لا تفارقني، ما أجمل بساطة الحياة التي يكون فيها كل شيء وردياً، فأمي كان أكبر أحلامها هي أن تراني سعيدة، في ذلك الوقت لم اسأل نفسي ما معنى السعادة؟، لأني وثقت بكلام أمي حين أخبرتني أن سعادتي حين أكبر سيكون عندما يصبح لي زوجاً وبيتاً وأطفال اخبرهم كل حكايا أمي بالصغر!، ولكن حين كبرت وجدتَ أن السعادة التي سأحققها من جنة أمي هي جزء من مفهوم السعادة التي ابحث عنها، وذلك لأن أمي كانت بسيطة جداً، أو ربما كانت مثلي غرها أحاديث والدتها عن الجنة التي تنتظرها حين تبني مملكة في بيتها ومع ابنائها، ولكن ما الذي سيدفعني لجعل أحلامي لا تتجاوز تلك البلاطة الملصقة على الأرض؟، هل رضى أمي؟، أم خوفي من أن لا احقق رغبة أمي وحلمها؟، أم خوفي من غضب مَنْ فرضوا القيود وجعلوني حائرة ما بين تغيير المكان أو أبقى طيلة حياتي ابني مملكتي في ذلك المكان الضيق؟، فإن تحقيق حلم أمي بالنسبة لي يحتاج مساحة أكبر لبناء مملكة تحقق لي السعادة التي أريدها!!.

بقيت في هذه الدوامة من لحظة اتجه تفكيري بتحقيق ذلك الحلم بمكان غير ضيق ادفن حياتي فيه، فتوجهت بدايةٌ ابحث عن حقيقة حكاية رغيف الخبز، وغباء قوم لم يستطع إخراج يد فتاة صغيرة من مرتبان الحلوى، وحكاية العروسة التي أرادوا أن يقطعوا رأسها لأنها لا تستطيع الدخول بالجمل، فتلك الحكايات كحكاية الاخطبوط التي جعلت عجوزاً يقضي حياته وهو مصدق أن الاخطبوط حجمه يتجاوز حجم مبنى كبير، ويبكي بأخر حياته لأنه علم حقيقة الأمر دون أن يتحقق بحياته من أي رواية كان يصدقها، لأن أمي وأبي وجدتي وجدي هم الأشخاص الوحيدون الذين يبقى كلامهم ثقة، وحكاياتهم دستور سيرافقني أينما ذهبت، فلولا تلك البركات والمغزى من هذه القصص والروايات لما كنت تعلمت الآن بالجامعة وسيرت نحو تحقيق الكثير بالعلم من أجل هدف واحد، لذلك لم اشك برواية أمي لأن صورتي بها لا تهتز بمخيلة أي أحد منا، ولا أبي التي تشققت يداه من تعب الحياة وتوفير لقمة العيش، ولا تجاعيد وجه جدي، وما اكهله الزمن من وجه جدتي التي تبان تفاصيله على وجهها، فلن اخدش يوم خبرتها بالحياة ولا عزمها واصرارها على العيش في بناء مملكة مكونة من زوج سعيد وابناء، فهؤلاء أشخاص ثقتي بهم أكبر من ثقتي بنفسي، فكيف لا أخذ بنصيحة جدي أو بنصائح أمي عبر تلك الحكايات، وبقيت تلك الحكايات محفورة ومخبئة بين طيات الذاكرة أخبرها للأجيال القادمة.

وحين مرت الأيام و كبرت لم أجد أمي، رحلت ولم ارث منها سوى حكاياتها وحلمها بأن تراني سعيدة، تركت لي كلماتها بين تلك الروايات مدركة أني سأحفظها بذاكرتي لاتذكرها كلما اقتربت من تحقيق الحلم، رحلت أمي وجدتي وورحل جدي وأبي بعيداً جداً، وأخبروني عن كل شيء في الحياة، وكل قصصهم كانت تدفعني أن لا ابيع نفسي، ولكن ادركت أن رحيلهم مع بقاء هذا الارث من الحكايات لم يعلمني شيئاً!!، تركوني وحيدة اصارع غربة المكان، اخبروني كل الروايات ولم يخبروني كيف أعيش؟ كيف اواجه؟ كيف أكون؟ كيف احمي نفسي؟ كيف اكتب روايات جديدة اعلمها لابنائي، لم يعلموني شيئاً عن هذه الحياة! لم يخبروني أني احتاج الكثير من القوة على مواجهة الظروف القاسية! لم يقولوا لي أني سأتعب كثيراً لأجني لقمة العيش ورغيف الخبز! ولم يمنحوني من القوة ما تكفي لأصارع الآلم بين سكرات الموت! ولم يخبروني أني ابقى أنثى ضعيفة ستكسرني الحياة لكي احصل على حقي في التعليم وحقي في العيش بكرامة! لم يعلموني كيف اكون الأنثى الرجل في آن واحد! تركوني أجهل الواقع وعيشت بالجهل كمغزى تلك الحكايات التي صدقتها إلى حين واجهت حقيقة الأمر، تفتحت كالزهور بين زخات من الآلم والمرض والجهل الذي كان يسكن أحشائي في ذلك الوقت.

تركت كل شيئ خلفي وانطلقت مخالفة كل قوانين الحياة التي حاولوا أن يقيدوني بها ورحلت بعيداً، رحلت كالفراشة باحثة عن وطن بعيد عن المنفى، عن وطن يخبرني كيف أصبح حراً!! وعلمت أن للحرية ثمن أغلى من حياتي!، وأن البحث عن هذه الحرية ممكن أن تكلفني حياتي من أجل أن التقط أنفاسي الأخيرة بحرية.

وبقيت متمسكة بأن احصل على حريتي على أن اموت أسيرة تلك القيود التي تخنقني بسبب تلك الثقافات والروايات وثقتي بأجدادي التي لا تهتز أبداً، فهذه الثقة سرقت مني أغلى ما املك، فهي لم تمنحني حريتي سوى للحظات الأولى من حياتي، ولكن سرقوها مني حين اختاروا لي اسماً ربما يعجبني وربما لا، وحين قرروا ديانتي، وحين منحوني هوية بلا وطن التصق عليها اسمي المزيف، فكل من حولي دوماً يدفعني أن أبيع نفسي لتلك الأوهام ولذلك الوطن ولتلك الروايات و لحلم أمي.

وبعد كل هذا كيف بعدما رحلتُ بعيداً عن ذلك المنفى أن أعود ثانية له بعد أن أجد وطناً أعيش به حرة لا يجبرني على أن أعيش على تلك البلاطة الضيقة، ولن يجبرني على أن أصدق حكاية رغيف الخبز، ولا يمنعني من أن تهتز صورة أمي بتلك الذاكرة، فحين تريد أن تبحث عن حريتك يجب أن تمتلك عقلك بالبداية، ويجب أن تتعلم كيف تهز صورة أمك من الذاكرة كي لا يضطر بك الزمن أو يدفعك على أن تبيع نفسك ....!!