السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الحرب السّوريّة- العالميّة... والإنفجار الحضاريّ الشّامل

نشر بتاريخ: 11/07/2017 ( آخر تحديث: 11/07/2017 الساعة: 12:22 )

الكاتب: د. بهجت سليمان

احتلّت الحرب السّوريّة " مكانتها " في قلقِ الحضارة المعاصرة كحدثٍ تاريخيّ "سياسيّ" و " ثقافيّ " و " اجتماعيّ " جذريّ، على مستوى المنطقة و العالم، أسَّّسَ و سيؤسّس لقطع تاريخيّ مُتكرّر المعطيات، و ربّما متكرّر التّواتر و التّوتّر، إلى حينٍ تستقرّ فيه نتائج تلك المعطيات في صلب هذا العالم الذي يعود، غالباً، إلى التّشكّل الدّوريّ تحت فرض درجة و طبيعة التّناقضات التي تخلقها "الثّقافات" و "الحاجات" الإنسانيّة العالميّة، فإذا بها تُنتج فيها معوّقاتها التي تغدو حاجزاً تاريخيّاً يمنع المجتمعات و الشّعوب من التّقدّم الموضوعيّ المفروض بقوّة العلم كما بقوّة الغيب. الاجتماع و السّياسة خليطٌ من الأفعال المقصودة الهادفة و من الأفعال التي تكمنُ وراءها كدافع طبيعيّ.
و ليس بعيداً عن هذا - مع اختلاف البعض معنا و اختلافنا معهم.. - ما كان وراء قولة ( ماركس ) الشّهيرة : "
[ إنّ الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم ، لكنهم لا يصنعونه علي هواهم ، بل يصنعونه في ظروف موجّهة ومحدّدة ومنقولة لهم من الماضي . إنّ تاريخ جميع الأجيال الغابرة ، يجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء . ]
أمّا ما يجعلنا ننظر إلى هذه الحرب بهذا الحجم التّاريخيّ، فهو سبب كبير متعلّق بما تمثّله سورية من مصنع للتشكيلات الثّقافيّة- الاجتماعيّة عبر التّاريخ المكتوب، على الأقلّ. يتراوح اتّفاق المنقّبين على هذه الواقعة في تاريخ هذه الحضارة الإنسانيّة المعاصرة و المعروفة، فيما بين أربعة إلى خمسة آلاف من السّنين الماضية؛ و هو زمن اختراع، أو اكتشاف، أوّل كتابة ما قبل أبجديّة ( المِسْمَارِيّة ).
في قلب حضارة العالم يغدو توتّرُ الكثافة انحباساً للطّاقة الإنسانيّة ، يتناضدُ سلبيّاً عندما تفوته فرصة التّوزع المناسب في فضاءات العمل العادل و الحاجات..
و عندها تصبح الحاجات المتنوعّة جوعاً يحتاجُ إلى إطفاءٍ اعتقاديّ أو عقائديّ مسلّحٍ بالأدواتِ.. يلتهم حريقه، أول ما يلتهم، مركز الطّاقة السّلبيّة أو المُستلبة، و يمتدُ فيما بعد إلى ما يجاوز المحرق لينتشر كأيّ تدمير من المركز إلى الأطراف.
من الضّروريّ رصد هذه الظاهرة الشّاملة التي تُسمّى الحرب، كما يعيشها عالمنا المعاصر، اليوم، بما هي أكثر من واقعة تاريخيّة فردة، و على نحو أكبر و أعمّ في الزّمان و المكان.
ربّما أوحى الحدث التاريخيّ السّوري في بداياته و في مقاطعه الكبرى أيضاً للكثيرين بأنه مجرّد قطع ثقافيّ أو سياسيّ مع الماضي أو مع المستقبل أيضاً نظراً لتناقضاته الشّديدة و شعاراته المُلتبسة و نتائجه المعقّدة و مستقبله في الانتشار.
لقد غدا واضحاً اليوم اتّجاه الحرب ، من جهة أنّها لن يحدّها زمانٌ أو مكان.. ! و هذا هو ما سوف نبحث فيه في هذه الكلمات باختزال.
نحن عندما نرفض أن نفهم الذي يجري على أنّه قطع سياسيّ مع الدّولة الوطنيّة السّوريّة، فذلك لأننا، و رغم محاولتنا، لم نشهد مؤشّراً واحداً للحرب يتّجه إلى مغزى الحرّيّة أو التّقدّم أو مسايرة التّاريخ. ،
و نحن عندما، أيضاً، لا نعثر على ما يوحي بالقطع الثّقافيّ، فذلك لأنّ ما يجري من جزئيّاتٍ و كلّيّات لا يتجاوز أن يكون اعتداءً على الثّقافة الإنسانيّة و إرثها المحلّيّ ..
و لأنّنا لم نعاصر انتقالاً أو اتّجاهات انتقال من أدنى إلى أعلى فذلك ما نفسّره بالعودة الدّونيّة للأخلاق الاجتماعيّة الشّاملة، و الانحطاط القيميّ العام، و بخاصّة في مظاهر عامّة يشكو منها الآن الجميع.
ليس القطع التمثّليّ أو الامتثاليّ التّاريخيّ، إذاً، ما يكمن في دوافع هذه الحرب اجتماعيّاً و عالميّاً، أو أنّها كما يُهرّجون و يُخادعون تلبيةً لمطالب اجتماعيّة و سياسيّة و إنسانيّة حالّة من أشكال و حالات الدّيموقراطيّة و مشتقّاتها التّصنيفيّة، و إنّما هي، في الواقع، تحتاج إلى تفسيراتٍ أخرى و قراءة مختلفة عن قراءات القوالب الجاهزة و النّمطيّات المنظوميّة الثّقافيّة المكرورة و المجترّة إلى أقصى النّفاد.
و سوف نرى كيف ستترتّب النّتائج التي تلوح منذ الآن في العالم، على أساس قراة خاصّة لما هي عليه، في الحقيقة، خلفيّات و آفاق هذه الحرب.
يُعرّف " القطع " مع الماضي أو " الانقطاع " التّاريخي بمجموعة من المقاربات المعرفيّة، هذا إذا اعتبرنا بأنّ دلالته الّلغوية متاحة فعلاً للجميع مع تجنّب أو استبعاد إمكانيّة التهوّر أو التّعسّف في إدراك الدّلالة.
فالقطع ليس عداءً للماضي و انتقاماً منه أو ثأراً كيديّاً، و إنّما ضرورة لتجاوز الرّكود و المراوحة و الجمود و الاضمحلال و التّردّد و الخنوع.
فالقطع أو الانقطاع الإيقاعيّ عن التراتبيّة السلبيّة الزمنيّة أو التاريخيّة و التي أنضجت فيها، هي نفسها، معاملات انزياحها و انهدامها التناضديّ، هي حالة غير ارتداديّة و لا تقبل العكس تحت أيّ ظرف أو تأثير أو دوافع كامنة في ملاجئ حاضنة لما هو أسوأ ما فيها ..
كما هو الأمر حاصل، اليوم، في هذه الرّدة الاجتماعيّة الزّمنيّة التي أنتجتها الحرب و التي تعتدي حتّى على تطور التّاريخ تطوّراً سلساً أو تراتبيّاً خطيّاً كما يمكن أن يتوقع علم الإحصاء الاجتماعيّ الكلاسيكيّ.
و التّطوّر الذي "لا يرتدّ على عَقِبَيْهِ" ( وفق تعبير فوكو، في "حفريات المعرفة") كانقطاع مع الثّوابت الضّامنة لاستدامة التّقاليد و القيود التي شُخصت فكريّاً ، كموانع تَحُول دون تلبّية حاجات المَورِ المضطرب النّازع إلى التّحطيم ، هو تطوّر غير خطّي، بمعنى أنّ أهمّ ما يُميّزه هو عدم إخلاصه إلي أيّ من ثوابت الّلحظة التي انقلب عليها.
وواضح جيّداً هذا التّغاير المطلق ما بين هذا القطع " الضّروري " و بين ما أسسّتْ عليه هذه الانقلابيّة العنفيّة في سورية من تعاضدّ مع أسوأ ما في الّلحظة السّياسيّة التاريخيّة السّوريّة من أمراضٍ و كوابح اجتماعيّة و انفصاليّة كانت أن شكّلت أسباباً جوهريّة في هذا الاصطراع و اعتمدت في حيّزها المطلق على كلّ ما فيه من دعائم تحافظ على تشوّهات الانتماء و إعادة تأصيل ربطه مع الجاهليّة القبليّة الاجتماعيّة الدّينيّة و الثقافيّة و السّياسيّة، ذات المعطيات الجرميّة الآبدة.
وبدلاً من تعبير " الإنقطاع " على تحول " إبستميّ" ( و هذا هو جوهره، في الحقيقة ) يحمل روحاً معرفيّاً و علمياً شاملاً قَيِّماً و عظيماً، في الفكر و الفلسفة و السّياسة و الأدب و الفنّو القانون و الاقتصاد و البيولوجيا و سائر العلوم التطبيقيّة الأخرى، للحلول مكان "نظام معرفي" قديمٍ أصبح مانعاً من تلبية الحاجات المختلفة للمجتمع و خانقاً له دون تنفّس هواء التّغيير العقلانيّ ..
فإنّ الحَراك السّياسيّ الرّاديكاليّ السّوريّ- على العكس- جعل من "سيستامات" و ديناميّات ماضويّة و صنميّة تتقدّم شارات و شعارات القطيعيّة التي استجابت لهذه " النّظاميّات " الجامدة و شرائعها المجرمة بخرافيّتها الفتوَوِيَّة ، و جعلتها قواعد مستحدثة و محدَّثَة عبّرت عن روح غولٍ كهفيّ مثقف بالأدوات القاتلة خلقته من جديد و حسّنت من مواصفاته الخاملة و أعادت تحديثَ نظامه النّظريّ و العمليّ و أطلقته للقضاء على كلّ ما يمتّ إلى العلوم و المعرفة المعاصرة بصلة من قريب أو بعيد.
وفي الوقت الذي بدأت في سورية نهضة شاملة ، طمحت بواسطتها إلى معاصرة أفضل ما توصّل إليه العقل العمليّ العالميّ باستثمارها المعطيات النّظريّة للتّقدم العلميّ و التّكنولوجيّ المعاصر، في انبتاتٍ مع "المُحافظة" المفروضة عليها، تقليديّاً، بحكم موقعها القوميّ العربيّ و ظروف و متطلّبات هذا الالتزام و معطياته الكابحة و متطلّبات الدّفاع المُمضّة مع عدوّ متقدّم و متطوّر و محظيّ في العالم؛ شكّلت الرّدة "الوطنيّة" و "العربيّة"بالنّسبة إليها مناسبة من مناسبات الدّوران حول الذّات ، دورة ذات قُطُر تاريخيّ و زمنيّ كبير ، عادَ بالدّولة و بمنظومات المجتمع المختلفة عهداً طويلاً إلى الوراء.
بالمطلق نحن غير قادرين، في هذه العُجالات الموسّعة نسبيّاً و التي نقوم فيها بالإضاءةَ على شؤون الحرب، المُظلمة، أن نُحيط بكلّ تفاصيل المشهد النّكوصيّ الذي تبدو فيه سورية،اليوم؛ غير أنّنا نمهّد لنقول إنّ ما سمّي "ثورة" إنّما هو، كما يتّضح لكلّ تفكير عادل، تعميقٌ للرذائل السّياسيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الثّقافيّة و الأخلاقيّة التي كان على سورية، فعلاً، أن تقطع معها قطعاً تاريخيّاً عموديّاً في انقلاب حضاريّ على أسباب التّخلّف. ما أقوله يعني أنّنا في الحقيقة أمام انفجار كبير و مدمّر للعقلانيّة السّوريّة، و هذا أمرٌ لنا فيه قول آخرُ أيضاً.
يعبُرُ زمانُ الحرب تشكيلةً عالميّة من البنائيّات التّاريخيّة التّحتيّة و الفوقيّة، على رغم أنّ ما يُسمّى بالتّشكيلة الاجتماعيّة- الاقتصاديّة- السّياسيّة هو زمنٌ يُقاسُ بالمسافات التّاريخيّة المديدة. و لكنّ عصراً منفرداً بالمعايير الثّقافيّة، استطاعتْ أن تقطعه هذه الحرب، من جهةِ ما تناولتهُ من أسس و جذور و حقول عالميّة في الاقتصاد و السّياسة و فيما يتأسّس عليهما تأسيساً مباشراً أو غير مباشر.
لم تعد سورية كجغرافيا سياسيّة هي الإطار الذي تتفاعل فيه هذه الحرب، مع أنّها ( سورية ) هي "المناسبة" الدّالة في منظومة هذا الحدث الكبير.
انطلقنا في حديثنا من أنّ سورية قد أسسّتْ لحضارة العالم المعاصر بجميع ثقافاته الجامعة.. في اللغة و الأبجديّة و القانون و الأخلاق و التّجارة و السّياسة و الأديان ، و بذور التّفكير الفلسفيّ الذي مهّدت له "تأمّلات" من طبيعة دينيّة ( أوتولوجيّة ) و أسطوريّة ( ميثولوجيّة ) كانت لها سورية، بثقافاتها المتطوّرة، مركزاً عقليّاً إنسانيّاً وصلت أصداءُ طيفها إلى اليونان و روما القديمتين، و الذي صاقب ثم عاصر حلول الأديان السّماويّة.
بعدها تداخلت أديان السّماء مع منجزات الحضارة، فكانت سورية مهداً لنزولها و مركزاً لانطلاقتها إلى كافّة أصقاع الأرض بفضل عوامل الانتشار المعروفة.
و فيما نأخذ هذا و ذلك بعين الاعتبار ، علينا أن نتوقّع أنّ ما فعلته الحرب سيكون ناجزاً انفجاريّاً لمركز حضارة العالم في قلب الشام التاريخيّة، الأمر الذي سيترك أثره في تداعياته الارتطاميّة للوجدان العالميّ بما يجعل انتشار الأثر انتشاراً قسريّاً و عنفيّاً ، يهدّد جميع العالم بنتائجه الكارثيّة التي بدأنا نلحظها أو نلاحظها في الاصطفافات العالميّة الجديدة و الوعي الإنسانيّ التّابع لذلك ، في تحرّك و تداخل و تفاعل الأثر في تجلّياته المباشرة في مفاهيم السّياسة العالميّة المعاصرة و التّوزيع الجبروتي لرأس المال الاحتكاريّ و اقتصاديّاته النّيو- كولونياليّة، كما في تجلّياته الانتثاريّة التي بدأت تظهر، فيما ستتعمّق، بالضّرورة، على الأنساق "الثقافيّة" بكامل صروفها من أدب دينيّ عنفيّ مرافق و فنون مُلحقة بالّلحظة الزّمنيّة و امتداداتها الانتشاريّة، و انزياحات فكريّة جديدة و تسويغات دلاليّة لهذا و ذاك ، تصيب و ستصيب أعماق الدّوافع الفكريّة و الحوافز الاجتماعيّة و الجمعيّة، وما سوف يرافق كلّ ذلك من استثمارات سياسيّة مناسبة و مواكبة لهذا الانهدام التّاريخيّ العالميّ.
نحن نواجه، اليوم، وسنواجه أكثرَ، النّتائج الأخرى للحرب السّوريّة العالميّة، هذه النّتائج التي تنقسم بالفعل الإنسانيّ ، إلى نتائج متوقّعة و أخرى غير متوقّع .. وهذا هو الخطر الجديد الواقع على كلّ العالم بحضارته المشتركة و ثقافاته المتعدّدة.
لقد بدأت المظاهر المؤسّسة لذلك الانفجار الحضاريّ، كأسبابٍ لا يفهمها معظمُ البشر، تترتّببدءاً من الجغرافيا و التاريخ و المعتقد و الثوابت المحلّيّة التي كانت نموذجاً حضاريّاً للشّرق، بالمعنى التّقديسيّ الجاذب لجميع أحاسيس و أحلام و مشاعر الإنسانيّة في العالم، و مروراً بالسّياسة الانقساميّة و الانفصاليّة العالميّة ما بين الكتل المتعدّدة - و لو أنّها توحي بالاتّفاق و الانسجام.. !- و نهايةَ بالمستقبل القريب المنظور إعادة توزيع الدّيموغرافيا العالميّة و حقنها بالمسرطنات الثّقافيّة " الدّينيّة " و غيرها، سعياً إلى إخضاع الحضارة العالميّة إخضاعاً عنيفاً لم تُحققه العُنفيّة الإنسانيّة منذ أحلام روما الإمبراطوريّة المُحاربة ، و حتّى قبل حين وجيز.. !!؟
ما جرى ويجري في سورية، ويستمرّ وينتشر في العالم .. هو حلمٌ قديمٌ للقوّة العالميّة بمركزيّتها الجامدة، جرى اليوم فرضه بالعنف.. !
نقول عادةً إن الثّقافة قصيرة النّظر، بل و تابعة تسويغيّة و تبريريّة أو تقديسيّة تكرّس الحدث. و لكنّنا سنضيف أكثر في أن نقول إنّ الثّقافة ذاتها، بكل مشتملاتها المفهومة.. كانت عاملاً مساعداً في الحرب السوريّة - العالميّة لتبديد الدّلالة المعرفيّة التي أنتجها العقل الإنسانيّ الحرّ ، في رحلته في البحث الافتراضي المُلهَم عن الغاية الكونيّة في جزئيّتها البشريّة.
يحصل في هذه الّلحظة التّاريخيّة، إعادة إنتاج لمضادّات الحضارة العالميّة. ولكن ألم يكن هذا بالضّبط هو الحلم التّاريخيّ- السّياسيّ للفكرة المستمرّة حول التّدمير الشّامل للمظاهر المدنيّة في الحضارة الأرضيّة بأسلحة معروفة و غير معروفة؟
من الطّبيعيّ أن الفهم سينقسم على الجواب. ولكنّه من الواقعيّ والعقلانيّ أن يصطدم الجواب بالنّفي، بكلّ تفاصيل هذه الكبوة الحضاريّة التي أصابت سورية والعالم المعاصر!
هذا ليس رأياً وإنّما قراءة ورؤية قد تبعث على الأسف، ولكنّها تبعث أكثرَ على الدّعوة الأكيدة إلى التّفكير من جديد وعلى أساسٍ مختلف.. أيضاً.