الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

"العِلمُ الخردة".. عِلمُ من لا علم له

نشر بتاريخ: 12/08/2017 ( آخر تحديث: 12/08/2017 الساعة: 22:57 )

الكاتب: د.نادر صالحة

أراد الزعيم النازي ادولف هتلر أن يلقي خطاباً للعالم لمناسبة يوم الزحف المهيب الى موسكو يملؤ به الآفاق، فأمر مستشاريه بنبش كتب السماء والارض والفلسفة والشعر بحثاً عن أقوى وأجمل وأفخم عبارة يفتتح بها خطابه الهائل للعالم. فدلهم أديب عراقي مقيم في ألمانيا على قوله تعالى: “اقتربت الساعة وانشق القمر”.. Die Stunde ist nah, und der Mond ist entzwei gespalten. ما أن سمعها الفوهرر حتى أذهلته، فقطعت كل قول وهكذا كان، وافتتح خطابه الشهير في الحشود المهيبة في روكبيرغ العام 1937 بهذا المطلع القرآني المدوي. كان بعداً، أن تم توظيف هذه الحادثة وهذا الاقتباس للربط مشيمياً بين الفاشية والإسلام وعلى نطاق واسع. وعرف هذا النوع من التنظير والمحاججة الذي يتكئ على توظيف النزع من السياق، وسحب حادثة معينة لتحليل وتحكيم وفهم سياق كامل بـ "العلم الخردة" Junk Science.
في بداية الثمانينات، فكرة تسويق “الفكرة المنزوعة السياق” صارت صنعة، امتهنها الكثير من الكتاب والمعلقين الإعلام الممول بسخاء من الشركات العملاقة المعولمة. صرحٌ من الزيف يتكئ على حصوة حقيقة، هذه زبدة هذا العلم وهذه أطروحته. ويسمى كذلك “بالعلم الزائف— .“Pseudoscience نتائج أبحاث علمية غذت جبهة الشركات الصناعية حول الأسباب العلمية للاحتباس الحراري، وتلقفه السياسيون المرتبطون بمصالح مع هذه الشركات يرأسهم دونالد ترامب، هذا مثال واحد على هذه الخردة. لا بد من توفر بعض الأبحاث “العلمية” التي تُختزل عادة في عبارة واضحة واحدة، يُصفع بها من يعترض في النِزال الإعلامي، من قبيل: “أن الاحتباس الحراري وتغير المناخ سببه اضطرابات شمسية وليس انبعاثات غازات المصانع” لدفع الشبهة عن رأس المال المتغول ومن ثم الانسحاب من اتفاقية كيوتو للمناخ. ونذكر كيف أن العالم كان يحبس أنفاسه ترقباً لنتائج علماء الوكالة الدولية للطاقة الذرية في بحثهم عن “أدلة علمية” لحيازة صدام حسين لطيف يورانيوم مشعّ، فكانت شهادة امرأة العزيز عند أعزائها، سُحق العراق بدليل علمي. فكلمة “علم” لها سحرٌ ووقعٌ تخر له الجبابرة مسَلّمين. يوظف الجنكسينس بشكل رئيسي في ثقافة الإعلام المضادّ، وحملات العلاقات العامة لبعض شركات صناعة الغذاء، الأدوية، الاتصالات، السجائر، والكوزمتكس. السياسيون وبعض رجال الدين وقعوا في الغواية، أو وقعوا عليها فعانقوها. فبرعوا في إعادة تدوير هذه الخردة، فهي شعبويٌة مدغدغة، ساحقٌة ماحقة.
في سياقنا الفلسطيني، من "الجنكسينس" المقولة الشهيرة بأن "زيارة السجين ليست تطبيعاً مع السجان" لرفع الشبهة عن المطبعين وتعميم التطبيع. وأيضاً أن مؤسسة إعلامية أوردت خبر كذا، إذاً فهي دحلانية أو إخوانية، أو موزمبيقية مرتبطة بأجندة، نحتفظ بهذه القصاصة، نرفعها في وجه مديرها العام التاسع عشر بعد مائة عام من الزلّة. ومنه أيضاً الاستدلال بسقطة لهذا الفصيل أو ذاك حتى يُعلّق كذبيحة بعرقوب تلك الكبوة، ونحن في هذا لا يُشق لنا غبار.. أي والله. ويحدث أن يقرأ بعض المتثاقفين، كتاباً أو كتابين، يكتب مقالاً أو اثنين، ثم يرمقنا بازدراء، ولربما صاح في العامة والخاصة: “سلوني قبل أن تفقدوني!”. وليس آخرها أن "شوفير تكسي عمومي" متهور تسبب بمقتل عائلة في حادثة واحدة حقيقية، وعليه؛ فكل سائقي العمومي على وشك قتل من يحملون، مجرمون محتملون حتى لو ثبت العكس. فتجند الشعب رجالاً وراكبين شرطة مرور، ممتشقين هواتفهم الذكية بكاميرات HD للظفر بصيدٍ عالي الجودة. فالعلم الزائف ابن شرعي لثقافة التعميم، كما أن الحقيقة ابنة سياقها. حافلة يومياتنا وتاريخنا ومفارقاتنا بتوظيف قوة عدم المعرفة، والنتائج لا تخفى على عابر سبيل.
ما هو ليس بجَنكْسينس؛ أننا مغرمون بالجَنكْسينس نحبه حباً جماً، نلتهمه ونأكله أكلاً لمّاً. نسعى في طلبه حريصين ولو في الصين. فهذا علمٌ سهل، لا يتطلب تحصيله الالتحاق بمؤسسات أكاديمية، لأنه ببساطة علم عدم المعرفة، لا يتطلب سوى مهارة غرائزية واحدة؛ النتش ثم النهش.