الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

جمهورية كريستيان وجويل المجازية...

نشر بتاريخ: 10/09/2017 ( آخر تحديث: 11/09/2017 الساعة: 19:41 )

الكاتب: محمد نعيم فرحات

كريستيان شابوي مهندس نفط فرنسي، تقول مصادر سيرته الذاتية بأنه سليل أصل وفصل عائلي طيب. عمل في فرنسا وهيوستن بالولايات المتحدة وفي دول افريقية مختلفة ومكث لأربع سنوات في سوريا. أما زوجته جويل، فهي مدرسة للغة انجليزية، تقول سيرتها بأنها تنام في كنف تاريخ جمالي خصب، يتحول في الستينات من العمر لامتلاء بالسيرة و الزهو بالمسار وبما تحقق حتى اللحظة.
ينتمي الستينيان اللذان يعرفان بعضهما منذ طفولة مرتاحة، كما تعرف الأشجار جبالها، لبلدة فرنسية رقيقة وهادئة في إقليم "الألب دون" لا تبعد كثيرا عن بحيرة "انسي" جميلة البحيرات الفرنسية، بلدة تقيم في أحضان تلال تصونها وتمنحها إطلالة متأملة وباذخة على نفسها و على مدىً واسع أخضر، يريح النفس والبصيرة، وشأت عبقرية الجمال بأن تحاصر التلال بجبال مكللة بشجرٍ وغيمٍ وندىٍ وازرقٍ ترسله السماء بسخاءٍ كبير.
في فضاء رحب، أقاما بيتا منيفا بعيدا عن ضجيج المدن المزدحمة بكل شيء ، بيت تكمن فخامته في بساطته، إذ يقع فوق ربوة مكتفية بنفسها وبفتنتها، ربوة ليست مضطرة لآن تطل على احد، لكنها أنيسة، لا تمنع أحدا أو مكانا أو خيالا من أن يطل عليها. ومن كل ذاكرتهم خارج فرنسا وحدها الشام وأريجها هي التي تحضر وتتواصل بجمال ، وتجد ملامحها في تشكيل البيت وزواياه، وكمن يستل شيئا ثمينا من مقتنياته الخاصة عرضت "جويل" بعضا مما حملته معها من جمالات الشام. وعندما يتحدثان عما يجري في سوريا اليوم يتجلى في عينيهما ألم ما، وكأن ما يحصل هناك، يمثل اعتدا على ذاكرتهما الشامية.

***

كريستيان كريم وشهم ومشغول بالأسئلة البسيطة والبعيدة في آن، اما "جويل" فلديها قدرة على الهبوب كعاصفة من العواطف الحاسمة ، وغالبا ما تقوم بتدبر الأشياء في منزلها وكأنها تقيم حوارا مع الأشياء ذاتها، بل إنها فعلا تفعل ذلك مع الأواني والشراشف والمزهرية والورود بموسيقى تخصها. كل منهما على نحو يخصه يقارب الحياة بطريقة ايجابية عموما.
منذ أصبح كريستيان على مشارف سن التقاعد اتخذ قرارا سياديا وجوديا ، يصعب على ملوك أو دول اتخاذه ، هو الإعلان لنفسه أولا عن اكتفاءه بما حققه مهنيا وماليا ونفسيا ، والإعلان عن نفسه حرا من كل قيد وظيفي والعمل عند آخرين ، وأن يكون سيدا لنفسه ومديرا لزمنها، وحدها "جويل" تمتعت بالقدرة على خرق هذا العالم كشريكة فيه، يخول لها جمال الذاكرة كثيرا من الصلاحيات في عالم كريستيان المستقل والمكتفي. جويل الممتلئة بزهو يخصها والمشغولة كما كل النساء بالتفاصيل وبحرفيتها، ظل صوتها حميما عند كل نطق لاسم كريستيان على شفتيها، وكأنها تغنيه بينما هي تناديه، وهذا الأمر يتجلى مهما كان إطار الكلام بينهما: وديا أم مشاكسا. وهو ما يؤشر على تاريخ خصب من الألفة بينهما واعتبارات متبادلة التي لا زالت متينة، ولا زالت قادرة على تجديد نفسها رغم تقادم الزمن.

***
في عالم كريستيان وجويل تشعر دائما بأنك في أمان الله وتأخذك بالقوة ورغما عن أنف انشغالاتك ، سكينة وجودية تدخلك في عوالمها، سكينة تكلل روحك وخيالك ونظرك، وتذهب في مداراتها الحميمة مستسلما على نحو منشود .
ورغم أن معطيات حياتهما تعفيهما من متاعب الأسئلة وشقاء البحث عن إجاباتها، إلا إنهما مشغولين بذلك، وفي جولة أفق وجودية الطابع جرت في لحظة ما، أظهر كريستيان شعورا بالفزع من قيام العالم بخلع نفسه وبتخلعه معا، واندهاشه من فكرة التفوق الثقافي الحضاري للحيوانات المفترسة والأليفة معا ، على كثير من البشر فيما خص استخدام قوة العدوان والعنف في تدبر الأمور، حيث تتميز الحيوانات عن غالبية من البشر بوجود اقتصاد ذكي عندها في استخدام العنف والعدوان. لأنها لا تهاجم عموما إلا عندما تجوع أو تحتاج، وتستخدم القوه المناسبة لتحقيق الغرض ليس أكثر، ويدخر الحيوان قوته وعدوانيته طالما هو ليس بحاجة لذلك، بينما يفرط الإنسان في استخدام عدوانية متعددة الأوجه تفوق الحاجة والضرورة، وعموما ما ترتب عدوانية الإنسان بالشهوة ، والشهوات لا حدود لإرضائها عموما.
وفي باب المقارنات بين عدوانية الإنسان وعدوانية الحيوان، يستطيع الغزال مثلا أن يتجول أمنا - إلى حد بعيد- بدون مخاطر جديه في محيط الأسد، طالما كان الأسد شبعانا ومرتويا ونعسانا ، إلا أن ذات الشيء صعب الحصول بين إنسان مفترس وأخر تقرر أن يكون الضحية الممكنة أو المحتملة أو حتى المتخيلة..خصوصا في ضوء ما يتوفر للإنسان من أدوات فتك وحيل وفساد في الوعي وقدرة على تطوير العدوان وعلى إدارته.

وفي جولة أفق أخرى يقول كريستيان بأنه وبحكم تخصصه كان مشغولا بالمقاربة الفيزيائية والكيمائية للعالم، وبالعلاقة بين الزمن والمسافة والسرعة، وبقوة قانون الجاذبية في بعده الطبيعي، لكنه انفتح مؤخرا على فجائع ما يخلفه سوء استخدام البشر لفيزيائهم وكيميائهم وفيزياء الطبيعة وكميائها في المستوى الوجودي والثقافي والنفسي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والبيئي والمساس بجماليات الحياة الممكنة . ويقول نبدو في كثير من الأحيان أعداء لأنفسنا، وهذا مروع إلى حد مدهش.
وعلى طريقته كثيرا ما يوبخ كريستيان المفهوم المضلل للديمقراطية في الغرب لأن لها وجه أخرى بشع في حياة الآخرين، ويمجد البحث عن حرية إنسانية شاملة عاقلة ومسئولة تكون من حق الجميع، لا يطيح بها جموح الاندفاع الأخرق. ويحزن لضياع الكثير من معاني فرنسا الايجابية التي جرت التضحية بها في ممارسات سياسية عقيمة وبائسة وفقيرة معا، لا خيال فيها أو لها. وله موقف من الجانب المتوحش في المنطق الرأسمالي الغربي الذي أبدع في المنجزات من جهة وفي إنتاج الفقر والتشتيت الفكري من جهة أخرى، بسبب تجاهله إلى حد الإقصاء البعد الروحي للإنسان وأهمية صيانته، وقيامه على مبدأ الاستنزاف لكل شيء: للطبيعة والموارد ولحقوق الآخرين....
كريستيان وجويل، من جيل فرنسي عرف المجاز وثقافته - بل هما في الأصل من امة كانت محسوبة ضمن أمم المجاز الكبيرة، قبل أن يلم بمجازاتها وبمجازات غيرها من الأمم خراب وفراغ وسقم- يعطي فهما رفيعا للبر بالوالدين،ويعتقد بان كل ما يقدمه المرء لولديه مهما بلغ، هو رد يسير لمعروف كبير سبق لهم أن فعلوه لأجله في أيامهم الطويلة التي خلت. لذلك يرتبط بعلاقة حميمة ومتواصلة مع والدته الباقية على قيد الحياة في عمر السادسة والثمانيين، وتعيش في بيت العائلة، تتدبر أمرها بسلاسة وبهدوء وعلى مهل، وبضمانات أن كريستيان في متناولها إن احتاجت أو لم تحتاج. وقد تقيض لي أن أشاهد كيف احتضنت كل "كريستيان" بهديل صوتها الأمومي عندما فتحت له الباب، وبدت وكأنها تلاقي شخصا مخلصا حميما عرفته لتوها رغم طول العلاقة بينهما . فقط عند الأمهات إزاء الأبناء تحديدا، ثمة موسيقى حنونة، بريئة، بسيطة، لا حدود لجمالها، وكأنها مستعارة من السماء العالية، لا تستطيع أن تبدعها عبقرية فنان أو يزيد.
***
مع كريستيان وجويل، تربح نفسك وزمنك ولو على نحو مؤقت وفي هذا خير كبير، كما تشعر وتلمس معا، بأنك تقيم في حيز مختلف ، حيز جمهوري شكله اثنان من عباد الله ، على هيئة جمهورية شهمة كريمة وجميلة، تحكمها مشاعر حساسة وعاقله، لها قدرة فائقة على التشكل كذاكرة خصبة لصانعيها ولمن يتقيض لهم المرور بها وفيها. جمهورية تسري في كل أرجائها روح المجاز وخيره . وفي عالمهما تتصعد كل ممارسة مهما كانت : عادية أو اقل ، نحو تخوم المعنى الفسيح الأنيق.
كريستيان: رجل في حيز الستين من العمر لا زال قادرا على تشكيل نفسه كفتىً أغر، في فكرته ورؤيته على الأقل. و"جويل" امرأة لا زالت قادرة على الهبوب كعاصفة من العواطف التي تحمل نزقها الخاص الذي لا غنى عنه، يبنيان جمهورية تخصهما، في بلاد سبق لها أن أنتجت الفكرة في الأصل، جمهورية لا جيش لها ، ولا علم، ولا خوف فيها ، ولا قلق جمهورية "هداة البال".
جمهورية بيننا وبين جمالاتها أكثر من وعد وموعد. لا تتعاط مع حق اللجوء بل ترمي لتكوين كل شراكة ممكنة مع من يستطيعون لـ"هداة البال" سبيلا .
_____________________________________________________
*عابر سبيل من بلاد الله الواسعة مّر لأيام في فضاء الجمهورية المجازية.