الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

لغة الجسد في خطاب الرئيس في الأمم المتحدة

نشر بتاريخ: 24/09/2017 ( آخر تحديث: 24/09/2017 الساعة: 11:28 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

بدت لغة الجسد متكاملة ومنسجمة مع اللغة المكتوبة لخطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحتى في المرات التي ارتجل فيها فقرات إضافية، فقد كانت لغة الجسد حاضرة ومعبرة بل وشديدة التعبير.
كان وجه الرئيس خلال القائه خطابه جدياً وأقرب الى الغضب، وفي بعض الفقرات كان متجهما في تدليل على أنه "بلغ السيل الزبى"، وأن الصبر يكاد أن ينفذ، جراء ما يعانيه الفلسطينيون في ظل هذا الصمت الدولي المطبق، الذي يشجع الاحتلال على الاستمرار في ممارساته، وهو مطمئن للموقف الدولي الذي في أحسن حالاته يصدر بياناً هادئاً، في محاولة للظهور بموقف متوازن بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مساويا بين المعتدي والمعتدى عليه، بين الجلاد والضحية.
كانت نبرات صوت الرئيس موحية، قوية، تمزج بين الحزن والغضب واللوم والحث. وبالرغم من صعوبة ومأساوية أوضاع الفلسطينيين، فإن النبرة لم تحمل استجداء أو توسلاً، بل مطالبة بحقوق مشروعة، فقد حمَّل المجتمع الدولي مسؤولية ما تعرض ويتعرض له الفلسطينيون على مدى عقود من الزمن، بينما لم تحرك دول العالم بخاصة الدول الغربية ساكناً لرفع الضيم والظلم عن الفلسطينيين، مع أنها اعترفت بإسرائيل قبل احتلال الضفة والقطاع.
كان الرئيس يستخدم حركة اليدين احياناً، كعامل مكمل للتعبير الكلامي، او لإرسال رسالة مفادها أن الوضع غير مطمئن، وأن القبول بما هو قائم ومفروض بالقوة، يعتبر ضرباً من ضروب المستحيل بالنسبة إلى الفلسطينيين.
أما من حيث حركة العينين، فقد توزعت بين التركيز على الورق والنظر إلى الحضور ومخاطبة الكاميرا في لحظات الارتجال، وفي الحالات الثلاث، كان تركيز النظر واضحاً، وعبرت العينان عن جدية الموقف ومأساويته ورفض استمراريته.
وقد اتسمت الوقفة وحركة الجسد بشكل عام بثقة ظاهرة، أكدت خبرة في التعامل مع المنصات الدولية وقدرة على الثبات في الهيئة واللغة والجدية، مع الإشارة إلى أن الخطيب هو في السنة الثانية والثمانين من العمر، حيث بدت قدراته الخطابية مقارنة بهذا العمر، في أحسن أحوالها، ويمكن القول إن الأداء قد برهن أن الرئيس يتمتع بإمكانيات ذهنية حاضرة ومتقدة وبقدرة جسدية جيدة جداً قد تفوق قدرات من هم أصغر بعشرين سنة.
تذكرت كتاب صديقي الإعلامي د. ناصر اللحام حول "لغة الجسد" الصادر عن الكلية العصرية الجامعية وأنا أتابع خطاب الرئيس وأقرأ حركته، وأحاول ان الائم بين اللغتين المنطوقة والجسدية، فالدكتور اللحام قد تنبه للغة الجسد، بخاصة لدى السياسيين والإعلاميين الإسرائيليين، وقدم قراءَة معمقة للغة الجسد، ووضع إصبعه على ثغرات في لغتهم الجسدية، بالرغم من انهم يتحركون بتوجيه الخبراء في هذا المجال. وقلت لذاتي: إن عدداً لا بأس به من القادة الإسرائيليين وحسب كتاب اللحام، يخفقون في تجارب كثيرة في الملاءمة بين اللغتين، في حين أن الرئيس محمود عباس ينجح في ذلك، ربما بلا خبراء أو توجيه من متخصصين، مستنداً إلى خبراته السياسية والدبلوماسية وموهبته الخطابية التي تصاحبها سلامة اللغة العربية وبلاغتها ووضوح مخارج الحروف، بحيث تصل الكلمة إلى المتلقي جلية ومكتملة بنبراتها وايحاءاتها كما ينبغي.
إن المواقف المفصلية واللحظات الحرجة ومهابة الموقف وطبيعة المنبر، تتطلب خطيباً قادراً على استخدام اللغتين المنطوقة والجسدية، وتوظيفهما في خدمة الموقف، وتوظيف الموقف في إيصال الرسالة، ولضمان وصول الرسالة، فان أداء الخطيب يلعب دوراً مهماً وحاسماً في بلوغ النتيجة، ولو اجتمع كل عباقرة الكرة الأرضية وصاغوا خطاباً قوياً متماسكاً، وتولى مهمة ايصاله خطيب ضعيف مرتبك، متلعثم، يهتز امام الميكرفون، وبالكاد يثبت قدمية تحت ثقل جسده، فإن هذا الخطاب سيضل طريقه ويضيّع البلاغة وينقل بالتالي رسالة مربكة ضعيفة.
وفي حالة خطاب الرئيس، فقد وصلت الرسالة كاملة من خلال لغة الخطاب، القوية، المتماسكة، المدعمة بالحقائق والمعطيات، المتسلحة ببلاغة اللغة من حيث الشكل الأسلوبي ومن حيث المضمون، في تناغم وانسجام بين قوة الخطاب كلغة منطوقة، وحركة الجسد المعبرة عن البنية البلاغية للخطاب، وبذلك حقق الخطاب أهدافه بامتياز كرسالة، أما كيف يكون التأثير على المستوى السياسي، و على مستوى تجاوب الدول، فهذا الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت، و يحتاج الخطاب الى اّليات متابعة من المستويات السياسية والدبلوماسية، لأننا نتحدث عن أبعاد وردت في الخطاب: تاريخية و حقوقية و سياسية وأخلاقية.