الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

ضرورة الاختلاف وخطورة التماهي

نشر بتاريخ: 21/10/2017 ( آخر تحديث: 21/10/2017 الساعة: 15:43 )

الكاتب: عبد الرحمن شهاب

في حديثه عن حرية التفكير يقول جون ميل الابن (1806 - 1873) "إن البشر جميعًا لو اجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد؛ لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهم حتى لو كانت له القوة والسلطة"، فقد اعتبر ان كل رأي واقع بين ثلاثة احتمالات:
الأول: إما باطل مطلق، ومن هنا فان الحق بحاجة لحماية نفسه من هذا الباطل وذلك بالتعبير عن نفسه، وإظهار بطلان الباطل، ومن هنا يجب ضمان حرية التفكير والتعبير.
الثاني: أن يكون الرأي واقعًا بين الحق والباطل، ومن هنا نحتاج للتعبير عن الباطل الكامن لإكمال الحق الكامن وتعزيزه.
الثالث: أن يكون الرأي حقًا كاملًا، ومن هنا نحتاج لرأي مخالف للتفكير فيه وتقليبه ولضمان استمرار خلوه من الباطل والمحافظة على استمرار حافزيته لمواجهة الباطل.
وهذا يعني ان الرأي المخالف للفكرة مطلوب حمايته، حتى لو اعتقدنا بأننا امتلكنا الحق المطلق، فالرأي المعاكس هو ضمان استمرار ظهور الحق.
قد يعترض البعض بأن هذا الكلام مناسب في عالم الفكر والثقافة لا في عالم السياسة، ففي عالم السياسة مطلوب دائمًا دعم الأقرب للحق والمصلحة العامة، وعدم النقد كي لا تفشل محاولات السياسيين المبادرين للاقتراب من الفكرة الصواب، وكما يقولون "داري على شمعتك تقيد"، والحقيقة ان مناقشة هذا الرأي تستدعى الوقوف على أمرين اثنين:
أولًا: إلى أي مدي يستمع المبادرون لأقوال المنتقدين؟ إلى أي مدى آذانهم صاغية للرأي والديموقراطية والمشورة؟ وما هو مستوى ثقة المبادرين بمبادرتهم؟
فلو كان السياسي مندفعًا بثقة عالية في اتجاه ما فهو أحد اثنين:
- إما أنه لا يعير اهتمامًا بالنقد تعاليًا على الآخرين الذين يراهم على ضلال أو لا يراهم، حتى لو كانوا للتو حلفاء له وشركاء في الدم، وقد يكونوا غير معارضين له في مبادرته التي يرونها صوابًا، وقد سبق ان نصحوه بها، لكنه فارقهم إلى حلفاء آخرين نصبوا له من الأفخاخ ما قد يؤدي إلى مقتله باسم الوطن وتحت شعار التصحيح، ومن هنا يجب استمرار النقد ليستفيد من النقد معارضوه الذين يمكن ان يشكلوا كابحًا له عن التهور، ليس ضد مسلكه؛ بل للتنبيه بالألغام على الطريق.
- إما أن يكون ممّن يستمع للرأي الآخر، وهو واثق بصوابية خياراته وأن فكرته على صواب، وبالتالي سيكون قادرًا على تفنيد الرأي الضد، مستفيدًا منه في تقليب ومراجعة خطواته، وفي الحالتين نقد الفكرة مفيد للسياسة ومأمن من مخاطر الانزلاق.
ثانيًا: ما هي دوافع المبادرين الذين نريد ان ندعمهم لقربهم من الحق؟ وإلى أي مصلحة يريدون الوصول؟ وأي مصلحة هي التي تحكمهم؟ وما مدى التقاطع بين تلك المصلحة ومصلحة المجتمع؟
ومن هنا يأتي النقد ليشكل وقاية لتفادي الانحراف المستقبلي، فيجب التعبير عن المحاذير القادمة والأفخاخ على الطريق، خصوصا للسياسيين الذين يلعبون في مساحة الدهاء الإقليمي والدولي، فلا يوجد عندنا أرطبون العرب، وكلنا في مراحل البدايات.
بالإسقاط على السياسة الفلسطينية، فإننا نعلم أنه لا يوجد برنامج سياسي فلسطيني متفق عليه فلسطينيًا، ولا يوجد مشروع فلسطيني مجمع عليه، ولم يُستشر المواطن الفلسطيني في شيء على طول تاريخه، ولم تنفذ إرادته يومًا إلا في الاشتباك مع العدو، وحتى ذلك يتم بنسب متفاوتة حسب تماشي الاشتباك مع مشروع أحدهم، فالفصائل تسير ولا تلقي لقول الشعب اعتبارًا وخصوصًا الثائرين، ونحن في هذا لسنا بدعًا من الأمم، فالثائرين يتقلبون بين مشاعر القوة الزائدة والمبالغة في اليقين وبين ضغوط الواقع وحصار السياسة؛ وهذه عوامل تجعل الرياح عاتية في خيارات السياسي من أقصى السلامة إلى أقصى الخراب، فتفاعل الثقة الزائدة مع رياح السياسة يخلق عدة أحوال:
الحالة الأولى: عندما تتفق الرياح مع الشعور الزائد باليقين لدى الثائر وتسير في نفس الاتجاه تندفع المصالح الوطنية نحو التحقق بقوة، مثال ذلك: ديجول وحكومة فرنسا الحرة، نعلم ان ديجول رفض القبول بتقسم فرنسا والاعتراف بالنظام الفيشي الموالي للاحتلال الألماني، ورغم ان البدايات كانت سيئة لديجول الذي رفض التقسيم؛ فقد اتسع الاحتلال الألماني ليطول كامل التراب الفرنسي، ولكن الثقة الزائدة لدى ديجول صمدت حتى تغيير الرياح وأعادت تحرير كامل فرنسا.
الحالة الثانية: عندما تصطدم السياسة مع الشعور الزائد باليقين ولا يسيرا في نفس الاتجاه قد ترتكس المصالح الوطنية نحو الدمار، وربما هذه الحالة هي التي أصابت الواقع الفلسطيني عام 2000، حيث اعتقد الفلسطيني ان بإمكانه ان يحقق بالثورة ما حاصرته السياسة، فعاد الثائر أبو عمار ليمارس الثورة داخل طنجرة الضغط الإسرائيلية.
الحالة الثالثة: هي الشعور الزائد بالقوة نحو الداخل في ظل تقدير عقلاني للتعامل مع قدرة العدو، فقد يستفيد منها الثائر كي يمرر الاتفاقية التي اقتنع بها انها مصلحة وطنية، وقد مارسها أبو عمار في فرض أوسلو على الفلسطينيين، ولكن في أكثر الأحوال كانت ممارسة بقفازات من حرير، كونها أول تجربة لفرض اتفاق على الفلسطينيين لا يرقى للتطلعات الفلسطينية، وكون وجود قوى مقاومة تجازف بكل ما أوتيت من قوة لتعطيل هذا الاتفاق، وأن رياح المقاومة كانت في أشد عنفوانها وتستند إلى دعم شعبي فلسطيني واسع وعمق عربي وإسلامي (شعبي ورسمي) رافض لهذا الاتفاق.
وقد مارسها بن غوريون عام 1948 ضد العصابات الصهيونية؛ فبعد قرار تشكيل الجيش الإسرائيلي رفضت بعض العصابات الانضمام للجيش، فاستأجرت سفينة "الالتلينا" لاستجلاب سلاح ومهاجرين، خاص بها فاتخذ بن غوريون قرارًا بقصف السفينة وفرض سلاح واحد، وهو سلاح الجيش الإسرائيلي.
إذًا، فالتجربة تثبت أن الأمر نجح مع الإسرائيليين ولم ينجح مع الفلسطينيين، ومن هنا يحق للفلسطيني ان يقلق من كل حالة كريزماتية لا تسمح لفكرة توزيع قوة السلطة (الحكم)، ومن كل اتفاقية غير واضحة ومن كل تفاوض سري، ومن حقه ان يعبر عن هذا القلق، كما من حقه أن يبحث عمّن يسنده لمواجهة تقلبات المستقبل وتحولات التحالفات.
بالعودة إلى واقع الفصائل الفلسطينية
التيارات والأحزاب قد تشكل خطرًا على حرية التعبير، حيث تفرض على أفرادها زاوية محددة للنظر للأشياء، أما مجرد وجودها فهو نابع من حرية التفكير، وإن مبرر وجودها هو نفسه المبرر لحماية حرية التفكير، فهي كقوة أخلاقية - بغض النظر عن قوتها المادية والقانونية وما يشوبها من أزمات وتكلسات - ضامن لحماية من تبنى موقفًا متقاربًا مع موقف أحد هذه التيارات وستتداعى للدفاع عن موقفه، فبقاء الاختلاف بين الفصائل ضمان بقاء عملية التصحيح.
أما التجانس والتماهي بين مواقف التيارات والفصائل والنخب فإنما يدل على خطب كبير يصيب المجتمع والأمة، وبقدر قوة التجانس يكمن كبر الخطب، وقد يكون الخطب خيرًا وقد يكون شرًا، وكوننا بشرًا لا نعيش حياة الحق المطلق؛ فالحدث النابع من تفاعل تفكيرنا وتدبيرنا لا يمكن إلا ان يشوبه الخير والشر بنسب متفاوتة. ومن هنا فإن أجمع المجتمع على فعل معين ولم يخالف أحد من المجتمع، فهذا يدل على ان التفكير قد توقف نحو الشر، وهذا يتم في حالة واحدة، وهي الهبوط نحو مستنقع الحضيض الذي ليس فيه تصحيح ولا استغفار، إلا إذا وصلنا إلى مرحلة المشاع المطلق أو القيامة أو نهاية التاريخ.
إن الأخطر في حالة التماهي بين مركبات السياسة ليس مجرد حالة التماهي صانعة الركود، بل القوى التي تنشأ لحماية حالة التماهي، وتتطوع لحماية الإطار من تأثير الصوت المخالف، وتشكل جلادًا لكل رأي مخالف مستبعدة إياه من المشهد، تحت شبه تصلح لاتهامه مثل الجهل أو التبعية للعدو أو التخريب على المصالح الوطنية أو حتى مخالفة الدين. لا شك بأن الذي قتل سقراط (تـ 399 ق. م) ليس القاضي الذي حكم عليه بتجرع السم، بل الرأي العام للكهنة في ذاك الزمان، وإن الذي حاصر" جاليليو" هم رجال الدين الذين اعتبروا قوله عن الأرض جرمًا يدور حول نفسه والشمس مخالفًا لما جاء في الانجيل.
إن فكرة البحث عن الإجماع هي فكرة خطيرة قد تفضي إلى حالة التماهي المدمرة، لقد تمت دراسة هذا المرض عندما أصاب أعرق نظام ديموقراطي وإدارة منتخبة عن طريق أفضل نظام انتخابي، الإدارة الأمريكية 1962 كانت إدارة متشابهة ومنسجمة حد التماهي، وتمتلك الثقة الزائدة باحتلال كوبا، ممّا جعلها تغفِل ان بإمكان الخاصرة الكوبية التي استهترت بها استجلاب أسلحة تفوق احتمال الولايات المتحدة عن الدفاع عن نفسها، ما عرف حينها بأزمة الصواريخ الكوبية أو (Karibskiy krizis) انتصر فيها كاسترو، الحاكم الفرد الكوبي، على الإدارة المنتخبة والنظام العريق الديموقراطي الأمريكي، الذي لم يصغِ لمستشاريه وتعالى بكبريائه وثقته الزائدة، وانتزع قرارًا أمريكيًا بإنهاء الأطماع الأمريكية في كوبا.
* مدير مركز أطلس للدراسات