الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

لن يلغي ترمب قرار الرّب!

نشر بتاريخ: 12/12/2017 ( آخر تحديث: 12/12/2017 الساعة: 12:34 )

الكاتب: ابراهيم ملحم

بقرار رباني، لا بمرسوم رئاسي، تأخذ المدينة المقدسة صفتها على الأرض التي بارك الله فيها وحولها، في سورة ربطت برباط عقِدي متين بين أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وبين "أوّل بيت وُضع للناس ببكة مباركا وهدى للعالمين" وهو رباط قائم ودائم بحفظ رب العالمين وصمود المرابطين الى يوم الدين.
فقد جاء في محكم التنزيل:"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚإِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
كما جاء في الحديث الشريف "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم قيل أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".
خلال اللحظات السوداء التي كان فيها سيد البيت الابيض؛ غريب الأطوار يقدم ما لا يملك لمن لا يستحق؛ كانت فلسطين قد عادت من جديد إلى واجهة الأحداث العالمية بعد أن توارت خلف سُحب البراكين المشتعلة في الحواضر العربية؛ إذ سرعان ما ولّت الفضائيات العربية والعالمية وجهها بعد طول غياب شطر أُولى القبلتين، واحمرّت شاشاتها بالأخبار العاجلة التي تابعت صدى الحناجر المجروحة بصيحات الحرية على نقيع الدم الممتد من رفح إلى جنين، ذودا عن أُولى القبلتين ومسرى النبي صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن حسم ترامب بجرة قلم واحدة من أهم وأقدس قضايا الحل النهائي في الصراع المفتوح على نذر مخاطر لا أحد إلا الله يعلم بمآلاتها وتداعياتها على المنطقة والعالم.
قرار ترامب الذي قوبل بعواصف من الاحتجاج في فلسطين وفي العواصم العربية والإسلامية والعالمية ، ستتدحرج مثل كرة الثلج حتى تجبر من اتخذ القرار لالغائه بالنظر لمخالفته كافة القوانين والاعراف الدولية؛ هذا القرار المتهور هو الترجمة الحقيقية للمثل القائل "مجنون بيرمي حجر في بير وبدو مئة عاقل ليطلعو"، فليس ثمة عاقل يمكن له أن يستعدي شعوب العالم في الوقت الذي ما زالت فيه الولايات المتحدة تتساءل لماذا يكرهوننا؟ وشكلت تحالفا دوليا بادعاء محاربتها للإرهاب وتجفيف منابعه؛ بينما هي حاضنة الارهاب وصانعته وراعيته بمراسيم رئاسية مجنونة لا تعبأ بنصائح العقلاء من الرؤساء، الذين حذّروا من الإقدام على تلك الخطوة، بالنظر لما ستجره على المنطقة والعالم من مخاطر.
على عكس الاعتقاد السائد بضيق الخيارات فإن ثمة مروحة واسعة من الخيارات أمام الفلسطينيين في مواجهة القرار الامريكي ؛ وهم يخوضون واحدة من أهم وأشرف معاركهم لإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس؛ واسطة العقد، ودرّة التاج، وزهرة المدائن، التي لا يعمّر فيها ظالم؛ لعل أول وأهم تلك الخيارات هو الصمود والتصدي لأي مس بمسرى النبي، وذلك بإعادة مشهد كسر البوابات التي حاول الإسرائيليون بغطاء أمريكي تثبيتها أمام مداخل الاقصى حتى انهارت بعد عشرة أيام أمام صلوات الجموع في الشوارع والميادين والساحات.
أما ثاني تلك الخيارات فهو استثمار الرفض الدولي الواسع للخطوة الامريكية المجنونة ودفع إسرائيل والولايات المتحدة إلى صقيع العزلة حتى تتراجع عن تلك الخطوة التي تمس بالأمن والسلام العالميين، إضافة إلى سحب الوكالة الحصرية للمفاوضات العبثية من ادارة ترامب العنصرية، بعد أن فقدت تلك الإدارة صفة الوسيط لصالح صفة المشارك في العدوان على الحقوق المشروعة لشعبنا، وليس آخر تلك الخيارات وأهمها هو رفض القبول أو الاعتراف أو التوقيع على أية صفقة تنتقص من الحقوق الفلسطينية المشروعة كاملة مهما كانت الأثمان أو غلت التضحيات .
مشهد العزلة الدولية للولايات المتحدة وإسرائيل والذي تبدى بوضوح في جلسة مجلس الأمن الدولي ليل الجمعة، يحمل رسائل لا تخطئها العين ويمكن الاستثمار فيه لجهة فرض المزيد من العزلة، واستقطاب الموقف الدولي لدعم وإسناد الحق الفلسطيني، ففي كلمات المندوبين الدوليين ما يبعث على الارتياح بسلامة التوجهات الدولية إزاء الحقوق الفلسطينية المشروعة، مثلما تكشف تلك الكلمات عقم وارتباك السياسات التي تنتهجها إدارة ترامب وأساليب الخفة في تعاملها مع تعقيدات الصراع الذي لا يمكن حله بالبلطجة وسياسة فرض الأمر الواقع، فلا حل للصراع غير حل الدولتين مع الابقاء على القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية كما جاء في كلمات مندوبي الدول الأعضاء.
منذ احتلال اسرائيل للاراضي الفلسطينية عام سبعة وستين أصدر مجلس الامن اثني عشر قرارا بشأن القدس بدءًا ما القرار ٢٤٢؛ الذي دعا لانسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧، وانتهاءً بالقرار٢٣٣٤ الذي أكد على عدم شرعية المستوطنات التي تقيمها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية، ورفض الاعتراف بأي تغييرات على حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧.
وأحسب أن القيادة الفلسطينية اتخذت واحدا من أهم القرارات برفض استقبال نائب الرئيس الامريكي مايك بنس في زيارته المرتقبة للمنطقة؛ وهو من أشد المتطرفين الانجيليين المحرضين على اتخاذ تلك الخطوة الأميركية الرعناء؛ ذلك أنه ليس من المنطق ان يلقي بنس خطابًا في الكنيست مباركا الاعتراف الامريكي باعتبار القدس عاصمة لاسرائيل في الصباح، وان يحتسي القهوة في مقر الرئاسة في المساء بينما تواصل الجماهير غضبها في الشوارع والساحات احتجاجا على القرار الامريكي المدان بإجماع أُممي، وما قد يصدر عن ذلك الاجتماع لو حصل من اشارات خاطئة لقادة العواصم العربية التي سيزورها بنس في محطته التالية، والذين سيتحللون من حرج استقباله، طالما استقبله الفلسطينيون قبلهم ، مع التأكيد على استمرار العلاقات مع الشعب الاميركي العظيم وقواه الحية التي ما زالت تتصدى في ساحات القضاء لنزعة التطرف والعنصرية التي يحاول ترامب وفريقه إشاعتها لضرب النسيج الوطني الاميركي عبر إلصاق تهمة الارهاب بالاسلام والمسلمين، وما يترتب على ذلك من جلب المزيد من الأعداء للمصالح القومية الاميركية بقرارات متهورة.
نعرف أن الرئيىس عباس يتعرض لضغوط أمريكية وعربية، لا تقوى على تحمل أثقالها إلا الاكتاف العريضة، المتكئة على شعب عظيم يؤمن بعدالة قضيته، وشرعية نضالاته وتضحياته، وهو يذود عن العرب والمسلمين كسنان الرمح في دفاعه عن قبلتهم الاولى بعزيمة ومضاء لا تخدعه الوعود ولا يرهبه الوعيد؛ بيد انه وامام رجل جاهل، وصل الى سدة الحكم بفارق ملتبس صدم الشعب الامريكي ؛ فلا بد من استحضار واقعة الامام ابي حنيفة في حواره مع الرجل الوقور الجاهل والتي تقول:" كان العالم الجليل أبو حنيفة يجلس مع تلامذته في المسجد. وكان يمد رجليه بسبب آلام في الركبة قد أصابته. وكان قد استأذن طلابه أن يمد رجليه لأجل ذلك العذر. وبينما هو يعطي الدرس مادّاً قدميه إلى الأمام. إذ جاء إلى المجلس رجل عليه أمارات الوقار والحشمة. فقد كان يلبس ملابس بيضاء نظيفة ذا لحية كثة عظيمة فجلس بين تلامذة الإمام. فما كان من أبي حنيفة إلا أن ارجع رجليه إلى الخلف ثم طواهما وتربع تربع الأديب الجليل أمام ذلك الشيخ الوقور وقد كان يعطي درساً عن دخول وقت صلاة الفجر. وكان التلامذة يكتبون ما يقوله الإمام وكان الشيخ الوقور يراقبهم وينظر إليهم من طرف خفي. فقال لأبي حنيفة دون سابق استئذان: يا أبا حنيفة إني سائلك فأجبني. فشعر أبو حنيفة أنه أمام مسؤول رباني ذي علم واسع واطلاع عظيم فقال له: تفضل واسأل. فقال الرجل: أجبني إن كنت عالما يُتَّكل عليه في الفتوى، متى يفطر الصائم ؟. ظن أبا حنيفة أن السؤال فيه مكيدة معينة أو نكتة عميقة لا يدركها علم أبي حنيفة. فأجابه على حذر: يفطر إذا غربت الشمس. فقال الرجل بعد إجابة أبي حنيفة ووجهه ينطق بالجدِّ والحزم والعجلة وكأنه وجد على أبي حنيفة حجة بالغة وممسكاً محرجاً: وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم يا أبا حنيفة فمتى يُفطر الصائم؟! وبعد أن تكشّف الأمر وظهر ما في الصدور وبان ما وراء اللباس الوقور قال أبو حنيفة قولته المشهورة التي ذهبت مثلاً وقدكُتِبَتْ في طيات مجلدات السِّيَر بماء الذهب: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه".
بعيدًا عن الانفعال، فإن اللّحظة الحرجة تتطلب المحافظة على الاتزان بإدارة عاقلة هادئة للأزمة ، تعمّق من العزلة الامريكية الاسرائيلية في المحافل الاممية، وتضيف الى رصيد القضية العادلة، ولا تسحب منه؛ ذلك أن المقاومة السلمية بغطاء من الدبلوماسية النشطة؛ تبقى الأداة الأكثر نجاعة وفاعلية في مواجعة غطرسة القوة العمياء، التي تتحين الفرص لإعمال آلتها للفتك بالفلسطينيين بادعاء "محاربة الارهاب" برعاية أمريكية كاملة.
لا قيمة لقرار متهور يوقعه سائق أرعن يمارس التفحيط السياسي، في الشوارع المكتظة غير عابئ بقوانين السير ولا بإشارات المرور؛ التي تدعو لتوخي الحذر من السرعة على الطرق الزلقة؛ والتهدئة عند اجتياز المنعطفات الحادة. فلو كان لقرار صاحب الوعد الاول الذي وقعه قبل مئة عام أية قيمة لمستقبل الدولة الطارئة بالبلطجة وغطرسة القوة العمياء لما توسل قادة تلك الدولة بابتزاز فجّ؛ اعتراف الفلسطينيين وتوقيع زعامتهم على شرعية دولتهم باعتبارها دولة يهودية، فكيف لقرار أهَوج صادر عن صاحب الوعد الثاني المسكون بأفكار وعقائد متطرفة تمليها عليه بطانة من غلاة المتطرفين أن يكون له أي معنى طالما أن سكان البلاد الاصليين لا يعترفون به لا بل وسيدافعون عن مسرى نبيهم وقبلة المسلمين الاولى برموش عيونهم ونزف جراحهم ووجع معاناتهم... واخيرا فلنذهب الى كل المنظمات الدولية، ولنمارس جميع الخيارات، التي غُلت ايدينا عن الذهاب اليها، وممارستها بسبب الرهان على بقايا أمل في الراعي الامريكي؛ الذي كان منحازًا قبل أن يغدو عدوًا... فلن يلغي ترمب قرار الرّب.