السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

هل ﻹسرائيل الصهيونية مستقبل في الشرق اﻷوسط ؟

نشر بتاريخ: 12/12/2017 ( آخر تحديث: 12/12/2017 الساعة: 20:03 )

الكاتب: نعيم الأشهب

أكدت الصهيونية، بالممارسة وليس مجرد نظريا ، أن العدوان والتوسع هما رحيق بقائها. فحتى قطاع غزة الذي تركه شارون ، عام 2005، وفق خطة تآمرية على الوحدة الوطنية الفلسطينية، شنت عليه إسرائيل ثلاثة حروب مفتعلة، منذ العام 2007، وكذلك الحال بالنسبة للبنان وسورية ومصر؛ بل إن وﻻدة إسرائيل ذاتها جاءت تتويجا لحرب تطهير عرقي مروّعة بحق الشعب الفلسطيني صاحب اﻷرض. وعلى الدوام ، لا تخلو الصحافة اﻹسرائيلية من تحضير الأذهان لحرب عدوانية جديدة. ولا يندر أن "يبشر" مسؤولون اسرائيليون مواطنيهم بأن قدرهم العيش على الحراب!.

وكالتوأم ، كان العدوان مقرونا بشهوة التوسع على حساب اﻵخر. فحين لعبت إسرائيل دور سنان الرمح في العدوان الثلاثي على مصر، خريف العام 1956، واحتلت ، في هذا اﻹطار، سيناء المصرية ، سارع وتسرّع بن غوريون، رئيس الوزراء اﻹسرائيلي آنذاك ، بالكشف عن هذه الشهوة والإعلان ، في الكنيست اﻹسرائيلي، عن قيام "مملكة إسرائيل الثالثة"، التي تضم سيناء المصرية بالطبع!، قبل أن يضطر صاغرا الى اﻹنسحاب منها. بل إن ما كشفته الوثائق عن الصفقة التي عقدتها إسرائيل مع طرفي هذا العدوان الآخرين : فرنسا وبريطانيا ، تشير الى أن إسرائيل طالبت ، كمكافأة لها على دورها في هذا العدوان الغادر، ليس فقط بسيناء المصرية، وإنما كذلك بالضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن!؛ كما أن هاجس التوسع كان ، دوما، حاضرا في أعمال العدوان اﻹسرائيلية ضد لبنان، وضد سورية ؛ وما إعلان ضم الجوﻻن السوري إﻻّ شاهد صارخ على ذلك. أما الضفة الغربية الفلسطينية، فما أن احتلها اﻹسرائيليون ، في حزيران 1967، حتى أعلنوا ضم القدس الشرقية الفلسطينية لدولتهم ؛ ومنذئذ ، لم تتوقف مساعيهم لضم أقسام أساسية من الضفة الغربية ، إن لم يكن كلها لدولة اﻹحتلال؛ غير مكتفين بما اغتصبوه ، بقوة السلاح ، تجاوزا حتى على قرار التقسيم ، من أراض مقررة للدولة الفلسطينية بموجب هذا القرار.

من جانب آخر، فان أعمال العدوان والتوسع هذه ، تقرر الطابع القومي للقضية الفلسطينية بشكل لا يحتمل التأويل، وتؤكد أن المشروع الصهيوني ليس موجها ضد الشعب الفلسطيني وحده ، وانما ضد مجموع الشعوب العربية في المنطقة ؛ وبالتالي : فمهمة مقاومة هذا المشروع وشروره المستمرة لا تقع على عاتق الشعب الفلسطيني وحده، ولا تتوقف على قدراته الذاتية بمفردها ؛ بمعنى آخر، فأساس التضامن العربي مع القضية الفلسطينية لا يعود لاعتبارات عاطفية وانما تعبيرا عن الشراكة في مواجهة عدو مشترك. لكن حكام السعودية يحاولون اليوم طمس وانكار هذا الطابع القومي للقضية الفلسطينية والتزاماته، لتبرير تطلعهم المحموم للتحالف مع اسرائيل الصهيونية.

أما على الصعيد الاسرائيلي، فقد كان من الطببعي أن تفرز أعمال العدوان والتوسع ، التي شكّلت مكوّنا عضويا في كيان إسرائيل الصهيونية منذ لحظة وﻻدتها، الظواهر التالية:أوﻻ - زحف المجتمع اﻹسرائيلي، دون توقف نحو اليمين؛ ثانيا - نشوء نظام اﻷبارتهايد (الفصل العنصري) اﻹسرائيلي في اﻷراضي الفلسطينية والجوﻻن السوري المحتلين ، مع مظاهر متزايدة من التمييز العنصري ضد الاقلية القومية الفلسطينية داخل اسرائيل ذاتها؛ وثالثا - بروز مظاهر للفاشية في المجتمع اﻹسرائيلي ذاته ، والمعبّر عنها، اليوم ، بسيل القوانين التي تسنها الكنيست ، والموجهة لتقييد وتقنين الحريات الليبرالية، وتضييق الخناق على الجهاز القضائي وتقليص صلاحياته، وفي المقدمة محكمة العدل العليا اﻹسرائيلية ؛ ورابعا - بلوغ الفساد، في المراتب الرسمية اﻹسرائيلية العليا مستويات غير مسبوقة. وﻹدراك مدى تفاقم هذه الظاهرة ، في السنوات اﻷخيرة ، يكفي التذكير بأن إسحق رابين اضطر، في سبعينات القرن الماضي، الى اﻹستقالة من رئاسة الحكومة اﻹسرائيلية لمجرد عدم إعلانه عن رصيد صغير له في أحد البنوك اﻷميركية ، بالعملة الصعبة ، حين كان سفيرا ﻹسرائيل في الوﻻيات المتحدة، وتمّ الكشف عن هذا الرصيد في وقت ﻻحق، ومقارنة ذلك بالفضائح المدوّية والتهم المتنوعة التي تحيط بنتنياهو وزوجته ؛ والمفارقة ، أن المجتمع اﻹسرائيلي غدا متأقلما مع هذا الفساد ، بدليل المحاوﻻت المتحدّية للإلتفاف على مظاهره وحماية نتنياهو وزوجته من الملاحقة القانونية ، بسن قانون خاص في الكنيست ، لهذا الغرض.
***
غني عن القول أن هذه الظواهر التي تشكل ، اليوم، ملامح مميزة لدولة اسرائيل ، ما كان لها أن تقع وتبلغ هذا المدى، بمعزل عن مناخ اﻹنتصارات العسكرية التي حققتها إسرائيل منذ لحظة وﻻدتها، باﻹستناد الى عاملين خارجيين أساسيين:اﻷول - دعم الدول اﻹمبريالية وعلى رأسها الوﻻيات المتحدة اﻷميركية؛ والثاني - ضعف القيادة الفلسطينية وهشاشة النظام العربي بشكل عام ، مع تواطؤ أقسام منه، ﻻ ترى ، من منطلقات طبقية تتقدم على الالتزامات القومية ، في إسرائيل عدوا حقيقيا؛ هذا العامل الطبقي الذي يزداد اليوم وضوحا وتحديا أكثر من أي وقت مضى، في مساعي حكام السعودية للتحالف العلني مع اسرائيل.

لكن هذين العاملين اللذين أسهما إسهاما أساسيا في تحقيق انتصارات إسرائيل العسكرية منذ وﻻدتها، يمرّان في السنوات اﻷخيرة،على وجه الخصوص، بمتغيرات تراكمية ، يجري اليوم تحوّلها الى متغيرات نوعية ، لغير صالح اسرائيل .

فالوﻻيات المتحدة التي تفرّدت بعد انهيار اﻹتحاد السوفياتي بمكانة القطب اﻷوحد للنظام الدولي، راحت تفقد بسرعة قياسية هذا الموقع لصالح عالم متعدد اﻷقطاب. وقد تأكد هذا ، بنوع خاص ، في سلسلة الهزائم المدوية للسياسة الخارجية الأميركية ، بدءا باﻷزمة الجورجية عام 2008، ثم اﻷزمة اﻷكرانية 2014 ، ثم أزمات الشرق اﻷوسط منذ العام 2011 حيث استعانت الوﻻيات المتحدة بعصابات اﻹرهاب الدولي ، وراهنت عليها،ﻹسقاط اﻷنظمة المتمردة على إرادتها ، وتفتيت دول المنطقة الى دويلات طائفية وإثنية . فهذه العصابات تلفظ ، اليوم، أنفاسها في سورية والعراق . وبداهة ، فهذا الفشل المتلاحق للوﻻيات المتحدة ينسحب على إسرائيل بنفس المقدار، ليس فقط لمجرد التلاقي والتطابق في المواقف السياسية ، بل وللمشاركة اﻹسرائيلية الفعلية، الى جانب الوﻻيات المتحدة ، في جميع هذه المعارك.

وفيما يتعلق بمنطقة الشرق اﻷوسط ، لم يعد خافيا أن زمام المبادرة ، السياسية والعسكرية ، انتقل فيها ﻷيدي روسيا ، وأن الدور اﻷميركي فيها يتهمّش بالتدريج ؛ ويتلاقى هذا مع المتغيرات الجارية على اﻻستراتجية اﻷميركية الكونية. فقبل انهيار اﻹتحاد السوفياتي، كانت أولوية هذه اﻻستراتيجة ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية هي أوروبا، باعتبارها ساحة المواجهة المباشرة والرئيسية بين النظامين آنذاك؛ ثم انتقلت هذه الأولوية، بعد سقوط اﻹتحاد السوفياتي الى منطقة الشرق اﻷوسط التي تضم أكبر احتياطي عالمي من مصادر الطاقة. وﻹحكام السيطرة عليها ، شنت الوﻻيات المتحدة ثلاثة حروب عدوانية فيها حصرا. واليوم، ينتقل تركيز اﻻستراتجية الكونية اﻷميركية الى الشرق اﻷقصى، في محاولة لمواجهة التحدي الذي يمثله النهوض اﻷسطوري للصين، والذي يبشر بتجاوز الصين للوﻻيات المتحدة في الميدان اﻹقتصادي ، خلال سنوات معدودة. أكثر من ذلك ، فالتطور الجاري في عدد من الدول اﻵسيوية اﻷخرى، يشير- وفق التوقعات - الى قرب انتقال مركز الثقل الدولي من الغرب الى الشرق، بعد قرون عديدة.

وﻻ حاجة للتأكيد بأن أي ضعف ، نسبي أو مطلق، لقدرات الوﻻيات المتحدة ، سواءا على النطاق العالمي أو الشرق أوسطي ، هو إضعاف ﻹسرائيل وقدراتها العدوانية والتوسعية ؛ مأخوذ في الحسبان ، في هذا الصدد ، المتغيرات الجارية في منطقة الشرق اﻷوسط ذاتها، والتي راحت تبشر بتشكل موازين قوى جديدة فيها ضد إسرائيل الصهيونية وسياستها العدوانية التوسعية . فالنظام العربي المريض الذي كان يمثل أفضل مناخ لصالح سطوة إسرائيل في المنطقة تهتز، اليوم، أركانه، كما لم يحدث منذ خمسينات القرن الماضي . فالسعودية، التي تقود هذا النظام العربي، منذ هزيمة حزيران 1967، ووفاة عبد الناصر، ينحسر نفوذها في المنطقة بشكل مرئي للعين: في العراق، ولبنان ، ناهيك عن سورية، وتفشل حربها العدوانية على الشعب اليمني ؛ ومن جانب آخر، تنفجر قلعتها "مجلس التعاون الخليجي" من داخلها ، في مظاهرة تمرّد على الهيمنة السعودية، ويتلو ذلك انفجار النظام السعودي من داخله في صراع على السلطة ، وتتبخر ثروات الدولة السعودية بمئات مليارات الدوﻻرات ، بسرعة قياسية ؛ فقرابة نصف تريليون دوﻻر منها ذهب رشوة للسيد اﻷميركي لكسب رضاه عن الزمرة الحاكمة وانتقال السلطة فيها الى محمد بن سلمان ؛ ومئات المليارات اﻷخرى جرى ويجري تبديدها على التآمر والانفاق على عصابات اﻹرهاب التي تمّ تجنيدها لتدمير سورية والعراق.

بمعنى آخر:اذا كانت هيمنة النظام العربي ، بقيادة السعودية ، تبدو طاغية حتى الى ما قبل عامين من الزمن تقريبا، وتعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة ، كتجميد عضوية سورية في الجامعة العربية ، واغتيال الحراك الشعبي العربي وتحويله عن أهدافه الحقيقية ، بالدعم الأميركي - الاسرائيلي .. فان بداية الهزائم النوعية لعصابات الارهاب التكفيري في كل من سورية والعراق ، قلبت هذا المسار رأسا على عقب . وبمقدار تراجع واضمحلال سيطرة هذه العصابات على الأرض السورية والعراقية ، يتقلّص النفوذ السعودي، وبالمقابل، يتسع ويتعاظم نفوذ محور المقاومة ويتبلور كالقوة الاقليمية الأولى ، بل غدا مستوى نفوذ المعسكر الذي تقوده السعودية وهيمنته في المنطقة مرتبط ، الى حد غير قليل ، بمصير عصابات الارهاب التي راهن عليها وموّلها.

وفي محاولة يائسة لتدراك الهزائم المتلاحقة ، قام المحور السعودي - الأميركي - اسرائيلي مؤخرا، بهجوم معاكس ضد محور المقاومة في المنطقة ، وذلك على ثلاثة محاور، كانت نتيجتها الفشل المدوي . الأول - محاولة فصل كردستان العراق عن جسم الدولة العراقية؛ والثاني - اثارة الفتنة في لبنان ، باختطاف السعوديين رئيس وزرائه الحريري لعدة أيام ؛ والثالث - تغرير التحالف السعودي - الاماراتي بعلي صالح لاحداث انقلاب في صنعاء، انتهت بتصفيته.

وفي المحصلة العامة فان تأثير تراجع قدرات ونفوذ كل من الولايات المتحدة والنظام الرسمي العربي بقيادة السعودية في منطقتنا، يبدو اليوم جليا ، في تعاظم قلق الأوساط الحاكمة الاسرائيلية ، التي راحت تستصرخ الدعم الخارجي تحسبا من آفاق صراع اسرائيل المقبل مع محور المقاومة؛ادراكا منها بأن تصفية عصابات الارهاب التكفيري ، بخاصة في سورية والعراق ، تعني دون لبس، محاصرة وشل قدرات اسرائيل على العدوان والتوسع أولا، وثانيا - أنها ستغدو، طالما تواصل احتلالها أراضي الغير،هدفا لضغوطات هذا المحور المتعاظمة ، أي المواجهة معه وجها لوجه ، بعد سقوط الحواجز التي كان يمثلها وجود عصابات الارهاب التكفيري ، وكل ذلك في ظروف المتغيرات على موازين القوى ، في المنطقة، لصالح محور المقاومة على حساب المحور المعادي.
***
على صعيد آخر، يتراجع تأثير ونفوذ اسرائيل الصهيونية على الجاليات اليهودية في الخارج، والتي شكلت احتياطيا حيويا وهاما لها، وذلك مع تراجع موجات الانبهار بانتصاراتها العسكرية ، وبخاصة انتصارات 1948 و1967؛ هذا أولا ، وثانيا - نتيجة المزيد من افتضاح ممارساتها العدوانية - التوسعية والعنصرية ؛ وثالثا - تفاقم التناقضات بين حكام اسرائيل والجاليات اليهودية في الخارج ، على خلفية تطلعات حكام اسرائيل للهيمنة على هذه الجاليات . يشكو زعيم "البيت اليهودي" ووزير التعليم ، نفتالي بينيت ،قائلا:" ان ما يبقيني يقظا حتى في الليل، ليس أمرا شخصيا ؛ ولكنه مستقبل الشعب اليهودي في الشتات"، وأضاف :"المزيد من الشباب (اليهودي) لا يشعر بالقرابة مع اسرائيل"، (صحيفة الجروسلم بوست الاسرائيلية - 2017/10/13).

وقبل هذا بسنوات ، كان شارون في آخر خطاب له ، يوم 2005/5/23 أمام مؤتمرالايباك الصهيوني في الولايات المتحدة، عبّر عن قلقه على مصير اليهود خارج اسرائيل، قائلا: "ان حياة اليهود في الشتات لم تعد في خطر. لكن وجودهم كيهود نعم (أي في خطر)"، وأضاف:"الاندماج هو الآن الخطر الأكبر أكثر من أي وقت مضى".

والاستنتاج المنطقي من أقوال بنيت وشارون هو أن الحليف المفضل للصهيونية وحكام اسرائيل كان وما يزال هو نظام الغيتو الذي يعزل اليهود عن الآخرين خشية ذوبانهم؛ أما الوجه الآخر لهذا الحليف المفضل للصهيونية فهو العداء لليهود (أو العداء للسامية كما يسمّونه)هذا أولا، وثانيا : أن أعدى أعداء حكام اسرائيل الصهاينة هو السلام العادل مع المحيط ، خشية ذوبان يهود اسرائيل بدورهم فيه؛ وبالتالي : فصيانة اسرائيل الصهيونية هي ، من وجهة نظر حكامها ، في تخندقها داخل غيتو يهودي مغلق، سياجه العداء الدائم للآخرين .

لكن علاقة اسرائيل بيهود الولايات المتحدة على وجه الخصوص ، شهدت في الأيام الماضية توترا ملحوظا وتحوّلت الى نوع من الأزمة ، فنائبة وزير الخارجية، تسيفي حوتوفيلي ، هاجمت بشدة ، يهود الولايات المتحدة، وفي اطار ذلك اتهمتهم بأنهم يعيشون حياة مريحة ولا يرسلون أبناءهم للخدمة في الجيش (الأميركي) ، وأضافت :" هم غير قادرين على فهم الاسرائيليين الذين يقاتل أبناؤهم يوميا". ومعروف في هذا الصدد أن الخدمة في الجيش الأميركي اختيارية بينما في اسرائيل الزامية، وبالتالي، قلما ينضم الى الجيش الأميركي شبان يهود. من جانب آخر، نشرت صحيفة هآرتس يوم 2017/11/23 العنوان التالي : "الطلاق مع الشتات ، نتنياهو يتخلّى عن يهود الولايات المتحدة"؛ ومعروف أن نتنياهو استنكف هذا العام، كرئيس لوزراء اسرائيل عن التوجه الى مؤتمر منظمة "الايباك" الصهيونية الأميركية والقاء خطاب فيه، كما درجت العادة.

في هذا الصدد ينقل عضو الكنيست وزعيم حزب العمل السابق ،اسحق هرتسوغ، في مقال له في هآرتس ،2017/12/6، عن نتناهو قوله بصورة حاسمة "ان من سيبقى من الشعب اليهودي في المستقبل هم فقط اليهود في دولة اسرائيل ، وعلى المدى الزمني سنفقد دائما ملايين اليهود الآخرين في الشتات من مختلف التيارات"؛ من جانبه يعتبر هرتسوغ، في نفس مقاله سالف الذكر:"التهديد الأول على شعبنا اليوم ليس اللاسامية ، بل الاندماج - النزيف الشديد الذي يمس باستمرار الشعب اليهودي في الشتات".

يعلق الصحفي الاسرائيلي المعروف أوري أفنيري على أزمة العلاقة بين اسرائيل والجاليات اليهودية في الخارج ، في مقاله الأسبوعي،2017/12/2 ، بالقول:"ان أساس المشكلة هو في أن مجمل العلاقة بين الاسرائيليين ويهود الشتات قائم على كذبة : وهي الاعتقاد بأنهم نفس الشعب (أي اليهود في اسرائيل والخارج) وهم ليسوا كذلك". وبهذا المعنى ، فطالما تمسّك حكام اسرائيل بهذا الاعتقاد المغلوط ، فهم يعتبرون أنفسهم قادة ليهود العالم، وعلى الأخيرين الاقرار بذلك وبما يقتضيه من تبعية . وهذا يلقى المزيد من التمرد والرفض.

أما على صعيد الداخل الاسرائيلي ، فالتناقضات التي ولدت مع مولد الدولة تتفاقم ،وتتوالد أخرى جديدة. فعدا التناقض الاجتماعي - الطبقي الذي يفاقمه ازدياد الفجوة بين أصحاب الثروات وبين الطبقات الدنيا ، والتناقض بين اليهود من أصول شرقية والآخرون من أصول غربية ، وبين الأقلية القومية الفلسطينية في اسرائيل والاسرائيليون اليهود، هذا التناقض الذي يغذيه نفس النظام ويسعّره دون توقف .. هناك الأزمات التي تتفجّر بين المعسكر الديني والمعسكر العلماني من جهة، وبين تيارات المعسكر الديني نفسه من جهة أخرى ، منها أزمة تجنيد أبناء طائفة المتدينين (الحريديم)، في ضوء التزايد الملحوظ في عددهم ونسبتهم في المجتمع الاسرائيلي، حيث كانوا معفيين، منذ قيام اسرائيل من الخدمة العسكرية، وجرى مؤخرا سن قانون يلزمهم بهذه الخدمة التي يرفضونها؛ وهناك أزمة الصلاة أمام حائط المبكى ، بخاصة عقب الغاء حكومة نتنياهو ، في حزيران المنصرم، استجابة لضغوط اليهود المتزمتين ، تسوية سابقة بتقسيم المكان بأغلبيته للرجال والباقي للنساء والرجال غير المتزمتين ، وقد فجّر هذا أزمة مع اليهود من التيارات الدينية غير المتزمتة ، وبخاصة في الولايات المتحدة ؛ وكذلك أزمة شروط التحوّل الى اليهودية وتحديد من هو اليهودي، وتحريم الزواج المدني بالمطلق في اسرائيل ؛ وأزمة العمل أيام السبت في نشاطات حيوية للمجتمع، كالمواصلات العامة ، حيث اسرائيل البلد الوحيد في العالم الذي تتعطل فيه هذه المواصلات العامة يوما كل اسبوع ، هذه المواصلات التي يعتمد عليها القطاع الفقير في المجتمع كما تشير الصحافة الاسرائيلية؛ وأخيرا ، وليس آخرا، المساعي المطالبة باعادة فحص وتدقيق الوثائق التي حملها المهاجرون من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق أوائل تسعينات القرن الماضي لاثبات يهوديتهم، والتي اثيرت مؤخرا، بضغط من المتدينين المتزمتين في ضوء تعاظم الشكوك الواقعية حول زيف قسم ليس بالقليل منها .. وغيرها وغيرها من الأزمات التي راحت تتفاقم وتهدد بتفجيرالائتلاف الحكومي ، اليوم، والمجتمع الاسرائيلي غدا. في هذا الصدد، صرّح المدير السابق للموساد الاسرائيلي، باروخ باردو،قائلا:"ان الخطر الأكبر الذي يواجه اسرائيل هو الانقسام الداخلي وليس حزب الله "، وأضاف :"ليس لدينا حرب أهلية بعد، ولكن نحن نقترب منها بسرعة"(هآرتس 2016/9/1).

وفيما يتعلق بمكانة الدين اليهودي في المشروع الصهيوني وفي تاريخ اسرائيل منذ نشأتها، يمكن القول بأن الصهيونية السياسية التي افتقرت الى أي مبرر حقوقي أو أخلاقي لمشروعها الاستيطاني الكولونيالي في فلسطين لم يكن أمامها الاّ أن تغلّف - رغم علمانيتها - مشروعها بالغلاف الديني لتبريره. وبطبيعة الحال، ما كان للصهيونية العلمانية أن تأخذ الدين اليهودي بمعزل عن رجاله. وعليه تكرّس وجود ممثلين للدين اليهودي في جميع حكومات اسرائيل . ومع الزمن، ازداد وزن رجال الدين هؤلاء وتأثيرهم في حياة الدولة ، نتيجة لازدياد اعدادهم أولا ، بخاصة وأن المتزمتين (الحريديم) يتكاثرون بنسبة أعلى من غيرهم في المجتمع الاسرائيلي لتحريم تحديد النسل لديهم دينيا ؛ وثانيا ، لدورهم الفعال في عملية استيطان المناطق الفلسطينية ، بعد احتلال الضفة الغربية ، وتبريره دينيا. ولكن بمقدار ازدياد وزنهم في المجتمع الاسرائيلي تزداد مطالبهم المالية وغير المالية من جهة، وشروطهم الدينية التي يسعون لفرضها على المجتمع الاسرائيلي الذي ما يزال بأكثريته علمانيا. ومن هنا تتزايد عناصر المواجهة والاحتكاك بين المعسكرين العلماني والديني.
***
واذا كانت اسرائيل قد تعوّدت أن تهرب من أزماتها الداخلية بشن الحروب وأعمال العدوان على المحيط العربي، فان هذا الأمر قد تغيّر، اليوم، كثيرا. فأي حرب عدوانية جديدة تبادر اليها اسرائيل لن تكون خاطفة أولا، وثانيا لن يكون ميدانها على أراضي المحيط العربي وحده ؛ بل وفي الداخل الاسرائيلي بعمقه المحدود . وقد دشنت حرب 2006 في لبنان بداية هذا التحوّل الاستراتيجي ، ومنذئذ لم تجرؤ اسرائيل على تكرار عدوانها على لبنان ؛ هذا أولا ، وثانيا: سيلقى مثل هذا العدوان الرد من قوى محور المقاومة بجميع أطرافه ، من ايران بقوتها العسكرية المتعاظمة في السنوات الأخيرة، والجيش السوري الذي خرج منتصرا ، يتقن فنون الحرب العصرية ، من حرب عالمية تحشدت فيها عصابات القتلة من أكثر من ثمانين دولة ، مدعومة من الولايات المتحدة والغرب الامبريالي والرجعية العربية واسرائيل؛ الى حزب الله الذي تحوّل الى قوة قتالية اقليمية ، صنفه مؤتمر هرتسيليا الاسرائيلي كالخطر الرئيسي على اسرائيل ، علاوة على المنظمات الفدائية الفلسطينية، واحتمالات انضمام العراق أيضا الى مثل هذه المعركة.

وفي هذا الاطار، ينبغي أن يلاحظ بأنه ردا على الضعف والوهن الذي بدا على بعض الجيوش العربية التي نشأت في ظل أنظمة غير ديموقراطية، كالجيش المصري الذي انهار في العدوان الاسرائيلي، حزيران 1967، والعراقي، الذي انهار بسهولة مثيرة أمام الغزو الأميركي عام 2003، فان الشعوب العربية التي عانت وتعاني من نتائج غياب السياج الأمني المطلوب ، أفرزت تنظيمات عسكرية شعبية كحزب الله اللبناني ، والحشد الشعبي العراقي ، وانصار الله اليمني ( الحوثيون)، وهذه التنظيمات أثبتت جدارتها في المواجهات ولم تهزم في المعارك التي خاضتها حتى اليوم.

وغني عن القول ، في هذا الصدد ، أن خسائر اسرائيلية بعشرات ألوف الأرواح في أي حرب مقبلة، كافية لاحداث زلزال كارثي في المجتمع الاسرائيلي ، يدفع بأقسام أساسية منه للهرب والهجرة ، مأخوذ بالحسبان أنه مجتمع بلا جذور، حديث العهد في البلاد ، وقسم غير قليل منه ما زال يحتفظ بوثائق البلاد التي جاء منها ؛ وهذا بعكس آثار أي حرب مقبلة في الجانب العربي ذي العمق الاستراتيجي أولا ، والجذور التاريخية العميقة لأهله في هذه الأرض ثانيا. بمعنى آخر: اذا ما لجأت اسرائيل الى الحرب لكسر الطوق الذي يضيق من حولها ويحرمها من مغامرات العدوان والتوسع من جانب ، والهروب من أزماتها الداخلية المتفاقمة من جانب آخر،فان مثل هذه الحرب العدوانية ستكون مغامرة وجودية ، ومقامرة بمصير الدولة العبرية. وقد ينطبق عليها قول الكاتب المسرحي الألماني ، برتولد بريخت ، حول دولة قرطاجنة القديمة ، التي شنت ثلاثة حروب رئيسية ، خرجت من الأولى بانتصار مؤزر، وبقيت قائمة بعد الثانية ، واختفت من الوجود بعد الثالثة.

واذا كان حكام اسرائيل يرفضون ، حتى اليوم، أية تسوية مع الشعب الفلسطيني تعيد له الحد الأدنى من حقوقه القومية ، رغم التنازلات السخية التي طرحها في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني ، عام 1988، بقبوله دولة في الضفة والقطاع ، والقدس العربية عاصمة لها مع حل قضية اللاجئين وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194، ويصرّون ، بدل ذلك على حسم هذا الصراع التاريخي على قاعدة: "اما لنا أو لهم"، فان أي تغيير نوعي في موازين القوى في المنطقة ، في ضوء هذا العناد الكولونيالي، يعطي الفرصة والحق للشعب الفلسطيني لأن يرفع سقف مطالبه القومية ، بخاصة وأن قراري التقسيم وحق اللاجئين في العودة ، ما زالا قائمين . وكما هو معروف ، جاءت قرارات الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في أسوأ ظروف اقليمية ودولية تحيط بالقضية الوطنية الفلسطينية، ملامحها الأساسية:أولا- خروج مصر بثقلها النوعي من جبهة المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي، ثانيا - نفي منظمة التحرير الفلسطينية بعيدا في تونس ؛ وثالثا - بوادر انهيار الاتحاد السوفياتي.

بمعنى آخر، بمقدار تقدم عملية تشكل نظامين ، اقليمي ودولي، جديدين لصالح القضية الفلسطينية، فكل تأخر في تسوية الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني ، بسبب تعنت الطرف الاسرائيلي ، ينبغي أن يكون حافزا لرفع سقف المطالب الفلسطينية القومية ، حتى في اطار الشرعية الدولية، وذلك بمقدار المتغيرات النوعية على موازين القوى هذه .