الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

متى ينتهي ماراثون الثرثرة؟

نشر بتاريخ: 13/12/2017 ( آخر تحديث: 13/12/2017 الساعة: 10:03 )

الكاتبان: محمود الفطافطة وعدنان الشعراوي

قديماً قال المعلم الأول أرسطو:" الكلام تفكير بالفعل والتفكر كلام بالقوة" أما الآن فالعقل الفلسطيني مخصب بثرثرةٍ مجردة من فعل يؤثر وقوة تقرر... نقول ذلك ليس استخفافاً بهذا العقل الذي اجترح أيقونة المواجهة ضد أبشع احتلال عرفته البشرية؛ بل انقاذاً لما تبقى من حكمةٍ تأملية وعقلٍ فعال لديهما القدرة على إعدام نرجسية الأنا وإحياء العقل الجمعي كمخلصين لواقعٍ يتنازعه منافقي الشعارات وصائدي الثروات..
نتحدث هنا ليس عن الثرثرة بمفهومها التمردي على محتلٍ غاصب أو ظالم ناهب. فهذا المفهوم يجب أن يُستنبت في الوجدان والضمير والعقل الفلسطيني أملاً في تفريخه وتأصيله في الواقع المجتمعي بغية استحضار أوتاد القوة في مواجهة ذئب اليأس وشيطان التنازل وفيروس الاتكاء على أمثال جُبلت سيمفونيتها بأوتار العجز والانبطاح .. لا نقبل عقلاً متشظياً ومنشطراً بين غربة تُضعف وهشاشة فكر يُتبع وعبودية تمويل يشوه الاخلاق ويسلعن القيم.
ثرثرة التمرد واجبة؛ بل ولزاماً على المخلصين لشعبهم ولقضيتهم العمل على تأصيلها كفهمٍ عام ومنظم مروراً بتشجيعها وتنميتها وحمايتها حتى تكون فعلاً مناهضاً لسياسة الالهاء ومال التفسخ وشيخوخة القرار والمنصب. إذاً؛ مثل هذه الثرثرة بيضاء هدفها كنس البنية السوداء لسياسة متواكلة، ونمط مجتمعي متكلس، واقطاعات اقتصادية متوحشة، وبنية تربوية بطريركية، وخريطة تعليمية بلا مجداف تنويري، علاوة على مؤسسة دينية سكنت صحراء الاصالة دون أن تشرب من منهل الحداثة.
ولو عرجنا سريعاً على الجانب التعليمي فإننا نؤكد ـ هنا ـ بأن بعض مما يتعلمه الفرد في مؤسساتنا التعليمية لا سيما النظامية منها ترسخ ثقافة الخضوع والتبعية لنظامٍ سلطوي ينزع نحو الهيمنة والاقصاء. فالثقافة العضوية (كما تصورها غرامشي) تُنجب جيلاً واعياً لذاته مدركاً لما يحيط به من مستجدات وتحديات أما الفرد المجرد من هذا الوعي أو ذاك الادراك ما هو إلا كائن بشري سينزلق سريعاً في سراديب الاندماج والصهر الثقافي ضمن بيئة تطيح بقيمه وتشوه توجهاته وتضعف مقومات المواجهة والبقاء له..
ففي ظل وجود كائن بشري امتهن مهنة الثرثرة لا يمكن لأي مجتمع أن يستقيم ظله والعود أعوج.. بكلماتٍ اخرى: أن فاقد الشيء لا يعطيه .. في هذا السياق يتوجب تخليق نظام تربوي وثقافي يقاوم التحديات لا يساوم على الصغيرة قبل الكبيرة.. ما نذكره هنا يذكرنا بقول ادونيس " أن الشمس تضيء الغرفة ولا نقول الشمس تحرر الغرفة من الظلام".. ما يعنيه ادونيس هنا أن الواجب هو ليس شق الطريق بقدر وضع استراتيجية تحرر طريق العقول وطرائق الافكار من ظلمة الثرثرة وعبودية الكلمة المزينة بألفاظٍ صنمية لا يتشربها روح الفعل أو اكسجين التفاعل..
كذلك؛ فإنه لا قيمة لنظمٍ تربوية وتعليمية لا تواكب روح الحداثة مع التزامها بجذر الاصالة ... فالأصالة هي التي تبني قواعد التكوين المتين، فيما تؤطر الحداثة لمقومات التمكين نحو فضاءات ومسارات تؤهل هذا المجتمع أو ذاك لتحدي الضغوطات المتواصلة والمستجدات القابعة في ارضيات كل بيئة مجتمعية..
فالأنظمة السياسية في المجتمعات العربية لا تريد افراداً واعين ومنتجين قادرين على كشف فساد هذه النظم وتكلسها القيمي وتراجعها الحضاري.. مثل هذه الانظمة تريد فرداً ثرثاراً يدمن على شهوة الكلام كما ذكر يوماً الفيلسوف الكندي .
فالذي نراه طاغيا في المشهد الفلسطيني هو تمدد الطحالب الثقافية التي أدمنت على صيحة التنظير دون أن تجيد العزف على ايقاع التغيير. هذه الطغمة الثقافية ( مثقفو الاستعمار وأحزاب الاصفار) التي تشربت بماء التسول الفكري ـ لتهيمن عليها رواسب الايديولوجيات المصطنعة والثقافات الهجينة ـ لا يمكن لها أن تكون حاملة للمشروع الوطني أو مؤهلة لأن تكون سدناً وسنداً لأصلانية القيم .
بخصوص الثرثرة بمفهومها السكوني فهي تمثل الاستكانة على أنها قدر وراحة الذل على أنها زمن ينقضي. فالسكون هنا ليس هو صمت يتبعه فكر تثويري أو انتظار لوثبةٍ احيائية بل هو مجرد سكون يقوم على ثنائية التفرج كشاهد لا مقرر، والتبعية ككائن لا انسان. السكون وفق هذا المفهوم هو كائن يتلذذ بسادية الأنا نحو الآخر دون أن يستثني نفسه هي الاخرى من سياط ساديته.
فالفرجة والثرثرة هي أيديولوجيا بلا منازع. مجتمع يتفرج ويثرثر في كل شيء إلا في نفسه وعن نفسه هو مجتمع لا يمكن له أن ينسج خيوطاً للوحدة أو أوتاداً للقوة والمنعة.. وكلما أصبحت الثرثرة ظاهرة إلى حد الثقافة كلما أصبح العقل موبوءاً بإشاعة تحرق وضعف يسفك قيم المجتمع..
الثرثرة فيزيئياً هي دينامية لعضلة اللسان بينما سيكولوجياً هي أداة لتعجيز الفعل وفقدان الفرد بالإحساس نحو ذاته ككينونة ونحو مجتمعه كتواصل وانتماء... إذاً الثرثرة بمفهومها الاجتماعي السلبي تخلق لدى أصحابها مهارة المناطحة اللفظية دون أن يدركوا أن واقعهم يحتاج إلى مبارزة من نوع آخر؛ مبارزة للواقع المتردي بما ينتجه من عادات مقيتة وأفكار متكلسة ومستوردة ..
فالذين يوهمون الناس وانفسهم بأن الحقيقة تبدأ وتنتهي عندهم ما هم إلا منتجات معلبة لا تنتج قوة أو تأثيراً بقدر ما تتمظهر بالقوة وتدعيها.. مثل هؤلاء يشجعون اللسان الناعم ويحاربون اليد الخشنة باعتبارها يد فاعلة مجربة في ماء العقل المتمرد على الظلم والمتجاوز لكل انانية ووصولية مقيتة..
فالرأسمال المعولم المشكوك في قنوات تحصيله أصبح له مفعول السحر؛ فهو اللاعب المركزي في المشهد السياسي والمؤثر في بنية الوطن والمخترق للهوية وثقافة الأنا الجمعية المعبرة عن روح القضية وانسانية الفلسطيني ... الفلسطيني يواجه احتلاله شرساً لا يعترف بوجود الفلسطيني كجسم فيزيائي ؛ لذا فالمواجهة معه ضارية ولا يمكن لها أن تتأتى في ظل انسياب مال معولم يمثل صورة قريبة إلى الاستعمار المالي الذي يقيد الافكار السامية ويجهض الافعال النبيلة كهدف نهائي لتسليع الروح قبل الجسد والضمير قبل الفكر...
المال الاجنبي لا نراه يوظف في الاطار التنموي بل في الحيز الاغاثي.. بمعنى أن الهدف المرسوم لهذا المال هو بناء الجيب أكثر من الالتفات لتنمية وتقوية الشعب.. الدول المانحة لا سيما أميركا ودول اوروبا الغربية لا تريد لهذا المال أن يؤسس لمجتمع فلسطيني متماسك قادر على الاطاحة بالاحتلال والتخلص من بشاعته ولعناته..
هذه الدول تريد لما يسمى بالتسوية السياسة أن تتواصل وإن لم ينتج عنها حلاً.. إنها ملهاة التسوية .. حركة بلا حراك.. وبذور للشعارات دون استنبات للمشاريع السياسية أو الاقتصادية التي من شأنها أن تعين الفلسطينيين في حياتهم وتقوي من شكيمتهم أمام احتلال لا يجيد سوى الدماء.. احتلال لا يشبع من القتل ولا يفتر من النهب ولا يتحلى حتى بأخلاق المحتلين إن وجدت.. إنه عصابة سرقة وقتلة ..
هذا المال الذي يتخيله البعض بأنه يبني وطناً هو في الحقيقة يعطب انساناً وقضية .. كم من الأموال اغدقت من بداية اوسلو وما تلاها فأين هي وما هي تجليات انفاقها ومشهد تنميتها للواقع ؟.. سنوات طوال وهذه الاموال تنهال على المؤسسات الرسمية والاهلية والمدنية دون أن نحصل على اقتصاد مستقل يخلصنا من تبعية اقتصاد المحتل أو تنمية مستدامة تخفف على كاهل عائلاتنا ألم العوز وعلى شبابنا لعنة البطالة والتمسمر في مقاهي الثرثرة.
الثرثرة ببعدها السلبي تخلق انساناً متخيلاً لا يتعامل مع الحقائق والوقائع بل تنتج فرداً منمطاً يحلم بواقع متخيل وانطباعات هائمة نجد حصادها الوافر متمدداً في تقنيات وسائط الاعلام الجديد.. الثرثرة هنا اكتشفت طريقة جديدة للتصنيع والتمدد.. ففي صورتها الكلاسيكية نجدها متجسدة في الحواري والمقاهي والمؤسسات بينما عبر تجلياتها الحداثية نجدها متجذرة في هذه التقنيات الحديثة .. الثرثرة بواقعها الميداني والاخر الافتراضي تتعانق معاً لتشكل مشهداً ثرثارياً لا يدفع نحو التغيير الأمثل بل الارتماء والاتكاء إلى حد الادمان في ساحة العين فيها رهينة لشاشة هي نافذته على الواقع .. شاشة يرى فيها ذاته دون أن يخلق من ذاته أداة فعل خارج هذه الشاشة. المقصود هنا فعل الميدان لا السكون لجهاز الكتروني أو الاستكانة لأخبارٍ توجهها سياسات المال والأمن والايديولوجيا.
فالانتماء السياسي إلى القوى الشعبية وللمسار الثوري المقاوم وليس للمسار المثرثر المتفرج هو نقطة حاسمة لإجهاض مشاريع الردة والالتفاف والسير مع حركة التاريخ وصولاً إلى الترقي والتمدن والتعقل والخروج من ضبابية الهدف وشرنقة الثرثرة الى واقع الوضوح والشجاعة..
من أجل تحقيق ذلك لا بد من تثوير كافة الطاقات المجتمعية خدمة لمشروع التحرر الوطني .. مشروع يكنس فيه الاحتلال وكل من يساومه على حقوق الشعب والقضية.. في هذا الاطار لا بد من أفساح المجال للطاقات الشابة والتي ساهمت في النضال والعمل الثوري وما زالت تناضل.. هذه الشريحة لديها الكفاءة والارادة والادراك الشامل لحقيقة الواقع شريطة أن يتاح لها الفرصة.. هذه الفئة تعرقل مهامها أحزاب وجهات وتوجهات لا تريد للدماء أن تتجدد أو للنشاطات أن تتميز وتتفرد... لذا يتوجب على الشباب اختراع تعابير ومفاهيم جديدة قادرة على فهم وتحليل وتغيير الواقع لا الانتظار بعيداً .. فقوة الشباب هامة فإذا لم تستخدم اقحم في ميدانها خلايا محبطة وطحالب مساومة ..
كما أن أعادة بناء فهمنا للعالم يمر عبر أعادة صياغة منطقية لطريقة عقلنا في التفكير وسبل التعبير وزحزحة البنية التقليدية من موقعها السلطوي وزرع بدلا عنها بنية ثورية اصيلة كبديل عن كلام الصالونات والصراخ والأصوات المثرثرة الهابطة..
علينا أن نكون أحراراً في دواخلنا حتى نحرر أرضنا وتراثنا من احتلال مجرم وشرس... فالحرية لا تعني أن يكون بوسعنا فعل أي شيء. بل هي الانتصار على عجزنا وتسديد أفعالنا نحو الارتقاء بذواتنا الفردية والجماعية. فعدم اكتمال الاستقامة الثورية قد يكون بسبب انحراف تيار الوعي السياسي من التعقيد نحو التبسيط ومن التعدد نحو الاختزال. ومن الشمولية وتقدير وتمجيد العمل الثوري إلى التنقيص والسخرية واحتقار النضال. وما إلى ذلك أيضا من ثرثرة سوداء تبخس العمل النضالي وتسلعنه..
لا نحارب الثرثرة التي تطالب بسلب السكون ومواجهة كل ظالم ومحتل.. الثرثرة التي نحاربها هي الثرثرة التي تغذي الضعف والهوان في عقول ونفوس الناس... الثرثرة المقيتة هي التي تؤسس لتفكير اجتماعي متخاذل وسياسي متواطئ.. ثرثرة استسلامية قد تتحول يوماً إلى دين دغمائي تغدو كتبه نصوصا مقدسة لا تناقش ويغدو مفكروها أنبياء وربما ألهه معصومين من الخطأ.
بدأنا مقالنا بمقولة ارسطو ونريد أن ننهيه بمأثورة كارل ماركس: ازدهرت السماء عندما ابتأست الأرض. نتمنى أن لا تزهر فلسطين بشوك الثرثرة بل نريد لها أن تزهر بوقود المقاومة وتثمر برحيق التحرر والحرية والكرامة.. ليس هذا مستحيلاً طالما بقي روح الأمل في النفوس وسيبقى.. هل تموت الشعوب ؟ هل تبتئس؟ هل تنهزم ؟ بالطبع لا... فلسطين خصبة بالدم وكذلك بالأمل بالتحرر وسيادة الذات وإن رأى البعض أن الثرثرة هي خصبة كذلك.. ستموت الثرثرة وتحيا المقاومة بكل طرائقها وأفكارها...