الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

شعر جدير بوطن- قراءة في ديوان فاصلة للحب فاصلة للوطن

نشر بتاريخ: 27/12/2017 ( آخر تحديث: 27/12/2017 الساعة: 20:32 )
شعر جدير بوطن- قراءة في ديوان فاصلة للحب فاصلة للوطن
بقلم د. سعيد عياد
حين لا تكون الكلمات كما الكلمات الأخرى، ولمَّا تكون الفواصل غير الفواصل التي نعلمها، فيتيعن على القارئ أن يدرك أنه في حضرة القداسة الكبرى، ولاسيما إذا كانت الفواصل للحب وللوطن معا، ومن يكون في حضرة الحب والوطن في آن واحد فتكون مشاقه أكبر لأن الاختيار بينهما مستحيل.
تساءلت وأنا أموج بين كلمات " ديوان فاصلة للحب ... فاصلة للوطن" للشاعر المميز د. معين جبر، هل يمكنني أن أفاضل بين الحب والوطن أو على الأقل هل يمكنني أن أعيد ترتيب العنوان، فاصلة للوطن أولا ثم فاصلة للحب ثانية على عكس ما رسمه الشاعر في عنوان ديوانه المتفرد ؟ اكتشف مبكرا وقبل أنهي قراءة القصيدة الأولى أن مهمتي مستحيلة، لأن الوطن هو الحب والحب هو الوطن، وما الفاصلة بينهما سوى حب كامن لا يدركه إلا شاعر محترف يكتب لقارئ يدرك قداسة الكلمات.
من الكلمة في الديوان استوقفتني الكلمات الثائرة، هي من المرات القليلة التي أقرأ فيها شعرا يرنم بموسيقاه ثورة من كلمات، فاصلتها شعر، حروفها تنسج قصة وطن، فتراءت لي فلسطين المقيمة هنا على صدر التاريخ والحياة، كما تجلّت فلسطين في المنافي معلقة على جدار قلب كل فلسطيني ينتظر العودة الأكيدة. هي فاصلة للحب وفاصلة للوطن، عنوان يختطفك من يأسك من تيهك ليعيدك إلى نفسك حرا وليصنع على عينك مستقبلا لا يقبل المساومة أو الجدل.
" لا تساوم" في جوف الحرف تحدٍ، ف" يهَزْمُ التّاريخَ عُمْرًا...،
وَهْوَ يَسْمْو...، وَيُقَاومْ ".تلك هي الحكاية الأولى الأزلية، ولا تنتهي فما دام الفلسطيني يقاوم. ما دامت الكلمات تسجل بحروفها وفواصلها تاريخا لا يُهزم.
يفتح الشاعر معين بقصائده التي ليست مثل القصائد الأخرى، ذاكر تنا على ماض نقي، كما يحفز وعينا على استشراف الأمل القادم رغم أن ما بين الماضي والقادم واقع مرير. ما أقوى الفواصل والكلمات حين تُبقي الوطن عظيما رغم كل عثرات الواقع.
حين تتمعن في الكلمات ستكشف أن كل كلمة قصيدة، ولكل قصيدة لحن خاص بها، وهذه كلها تعزف قصيدة واحدة هي قصيدة وطن أو قصيدة حب، يعيش فينا ونعيش فيه، ما أروع الشعر حين يُؤلِّف من كلمة أو مجموع كلمات قصة الخلود الفلسطيني.
هكذا نجح الشاعر د. معين حين نسج من كلماته قصتنا، فيكفي أن تقرأ ديوانه لتعرف من نحن وأننا لن نكون إلا ما كنا " ما أعْظمَ ما كُنا" ، وسيبقى الوطن فلسطينيا مهما كانت المنافي بعيدة. فالوطن يسافر بتفاصيله بحقوله ووديانه فينا ولا نسافر عنه فيبتعد، هو معنا في المنافي والحضور لا يتغير ولا يُستبدل، فنحن نعيش في الوطن وإن كنا نسكن في ما وراء الأفق. الم يقل الشاعر مغنيا " بكفر سابا" قريته الأولى والأبدية،" وعند الرحيل.. أُرحل دمعي... إليك .. رحيلا رحيلا ""
فلا شيء يروي ظمأنا الوطني سوى فلسطين الواحدة الوحيدة الباقين ببقائها، هكذا هي الحقول والبيادر العميقة كما صورتها قصيدة ظمأ. فسنبقى للوجود عطشى، وللحياة نفتقد، إذا ما كانت الحقول ليست حقولنا ولا الوديان ليست فلسطينية.
نحن لا نقبل الجدال في روحنا، فلا تجادلنا أيها الطارئ، لأن هناك من جادل فانكسرت عصاه، هو لا يعلم أن موتنا حياة، فقبورنا لا تكشف عن أسرارها، لأن من فيها سينهض يوما، أليس الشَّهيدُ هو وحده الذي يعرف الطريق إلى المدى، ولذلك وحده يملك السر الأكبر، أتدري لماذا لأن عينه لا تغفل ولا تنام حتى في قبره فعينه على القدس، ومن عينه على القدس لا يُكسر ولا يموت.
هكذا يمضي الشاعر معين يرسم بكلماته الفنانة أعظم جدارية على قلب الوطن، "وَأنا المَسَـافــَـة ُفي جــِدار ِ الوَقــْـت ِ ... والنــَّـخـْـل ِ المُسَافـِـر ِفي خــَـلايا الــَّـلــَـيـْـل"، فكيف لا وسيفه ما زال مشهرا " فأشهر حسامك ... في الوغى" فكل السيوف أمام حقك هباء فلا "تخشَ من سيفٍ " ذلك هو الأسير الذي " يَعيشُ بِنَشْوَةِ الأملِ... بلا خوف ولا تيه". فنحن لا نخجل من نضالنا من أجل الحياة من أجل الوجود "لا تخجلْ...احْمِلْ جرحي وترجل" .
.
أجاد الشاعر د. معين في سرد تاريخ عظيم في لوحات شعرية وجيزة بليغة رصينة الكلمات عميقة كما وأنك تنظر في كون لا قرار له، الشعر هو فن الكلمات، فن نرسم بكلماته وجودنا وإلا كيف يكون الشعر قصيدة خالدة إذا لم ترسم موناليزا بالكلمات ؟ هكذا كانت كل قصيدة في ديوان "فاصلة للحب وفاصلة للوطن" "موناليزا" اليوم، فكيف لن يُكتب لهذه القصائد الخلود.
وقد أُجيز لنفسي أن أطلق عليه "الديوان الرواية أو الرواية الشعرية أو الشعر الرواية" ، فالشعر هو ليس موسيقى وقافية وعروض وبحور فحسب، وهو كل ذلك، ولكنه أيضا أن تقول الكلمة الواحدة أو اللوحة الشعرية الواحدة فكرة ونصا ولحنا وإحساسا، ما لا يرويه كتاب كامل، فخلت وأنا أتمعّن في قصائده أنني أقرأ رواية ملحمية، وهذا يؤكد براعة الشاعر في أنه نسج من فنين من فنون الأدب فنا واحدا ، ففي الديوان تقنيات الرواية من سرد ووصف وحوار وخيال وصراع صاغها بلغة شعرية شاعرية متقنة، فأحكم البناء وأحبك كلماته بإبداع فأغناني عن قراءة دواوين أخرى وروايات أخرى، فأخال أن شاعرنا هو واحد من معدودين أتقنوا هذا النحت الإبداعي، وهذه هي عبقرية الشاعر.
فقرأت في هذا الديوان قصة وجودي الفلسطيني، وهذه ميزة الشاعر الفنان المؤرخ الثائر، حين يتقن فن صناعة الكلمات، فتتحول كل كلمة لقصيدة كاملة، بل أكثر من ذلك، تتحول كل قصيدة إلى صورة وطن في قلب كل قارئ ووعيه. ولا أظن شاعرا إلا ما قلَّ، تفنن مثل الشاعر معين في تصوير رحلة طويلة للفلسطيني في المنافي وكذا رحلته العائدة إلى الوطن، فحين انثالت كلماته قصائده في وعي كان شريط طويل من الماضي ورؤية عميقة نحو المستقبل تتشكل أمامي كما وأنني أقرأ كل هذا على صفحة أيامي، فهو استفزَّ كلماته لتغادر حروفها لتصير في الوعي صورا لوطن.
ومن يفعل ذلك إلا إذا كان الشاعر، شاعرا وفنانا وإنسانا، هكذا كانت فاصلة معين للحب وفاصلة للوطن. إنها فاصلة بين السقوط والانتصار، فممنوع على الفلسطيني الانكسار، ممنوع عليه ألا يحب غير فلسطين ، فلسطين الوطن والفلسطينية الإنسانة، ألم ير في زوجته وطن " وَ(جَميلـَةٌ)...، "سَـحَـرَتْ فـُـؤادي عِـنـْـدَمَا.... !!قـَـلـْبي إلــَيـْها قـَدْ .... !!تـَوَسـَّلْ".
فمن يخبئ الفلسطيني في عينيه سواها فلسطين والفلسطينية، وليس غيرها فيغفو الفلسطيني في سهوتها عاشقا أبديا . وهل ثمة هناك من ينافس فلسطين في حبها حتى ولو كانت كل حوريات السماء والأرض. حتى لو كانت الأوطان الأخرى كلها .
بمجرد أن انهيت رحلتي بين كلمات ديوان " فاصلة للحب وفاصلة للوطن" أحسست كم أن فلسطينيتي عظيمة كم أن الإنسان فينا عظيما. فما أروع الكلمات حين تكون جديرة بوطن.