السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الدولة المقصلة

نشر بتاريخ: 19/01/2018 ( آخر تحديث: 19/01/2018 الساعة: 10:21 )

الكاتب: الأسير كميل أبو حنيش

انهمكت الساحتين السياسية والإعلامية منذ مدة في جدالٍ صاخب حول القانون الذي اقترحه "ليبرمان" القاضي بإعدام المقاومين الفلسطينيين بعد أسرهم، والهدف المعلن لهذا القانون يرمي إلى ردع الفلسطينيين والحد من مقاومتهم للاحتلال.
وبعد جدالات مطولة ومساومات سياسية امتدت لأكثر من ثلاثة أعوام أقر "الكنيست" مؤخراً القانون "القراءة الأولى" حيث يحتاج إلى قراءتين إضافيتين حتى يصبح القانون نافذاً، علماً بأن قانون الإعدام موجود بالأصل ويحتاج إلى ثلاثة قضاة حتى يجري تنفيذ حكم الإعدام، أما قانون ليبرمان المقترح فيكفي قاضيين للحكم بإعدام الأسير الفلسطيني ويجري بعدها تنفيذ الحكم.
ويأتي هذا الصخب حول إقرار القانون في إطار الحالة اليمينية التي ما فتأت تتفشى في إسرائيل من ناحية، ومن ناحية ثانية يأتي في إطار المزايدات بين أحزاب اليمين الإسرائيلي التي تشكل الحكومة في محاولةٍ للظهورِ في مظهر "الأكثر تطرفاً" بهدف إرضاء الشارع اليميني استعداداً للانتخابات القادمة، وما يثير السخرية بهذه الجدالات من جانب المؤيدين والمعارضين للقانون هي تلك المحاولات البائسة من جانب الطبقة السياسية الإسرائيلية لتجميل وجه إسرائيل وكأنها لا تمارس الإعدامات، وبهدف الإيحاء إلى أنها مضطرة لسن مثل هذا القانون دفاعاً عن نفسها وهذا طمس للحقائق والوقائع اليومية من العنف الممارس من قبل الدولة.
إن فكرة إسرائيل ووجودها هي بمثابة إعدام لشبٍ كامل فإسرائيل التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني لم تتوقف يوماً واحداً عن الإعدامات والقتل والحروب والتهجير ومصادرة الأراضي والاعتقالات وهدم البيوت والحصار والتجويع والإفقار, كلها ممارسات تنطوي على إلغاء شعبنا من الوجود وإحلال الوجود الاستيطاني اليهودي مكانه, وتاريخ إسرائيل حافل بالمجزر والإعدامات وهي أكثر من أن تحصى, وتكفي الإشارة إلى بعض الوقائع والأحداث ونقتبس بعضها من كتابات مؤرخين ومثقفين وساسة إسرائيليين, فقد كشف المؤرخ الإسرائيلي "إيلان بابيه" في كتابه "التطهير العرقي" عدداً من الأحداث التي تروي فظائع ارتكبتها عصابة الهرتزل اليهودية في عام 1948 وهو المعروف بعام النكبة, حيث كشف الكاتب عن تدمير أكثر من 530 بلدة فلسطينية وتهجير قرابة 800 ألف فلسطيني, وجرت عملية قتل الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ وإعدام معظمهم بدم بارد, فضلاً عن عدد كبير من حالات الاغتصاب الموثقة, ففي مذبحة دير ياسين مثلاً جرى إعدام المئات معظمهم من النساء والأطفال واغتصاب عدد من النساء قبل قتلهن, ولم تكتف العصابات الصهيونية من ارتكاب هذه الفظائع وإنما عمدت إلى تجميع جثث الشهداء وإشعال النيران فيها في محاولة لإخفاء آثار هذه المذبحة, وقد تفاخر "مناحم بيجن" الذي كان يقود منظمة الهرتزل التي ارتكبت هذه المجزرة حيث علق قائلاً: (ما جرى في دير ياسين هو انجاز رائع) أما نائبه "حايم" فقد وجه رسالة إلى قادة العملية التي أعدمت أهالي دير ياسين, وتقول هذه الرسالة: (تقبلوا تهانينا على هذا النصر انقلوا للجميع أفراداً وقادة أننا نصافحهم فخورين بروحهم القتالية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل إلى هذا النصر في دير ياسين وفي غيرها سنقتحم ونبيد العدو), والحقيقة أن مجزرة دير ياسين ربما غطت على غيرها من مجازر وفظائع ارتكبتها العصابات الصهيونية أثناء النكبة, وما حدث في مجزرة عين الزيتونة حيثُ أُعدم المئات واختُطِفت عشرات النساء وجرى جثث الأطفال الرضع والنساء فلا يختلف كثيراً عما حدث في دير ياسين, وما حدث أيضاً بمسجد دغمش في اللد لا يختلف كثيراً عن بقية المجازر حيثً أُعدم المئات من الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد وهم محتمون داخل المسجد, وبوسعنا أن نتحدث عن عشرات المجازر الأُخرى كما حدث في الطنطورة وميس الكروم وغيرها, أما مسألة تسميم مياه الشرب وغيرها فهي أيضاً معروفة, حيث سقط عشرات الشهداء جراء هذا التسميم, وكانت مكبرات الصوت اليهودية تنادي أهالي عكا (استسلموا أو انتحروا, سنبيدكم حتى آخر رجل فيكم), وهذه الممارسات الإجرامية كانت محكومة لظروف الميدان كما يدعي بعض المؤرخين والقادة السياسيين, إنما سياسة ممنهجة صممها الآباء المؤسسين الأوائل لهذه الدولة الفاشية ومؤسس هذه الدولة "دافيد بن غوريون" هو من وضع الأساس في ثقافة الإعدامات والمجازر, حيث صممها الآباء المؤسسين الأوائل لهذه الدولة الفاشية, ومؤسس هذه الدولة "بن غوريون" هو من وضع الأساس لثقافة الإعدامات والمجازر, حيث قال أثناء الحرب (يجب الضرب دون رحمة بمن في ذلك النساء والأطفال, ولا ضرورة للتمييز بين المسلم وغير المسلم), هذه هي مواقف وتوجيهات الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل التي وضعت حجر الأساس في تحويل إسرائيل كدولة أشبه بــ"المقصلة" لإعدام شعبٍ كامل, ومنذ النكبة لم تتوقف الإعدامات الميدانية يوماً واحداً, ويكفي التذكير سريعاً ببعض الوقائع والمحطات المعروفة الشاهد على سياسة الإعدامات الميدانية التي تنتهجها إسرائيل منذ نشأتها إلى اليوم (كفر قاسم, الساموع, قبية, نحالين, إعدام الجنود المصيريين في سيناء عام 1967و تصفية المئات من الفدائيين الذين كان يجري أسرهم في المعارك على الحدود, إعدامات الآلاف من المقاومين والمدنيين والأطفال أثناء الانتفاضة الأولى و الثانية, أما الحروب التي شنتها إسرائيل في إعدامات جماعية وعشوائية للمدنيين الآمنين, ويكفي التذكير بالحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان في الأعوام "1982,1992,1996,2006", وكذلك بالحروب على غزة أعوام "2008, 2012, 2014" , حيث جرت إبادة آلاف من العائلات بأكملها, فهل تحتاج إسرائيل لسن قوانين لشرعنة هذه الإعدامات الشاملة؟!!
هذه الإعدامات الفردية والجماعية أكثر من أن تحصى, لأن ثقافة العنف والإبادة كامنة في فكرة إسرائيل منذ نشأتها إلى اليوم, ولا يمكن لهذه الدولة أن تقوم بدون العنف كأنها تنتمي لنمط الدولة الفاشية العنصرية التي لا يمكن أن تقوم الا على أنقاض الشعوب الأُخرى.
وتشكل المرجعية الدينية التوراتية أساساً في سياسة العنف والإبادة ليس لدولة إسرائيل فحسب وإنما أيضاً للولايات المتحدة الأمريكية التي قامت على أنقاض عشرات ملايين السكان الأصليين, ويقول "روجيه جارودي": (إن فكرة الشعب المختار هي أكثر الأفكار دموية في التاريخ البشري, وهذه الفكرة مع تطعيمها بمعارك "يشوع" الأسطورية أوحت للمستوطنين البروتستانت الانجليز لإبادة عشرات الملايين من الهنود في القارة الأمريكية الشمالية وحدها) ويضيف "جارودي": (فثقافة الإبادات التي عاشت عليها فكرة أمريكا مستمدة من فكرة إسرائيل), و"سفر يشوع" التوراتي يروي حكايات الإبادات الجماعية للشعب الكنعاني وأبرزها مذبحة أريحا, حيث لم ينجو من هذه المذبحة لا البشر ولا حتى الحيوانات, فهذه الأسفار التوراتية وأبرزها سفر يشوع تشكل المرجعية لممارسات هذه الدولة, حيث يقول بن غوريون: (إن الجيش الإسرائيلي خير مفسر للتوراة), فهذه العبارة لها دلالات عميقة تعكس مدى الارتباطات العلنية بين ممارسات إسرائيل والمرجعية التوراتية بأسفارها البربرية وخاصة سفر يشوع.
وسفر يشوع سفر المذابح والإعدامات الجماعية مقرراً في المدارس الإسرائيلية يعلمونه للتلاميذ الصغار من الصف الرابع الأساسي وحتى الصف الثامن, والآباء المؤسسين لإسرائيل وكافة قادتها السياسيين والعسكريين والأمنيين كلهم متورطون بهذه الجرائم, وهم من صنعوا تاريخ إسرائيل الحافل بالإعدامات الجماعية ولكل واحد منهم بصمته الخاصة بهذه الجرائم "ديفيد بن غوريون" "ليفي أشكول" "جولدا مائير" " اسحاق رابين" "مناحم بيجن" "اسحاق شامير" " شمعون بيرس" "إيهودا باراك" "أرئيل شارون" "إيهودا اولمرت" "بنيامين نتنياهو" وكافة وزراء الدفاع ورؤساء الأركان والقادة الأمنيين وعدد كبير من الضباط الذين تفاخروا كلهم بهذه العمليات الإجرامية, كما أن رجال الدين والحاخامات متورطون أيضاً في تصدير الفتاوى وإباحة القتل والإعدام للفلسطينيين والعرب, ويكفي بأن نستشهد بهذا النص للحاخام "اسحاق غينسبرغ" الذي كان يرأس المدرسة الدينية في قبر يوسف قرب نابلس, حيثُ قال: (ليس كافياً دراسة التوراة نظرياً دون الفعل الشرير الملازم لها), حيث تخرج على يد هذا الحاخام عشرات المستوطنين الذين ارتكبوا إعدامات فظيعة بحق الفلسطينيين, وأبرزهم ذلك المستوطن الذي أحرق عائلة دوابشة قبل أعوام قليلة, فقد كان تلميذاً نجيباً لدى هذا الحاخام, وكان يطبق أقواله حرفياً.
وحتى المؤسسة الأكاديمية ليست بعيدة عن تشجيع القتل والإعدام الميداني, فها هو "أرنون سوفر" أستاذ الجغرافيا في جامعة حيفا في تصريح لإحدى الصحف الإسرائيلية عام 2004, فيقول: (إذا أردنا أ، نبقى علينا أن نقتل ونقتل ونقتل طوال اليوم وفي كل يوم, وإذا لم نقتل سينتهي وجودنا), فهذه الدولة قامت وتأسست على أساس القتل والترويع ويمكننا اختصار سياستها وثقافة مجتمعها بالعبارة الشائعة التي يعرفها كل إسرائيلي (العربي الجيد هو العربي الميت).
والإعدامات لم تقتصر على البشر وإنما طالت الأشجار أيضاً, حيث يجري إعدام آلاف أشجار الزيتون سنوياً على أيدي المستوطنين تلامذة الحاخام "اسحاق غينسبرغ" وغيره من حاخامات التوراة المتشددين.
والمشروع الصهيوني لم يشكل خطرا على العرب فحسب إنما على اليهود أيضاً, فالصهاينة زرعوا القنابل في الأحياء والمقاهي اليهودية في بغداد والقاهرة وبعض الدول الأوروربية بهدف إقناع اليهود أن لا أمان لهم في الخارج, ويتعين عليهم الهجرة إلى إسرائيل.
أما عن البُكائيات التي ما فتئ الصهاينة يقيمونها لاستغلال "الهولوكوست", فالحركة الصهيونية ليست بريئة بل هي متواطئة مع النازيين في إعدام مئات الألوف من اليهود, فهذا "رودلف كاستنر" نائب رئيس المنظمة الصهيونية تعاون مع " أدولف آيخمان" أحد كبار النازيين, واتفق معه على تهجير 1684 يهودي من الأثرياء وتعهد لـِ "آيخمان" بنقل 476 ألف يهودي من يهود هنغاريا على أن يخفي عنهم "كاستنر" حقيقة إرسالهم إلى المحرقة بعد إقناعهم بأنها سفر عادي وأن عليهم الانتقال, وكانوا يساقون للمحرقة, فقد تمكنت إسرائيل من تحديد مكان اختباء "آيخمان" وجلبته إلى إسرائيل وحاكمته وأعدمته, لكنها لم تحاكم "كاستنر" الذي تواطأ معه, وهذا الموقف يتقاطع مع موقف مؤسس الدولة "بن غوريون" الذي قال عشية الحرب العالمية الثانية (لو خيرت بين إلقاء كل يهودي ألماني بجلبهم إلى انجلترا وبين إنقاذ نصفهم فقط بترحيلهم إلى أرض إسرائيل, لاخترت الحل الثاني).
ويعلق "ابراهام بورغ" رئيس الكنيست السابق الذي أصدر كتاباً بعنوان (لننتصر على هتلر), وجه فيه انتقادات حادة لممارسات إسرائيل وللثقافة اليهودية السائدة في إسرائيل, حيث يقول: (ان إسرائيل تحوي في داخلها عنصرية توراتية مكشوفة), ويقول أيضاً مشبهاً إسرائيل بالنازية (في إسرائيل طبقات ومستويات رهيبة من العنصرية التي لا تختلف في جوهرها عن تلك التي أبادتنا), هذه شهادة أحد قادة إسرائيل الذي لا يرى أية فارق بين إسرائيل والدولة النازية, فإسرائيل تنتمي لذات نمط الدولة الفاشية وممارساتها تنطوي على الإبادة للآخر.
وفي العودة لقانون إعدام الأسرى فان هذا القانون يثير السخرية والاستغراب في آنٍ معاً, وكأن هذه الدولة لا تطبق الإعدامات, وكأن كل هذا العنف والمجازر والإعدامات والروح الإجرامية الكامنة في فكرة إسرائيل ليست إعداماً, وهذا القانون الجديد لن يضيف شيئاً لمسلسل العنف والإرهاب الطويل لهذه الدولة, أما النقاش بصوت مسموع واعتراض البعض على هذا القانون ومحاولة الادعاء بأن ذلك من شأنه أن يسيء لسمعة إسرائيل, وكأن سمعة إسرائيل جيدة في العالم وكأن عدم إقراره سيحسن من صورتها, فإقرار هذا القانون من عدمه لن يغير من صورة إسرائيل القبيحة أصلاً فصورتها وممارساتها يعرفها العلم اجمع.
وفي كل الأحوال أعدمت إسرائيل عشرات الألوف من الفلسطينيين والعرب طوال تاريخ الصراع, ومنذ العام 1967 أعدمت إسرائيل أكثر من 200 أسيراً فلسطينياً جرى قتلهم إما في زنازين التعذيب أو ميدانياً أثناء الاعتقال أو نتيجةً للإهمال الطبي المتعمد, وإذا كانت إسرائيل تتوقع أن هذا القانون سيردع الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقه المشروع بالمقاومة والدفاع عن وجوده فهي واهمة, فشعبنا الذي خاض الثورة تلو الثورة ودفع تضحيات جسام في سبيل الدفاع عن حقوقه المشروعة لن تردعه هذه القوانين, وثورة العام 1936 شاهدةٌ على بطولات شعبنا حين كانت مشانق الانجليز ماثلةٌ أمام الثوار, لكنها لم توقف الثورة وأُعدم مئات الثوار على هذه المشانق ولم تنكسر إرادة الثوار, واستمر نضال شعبنا منذ أكثر من مئة عام دفع خلالها الغالي والنفيس والتضحيات الكبيرة.
في الواقع لن يتأثر شعبنا بهذا القانون ولن تتراقص أرجلنا خوفاً منه, وعلى العكس تماماً فإن إقرار هكذا قوانين يعبر عن القلق والخوف الذي تعيشه دولة الكيان, ويكفينا بأن نستشهد بما قاله الثائر العربي "عمر المختار" حين سأله أعداؤه بعد وقوعه بالأسر وقبل إعدامه: ( لماذا قاتلتنا وأنت تعرف أننا أقوى منكم وأن مصيرك هو الإعدام؟!) , فأجابهم: ( يكفي أننا قاتلناكم), وتلك إجابة بليغة للرد على عنجهية المحتلين في كل مكان وزمان, وهذا لسان حال كل ثائر على وجه هذه الأرض.
أما هذه الدولة "الدولة المقصلة" التي ما فتأت تجث رقاب شعبنا على مقاصلها منذ أكثر من 70 عاماً, بل منذ أن بدأ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين, هذا المشروع الذي حكم على شعبنا بأكمله بالإعدام لن تعيش بأمنٍ وسلام ما لم ينل شعبنا حقوقه كاملةً, وسيظل يقاوم ويقاوم دفاعاً عن حقه في الوجود, وسينتصر ذات يوم وستذهب هذه الدولة وقوانينها الفاشية إلى مزابل التاريخ.