الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

علاء البازيان بصيرة القدس في سجون الاحتلال

نشر بتاريخ: 22/01/2018 ( آخر تحديث: 22/01/2018 الساعة: 19:14 )

الكاتب: وليد الهودلي

هناك تلاقٍ كبير بين مسار حياة علاء البازيان والمسار التاريخي الحديث للقدس :
• في عملية فدائية فذة فقد فيها علاء البازيان بصره ، وعلى قدر ما هي قاسية ومؤلمة وكارثة حلت على علاء الا انها كانت مفصلا اساسيا من مفاصل حياته ، هكذا عندما اجتاح القدس احتلال غاشم جعل نهارها ليلا حالكا وأظلم فيها كل شيء ولم تعد القدس ترى النور والضياء ، والاحتلال يلقي بظلامه على كل القباب ، شكل ذلك مفصلا من مفاصل التاريخ المعاصر لامة فقدت قلبها وصارت جسدا بلا قلب حينما انتزعوا منها قدسها .
• ورغم جبروت هذا الاحتلال الا ان القدس لا تلقي سلاحها ، تبقى تواجه بعبق انفاسها وروح كبريائها ، لو تخلى عنها أصحابها وباعها الصديق المفترض ان يجيش الجيوش لنصرتها ، لو فقدت كل امكانات الحرب ولم تملك منه شيئا سوى نبضات قلبها وصدق ارادتها فانها لن تستكين ولن ترفع الراية البيضاء أبدا وستبقى شاهدة مع الحق مهما ضعف ومناوئة للباطل مهما علا وتجبر .. وهكذا علاء يصر دوما على التحدي والمواجهة حتى انه عندما أفرج عنه في صفقة تبادل سنة خمس وثمانين من القرن الماضي عاد ثانية حاملا للمؤبد .. ماذا فعل هذا الضرير ليعود بالمؤبد ثانية .. هو فاقد للبصر ولكنه متقد العقل والفؤاد فصنع ما لا يصنعه ذوي الايدي والابصار .. كان بامكانه ان يكتفي برصيده الثوري والاعتقالي من حبسته الاولى ويرضى يوظيفة محترمة وعيشة سمينة مرفهة ويحظى بالاحترام والتبجيل ، لكن احساسه المرهف بالقدس لا يمكن الا ان يلتحم نبضه بنبضها ويعزفا لحنا واحدا لا يحيد عن اغاظة الغاشم المحتل .
• القدس لا يمر عليها التزييف وتبقى واضحة وضوح الشمس رابعة النهار ، تبقى صارخة في وجه كل من حاول الباسها وصفا غير وصفها أو الحاقها بكيان غير كيانها او وضعها في سياق غير سياقها ، كل محاولات التهويد وتزييف التاريخ تتساقط بسرعة فقط اذا رمقتها أعين المسجد الاقصى او كنيسة القيامة ، لن تصمد ثانية أمام أسوارها او ابوابها او اسواقها العتيقة .. تكفيها نظرة من حارة السعدية ( مسقط راس البازيان ) لتولي هاربة الى حيث المدعين كلهم وعلى راسهم ترامب ذاك المأفون الذي جاء عكس حركة التاريخ بطريقة فجة وجبانة .
البازيان ببصيرته الحاسمة يقف في سجنه بالمرصاد لكل من يخرج عن سياق القدس .. لم أر مثله في تدقيق المصطلح .. اذكر عندما كنا في جلسات التحليل السياسي يتصدى لكل من يذكر دولة اسرائيل بالاسم ويجبر من تلفظ بها ان يعيد التعبير وهكذا كل مصطلحات الاحتلال ليعيدها الى مصطلحات الثورة ..
وعندما جاءت أخبار مؤتمر مدريد ومشروع اوسلو حيث كثر الحديث عن السلام وتداعياته أطلق البازيان لبصيرته العنان وأخذ يكبح جماح كل من يقع في شباك هذا السلام المزعوم ، اتخذ موقفا واضحا جريئا لا لبس فيه : انها الهزيمة والاستسلام ، انها ضياع القضية والقدس ، لم تبهره الاخبار التي تناولت الافراج عن الاسرى ولم يعط لذلك اية حسابات تعلو على حسابات القدس والقضية .. هو باحساسه كأسير يحب الافراج والنجاة من هذا الكابوس الفظيع الذي يسمى سجنا وهو بالذات كان في سجن داخل سجن بصفته ضرير حبيس الظلام الدائم اضافة الى حبس السجن ، ومع هذا لم يؤثر توقه للافراج ونيل الحرية على حسابات القدس المزروعة في أعماقه .. لم يكن الامر سهلا وكنا في حينها نتهافت على اخبار الافراجات بينما علاء يذكر بضياع القدس وتراجع المد الثوري الذي لا حل سواه لتحرير القدس ، لم تثنه او تفت في عضده ان يطلق سراح المئات من بين يديه من سجن عسقلان بعد توقيع اتفاق اوسلوا وما تلاه من الاتفاقيات ، بقي شامخا كالطود العظيم ينافح عن افكاره ويطارد الافكار الغريبة التي دخلت عالم السجون ، بقي ثائرا تتعلق روحه بحريته وحرية القدس معا ، لا يتصور أبدا ان ينال الحرية قبل ان تنال القدس حريتها ..
البازيان في سجنه يقود حركة تحرر على صعيد الفكر والروح ويبقى في مواجهة الطوفان ، لم يطلقوا سراحه ولم يشفع له السلام المزعوم رغم فقدان بصره ، الاحتلال يخشى البازيان الضرير ، كل اتفاقيات السلام! عجزت عن اطلاق سراح ضرير كان له ما يزيد عن ربع قرن الا ان أتته حريته على طبق من ذهب .. تنسم هواء الحرية ورأى ببصيرته اشراقة قبة الصخرة رغم انف الاحتلال ورغم انف كل الاتفاقيات ، خرج البازيان مرفوع الهامة في صفقة وفاء الاحرار .. خرج حرا دون ان تمس روحه أية لوثة من لوثات ما كان يجري على طاولة المفاوضات ..
عاد البازيان الى حارة السعدية بجوار حبيبه الاقصى المبارك ، اياما معدودات تزوج فيها مقدسية لينجب طفلة مقدسية وليتابع طريق الحياة التي يشقها والاحتلال كارها يكاد يتميز من الغيظ ..
وسط ظلامهم وفي ظل لحظة غاب فيها الوعي الانساني انقضوا عليه من جديد ، يا للهول هذا الاحتلال بكل جبروته يخشى من ذاك الثائر الضرير الساكن مع زوجته وطفلته والمسجد الاقصى ، احتلال لا يحترم اتفاقية او اي قيمة انسانية او عرف تعارف عليه البشر .. عاد البازيان ببصره وبصيرته الى عسقلان وشطة وايشل ونفحة وهذا الميدان الفسيح الذي لا ينحني فيه البازيان الى أي شيء .. يحافظ على التحامه بالقدس في غياهب ظلامهم ويحاول جاهدا بنبضه النقي الساطع ان يبدد شيئا من هذه العتمة ..
هو ومن معه من الرجال لا يغيب عن خاطرهم ولو لحظة واحدة لحظة اشراقة شمس حريتهم وحرية قدسهم معا دون انفكاك احدهما عن الاخر ..