الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

شوارعنا بين الحجارة الصماء والمقاتلة

نشر بتاريخ: 05/02/2018 ( آخر تحديث: 05/02/2018 الساعة: 12:42 )

الكاتب: رائد محمد الدبعي

تخوض الشعوب والأمم الحية كل الدروب الوعرة في سبيل كرامتها، وعزتها، وخلاصها من الظلم، والتسلط، والقهر، والعنصرية، والجهل، وتشحذ من أجل ذلك كل الهمم، وتستثمر كل الطاقات، من أجل إبقاء جذوة الوعي مشتعلة في ذاكرة وسلوك أبنائها، وتحصين تراث الأمة وتاريخها ضد التزوير والتحريف، والإلغاء، لا سيما حينما يكون التزييف ممنهجا، والقائم عليه متخصصا، وعنصريا، ومستترا خلف رواية أسطورية، تقوم على استخدام، وتشويه جوهر الدين، وتطويعه لخدمة مصالحه الإستعمارية كما هو الحال في فلسطين.
- للأسماء رمزيتها وأعمق:
تنبهت الحركة الصهيونية مبكرا بأن أسماء الشوارع، والمدن، والأحياء، والقرى، والساحات العامة، ودور العبادة، في فلسطين، هي جزء من هوية شعبنا، وذاكرته الحية، فانتهجت، كل الوسائل لطمس عروبة الأرض، واستبدال ذاكرة أهل الأرض الأصليين، بذاكرة الغزاة الطارئين،، عبر تغيير أسمائها العربية، واستبدالها بأسماء عبرية، تلمودية، من خلال الإتكاء على رواية عنصرية، وأساطير وهمية، على أمل استنساخ التجربة الأمريكية، التي نجحت بطمس تاريخ وتراث ما يزيد عن 300 أمة وشعب، هم أصحاب الأرض الأصليين، واستبدلت رواية أصلية بأخرى مزورة، وشعب بآخر، وثقافة بأخرى، وأسماء أصلية للمدن، والقبائل، والأحياء، بأخرى مستحدثة، فمن منا يعرف اليوم أن العاصمة واشنطن، تحط بكل ثقلها على أجساد، وجماجم، وقبور الأطفال والنساء والشيوخ من أهل مدينة " نَكَن شَتَنكِه" الهندية، ومن يعلم أن مدينة "نيويورك" التي تضم مقر الأمم المتحدة، وكبرى الشركات العالمية، قد بنيت على جثث قبيلتي "الجونغيان والأروكيوس" الهنديتين.
كثيرة هي الشوارع والأحياء التي يحاول الإحتلال طمس وجهها الفلسطيني، وتهويدها عبر إطلاق أسماء تلمودية، عبرية، أو أسماء قادة الحركة الصهيونية عليها، بما في ذلك إطلاق إسم "يروشالايم" بدلاً من القدس، ومطار " بنغوريون" بدلا من اللد، و"هارحماه" بدلا من دير ياسين، و"شعر يافو" بدلا من باب الخليل، وغيرها الاَلاَف من أسماء الأحياء، والشوارع، والساحات العامة، والتي كان اَخرها تسمية محطة القطار السريع بالقرب من حائط البراق باسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
- الأسماء هي جزء من الذاكرة والهوية، ومرآة المدن :
ما دعاني لكتابة هذه السطور هو اقتراح أحد الأصدقاء على صفحته عبر " الفيسبوك" يوم أمس تسمية عدد من شوارع وأحياء مدينة نابلس، التي تحمل أرقاما، من قبيل شارع 15، وشارع 16، وشارع 24، أو التي لم يتم تسميتها بعد، بأسماء شخصيات، ومدن، ورموز وطنية، محلية، وعالمية، ممن لها بصمات حقيقية في خدمة الوطن والإنسانية، وما أحدثه المقترح من حالة سجال، بين أغلبية معارضة، خوفا من الدخول في جدلية تحديد معايير الوطنية، والإيجابية، الخاضعة للإجتهاد، الذي قد يخلق صراعات إجتماعية نحن بغنى عنها، وهو الرأي الذي أخالفه، إذ أنني أرى أننا نمنح للشوارع بهائها، وللحجارة عبقها، وللأبنية عطرها، وللتراب رائحته الشذية، وللساحات العامة حياة ، بإطلاق أسماء شخصيات وطنية بارزة، من شهداء، وأدباء، وشعراء، ورياضيين، وفنانين، وشخصيات نسوية فاعلة، وقادة رأي عام، وأصحاب بصمات جليلة في خدمة الوطن والأمة، أو أحداث هامة في تاريخ الشعب والقضية الفلسطينية، أو أسماء قرى، ومدن، ودول، ترتبط بنضال شعبنا، عبر مختلف محطات النضال الوطني الفلسطيني، بدلا من تلك الأرقام الصماء، الخالية من الحياة، والأمل، وكأننا شعب بلا تاريخ، أو جذور في هذه الأرض، إذ أن ذلك محوري، في إحياء ذاكرة تلك الأسماء، المستهدفة من قبل المحتل بالطمس والإلغاء، إذ أرسلت لوزير التربية والتعليم عام 2015، مقترحا بان نسمي مدرسة أو أكثر، في القدس باسم الحاج أمين الحسيني، قائد الحركة الوطنية الفلسطينة لعدة عقود، ردا على تهجم نتنياهو عليه عام 2015، واتهامه بالنازية، والعنصرية، فأسماء الساحات، والشوارع، والأماكن هي جزءا من هويتها، وهي صورتها التي تقدم بها نفسها للعالم، إذ أتذكر أن أحد أجمل الشوارع في مدينة بون الألمانية، هو شارع الموسيقيين، الذي يحوي مجسمات، وسير ذاتية لمختلف الموسيقيين الألمان، مما جعل منه واجهة جذب سياحي للمدينة بأكملها .
- الأسماء جزء من الدبلوماسية الشعبية العامة:
دعونا نتخيل إطلاق اسم " الكونت برنادوت" على أحد الساحات العامة في فلسطين، ألن يعيد ذلك إلى الذاكرة، وواجهة وسائل الإعلام السويدية، وغيرها، قصة مقتل أول وسيط بتاريخ الأمم المتحدة على يد عصابة شتيرن الصهيونية عام 1948، بعد أن اقترح إبقاء القدس تحت السيادة الفلسطينية، ويعتبر رسالة تقدير للحكومة السويدية التي اعترفت بفلسطين، بل ويؤكد قبل كل ذلك أن القدس عاصمة لدولة فلسطين، ماذا لو أطلقنا إسم الجزائر، أو تونس، أو عمان، أو بيروت، أو كاراكاس، على أحد شوارعنا، ألن يعتبر ذلك رسالة شكر لكل الشعوب التي تبادلنا حبا، ووفاءا، والتزام ، ماذا لو أطلقنا إسم أدوارد سعيد على أحدى الحدائق العامة، أليست تلك أجمل باقة ورد لكل أحبابه، في كل العالم، وتكريما للإبداع، وماذا لو أسمينا مكتبة عامة، باسم دير ياسين، أو دهمش، أو قبية، ألن تكون تلك رسالة أن إصرارنا على الحياة، والإبداع، أقوى من حراب المحتلين، وماذا لو أطلقنا إسم " لويزا مورغنيتني، أو جميلة بوحيرد، أو دلال المغربي، أو عندليب العمد، أو زليخة الشهابي، على أحد الشوارع العامة في الوطن، اليس ذلك عرفانا بدور المرأة في النضال ضد الاحتلال، والظلم في كل العالم، ماذا لو أسمينا أحد القاعات العامة، باسم أحد الموسيقيين العالميين، اليست هذه أبلغ رسالة بأننا شعب يتوق للحياة، والفرح، تلك أشياء لا تحتاج إلى إمكانيات إستثنائية، ولا إلى موازنات ضخمة، إنما بحاجة إلى قرار، وتخطيط، ورؤية عميقة للأمور .
دبلوماسية الشعوب والمدن، قادرة على اختراق ما تعجز عنه دبلوماسية الدول، ولوحة تحمل إسم مدينة، أو دولة، أو شخصية عامة، قادرة على استقطاب القلوب، أكثر من مئات الخطابات للسياسيين، وعلى الحفاظ على الحق الفلسطيني، والدفاع عنه أمام كل محاولات الطمس والإلغاء، أتمنى أن يكون لهذه السطور تأثير لدى أصحاب القرار بهذا الشأن، لا سيما المجلس البلدية، والمحلية، ووزارات الحكم المحلي، والتربية والتعليم، والأوقاف، وغيرها.