السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

رحلة الطيور الى جبل قاف لهدى الشوا

نشر بتاريخ: 16/02/2018 ( آخر تحديث: 16/02/2018 الساعة: 15:16 )

الكاتب: تحسين يقين

رحلة الطيور الى جبل قاف لهدى الشوا: الخلاص قريب قريب إذا أرادت وأردنا
"إنما هذه الأسفار كلها قناطر وجسور نعبر عليها إلى ذواتنا وأنفسنا ...".
ترى متى قال ذلك ابن عربي؟
سندع ابن عربي في هدأته، لعلنا نعود إليه لاحقا، عابرين النص والرحلة، بعد حيرة البداية:
احتار بم أبدأ؟ هل اواكب السرد من البداية؟ أم أخلص إلى النهاية وأبدأ بها؟
وهل أبدأ من رحلة الكاتبة هدى الشوا؟ أو من "منطق الطير" للشاعر الصوفي العطار الذي استلهمته الكاتبة؟
لم أكن أعلم أن هناك ذكر لهذا الجبل، كل ما أعرفه هو أن الناس هنا يستخدمون اسم الجبل للدلالة على المبالغة في بعد المكان، كأنه آخر مكان في العالم.
أدعي أن نص هدى الشوا نص ليس مشوقا فقط، بل وجذاب يثير الفكر والشعور، وهو يثير ما هو ذاتي وموضوعي في الوقت نفسه. ولا أبالغ إذا زعمت أن هذا النص هو نص خلاصيّ، يمنح فعل الخلاص لا الشعور به.
ليست رحلة الطيور إلى ذلك الجبل الحقيقي أو المتخيل، بل رحلات أخرى لا تنتهي في الأزمنة والأمكنة؛ حيث من الممكن أن نبدأ بأنفسنا.
في البداية التي تمهد وتؤسس للنهاية، ولحاضر الطيور-البشر، الذي يعود بنا إلى زمن مضى يمكن أن يعود في مستقبل منشود، من باب الحلول والاستساخ، لسبب بسيط هو دورة حياة الإنسان، حيث نقيس الغائب (الماضي والمستقبل) على الشاهد-الآن.
ولعل لذلك تفسير لخلود الروائع، حيث نكتشف أن أسئلتنا الطبيعية والسياسية والفلسفية إنما تم طرحها قبلنا، وما لا نعرفه أنها ستظل تطرح في كل مكان وزمان.
بل حتى المذاهب الأدبية الحديثة والمعاصرة، إنما تم تجريبها منذ مئات بل آلاف السنين؛ فرمزية ما بين أينا من نص أدبي، قد استخدمه آخرون قبلنا، بل أبدعوا.
تضج الطيور من عيشها، تضج "من الفوضى والظلم والطغيان"، فتبحث عن حاكم يحكم "بالعدل والحكمة والإحسان"، فيحطّ الهدهد عليهم، ومن خلال مشروعية كونه دليلا للملك الحكيم سليمان، فإن يخبرهم أن بغيتهم هو العنقاء ملك الطيور المقيم في جبل قاف في بلاد سمرقند، "وراء سبعة وديان وسبعة أنهار"، والذي جذب ليس الطيور فقط بل والبشر أيضا الذين سحروا من شيء من متعلقاته: الريشة التي سقطت منه ذات ليلة قمرية.
وهنا، بعد أن رمى الهدهد حجرا في ماء حياة الطيور الراكد، تبدأ ردود فعل الطيور، من طيور تؤثر البقاء في الحال، فأخذ "كل طير يختلق الأعذار للتخلف عن المسار"، إلى طيور تستجيب فتبدأ الرحلة، رحلة الخلاص الجمعي الطائر.
ومن خلال استعراض أعذار الطيور التي تألف الأمر الواقع، نرى عدة مستويات من الطيور-البشر، حيث تقوم الكاتبة بما يشبه التحليل النفسي-الاجتماعي لها.
تبدأ بشخصية الطاووس، الذي لا يخفي طمعه في السلطان، كونه الأجمل، ويرد عليه الهدهد منتقدا غروره الذي سيكون نهايته، ويطلب منه: "اترك النظر في المرآة إلى حين، وامعن النظر في مرىة نفسك..".
تلي ذلك شخصية البلبل الولهان، المعشوق الذي لا يرى معشوقا مثله، "فالوردة الحمراء تضحك لي وحدي.."، فيكون نقد الهدهد له بأن "جمالها يأفل، لا يدوم" و"اترك وردة الصباح، فإن حبها مقرون بالألم والجراح".
أما الببغاء، الذي الف القفص الذهبي والشهد وماء الورد، فكان رد الهدهد: "لا تكن طيرا معتقلا".
وتأتي الرابعة، البطة بعد الببغاء بعذرها "هل من عاقل يترك رزقا مضمونا في الماء، ليلاحق سرابا مجهولا في الصحراء؟"، فيفاجئها الهدهد: "كم من جدول ونهر وبحر غدّار، ابتلع في جوفه الأنفار، فاحذر هذا الصديق المكّار، الذي تكمن في طيّاته الأخطار".
أما الخامسة، فهي الحجلة، التي لا تستطيع التضحية "بالياقوت والدرّ.."، حيث يستنهضها الهدهد: "اتركي القشور وانظري للجوهر، جوهر النفس لا جوهر المظهر".
في حين يكون عذر شخصية الصقر "ملازم ذراع السلطان"، بأنه لا يفارق السلطان والذي لا يراه الهدهد غير "أسير الملك وسجين القصور"، محذره: "أن السلطان قد يستبدلك في أي لحظة".
آخر الشخصيات كانت شخصية البومة، التي تقدم هويتها: " اعتزلت المنازل والسكان، واخترت الخراب بدل العمران"، والتي ينتقدها الهدهد وينصحها: "انطلقي في الفضاء الرحب وشقي الغمام، إلى النور حيث الرفق والمحبة والوئام".
وبذلك فقد تم تقديم سبعة نماذج من الطيور التي اتفقت مصالحها مع بقاء الحال على ما عليه؛ فكل طائر هنا يرمز إلى صنف معين من الكائنات، الطيور والبشر.
أما بقية جمهور الطيور-الشعب، فكان خلاصهم معا، حيث أخذوا بنصيحة الهدهد، السفر إلى "العدل والحكمة والإحسان"، حيث يخبرهم بأن لذلك ضريبة: "الرحلة إلى جبل قاف شاقة وبعيدة، فيها الأهوال والمخاطر الكثيرة".
ورغم ذلك فإن الرحلة ضمت الصنفين معا، النماذج السبع الأولة وبقية الطيور.
أثناء الرحلة-السفر، تتكشف معادن الطيور، فليست كلها متشابهة أيضا، وهي معرضة أيضا للتردد وإيثار الخلاص الفردي، حيث تعرض الكاتبة لنماذج هنا: بعضها تعب ورجع، بعضها ابتعد عن الطريق فضاع وهلك، وبعضها اقتتل على حبة القمح، وبعضها أغرتها عجائب الطريق فانشغلت بها، " فثلاثون طيرا فقط هي التي صمدت من آلاف الأعداد التي اعتزمت".
تصل الطيور جبل قاف الشاهق زمردي اللون الذي تتمايل فيه الأشجار، فتبدأ عملية البحث عن العنقاء، متسائلين: "أسرابا كانت رحلتنا أم هباء؟"
وهنا، تكون المفاجأة، فلا عنقاء هنا، ولكن هنا انكشاف النفس:
"تجمعت الطيور الواهنة وقت المساء،
عند ضفاف بحيرة متلألئة لتروي الظماء،
وحين دنت لتأخذ قسطا من الماء،
لاح لها بين تموج القمر والظلماء
ظل طير عظيم يشبه العنقاء،
وعندما تمعنت الطيور في الصورة المنعكسة على وجه الماء،
تجلت الحقيقة واضحة كنور السماء.
كأن حجابا قد كشف، فتبدد العماء،
كأن ظلا قد فني في شمس الضياء.
عندئذ أدركت المجموعة أن الرحلة الشاقة لم تكن هباء،
وأنها قد وجدت ضالتها بعد كل هذا العناء."
الصدمة:
هنا، بعد هذه الرحلة، يأتي سفر الطيور-الناس داخل نفوسهم:
تكتشف النماذج السبعة عللها وعقدها: الطاووس، والبلبل، الببغاء، والبطة، والحجلة، والصقر، البومة، فيجد كل نموذج أن السفر قد حرره من أوهامه:
"عندئذ ادرك الرفقاء ان الضالة المنشودة
لا تقطن في الأقاصي المجهولة،
.............
انما الكنز النفيس
هو فضائل داخل النفس دفينة،
وبرحلة صعبة داخل نفوسهم
انكشفت هذه الجواهر الثمينة."
لذلك، فإن خلاص الطيور-البشر يأتي من داخل كل نفس، وليس من طير عظيم أسطوري، أو غيبي يسكن بعيدا، في الخارج. إنها دعوة فكرية وأخلاقية للبدء بالتغيير من الذات الفردية والجمعية.
الرمزية:
أبدعت الشوا في استخدام الرمزية، من خلال الحديث على ألسنة الحيوان، والتي تم استخدامها في التراثين العربي والعالمي. وقد أبدعت الشوا في الاستخدام المزدوج للرمزية الجزئية والكلية، من خلال المدلولات المختلفة التي تكونت منها اقصة، في حين كان الرمز الفكري الكلي متمثلا في تصوير الخلاص الجمعي والفردي، من خلال اكتشاف النفس.
أما الطيور السبعة المذكورة: الطاووس، والبلبل، الببغاء، والبطة، والحجلة، والصقر، البومة، فهي تدل على شخصيات إنسانية تعيش في جميع الأزمنة، عاشت وتعيش وستظل تتكرر، من خلال إعادة إنتاجها في ظل نظم حكم تتوافق معها.
ويمكن عقد علاقة بين الطيور والشخصيات البشرية، فالطاووس البشري يعيش بيننا ويختال بما لديه، ويتوقع دوما الإعجاب، والبلبل البشري هو من يعتقد أن كل ما جميل مخلوق له وحده، أما الببغاء البشري فهو الإعلام الموجه، والبطة هي نوع معين من أغنياء الحروب والانفتاح، إنهم "القطط السمان"، ولربما تكون الحجلة البشرية صنفا يستمتع به الحكام، في حين يمثل الصقر البشري القوة الحديدية التي يحكم بها المستبدون، أما البومة البشرية فتمثل المنعزلين أنى كانوا، لعلهم صنف يكره الحياة وتجددها.
اللغة:
استخدمت لغة جميلة وواضحة، مستخدمة السجع جماليا، دون أن يسطو على المضمون، وقد نوعت بين القوافي، حيث بدت النصوص كالشعر الحر، أو المنثور؛ فالنص المكثّف فيه من الشعرية والشاعرية، بالرغم من أنه نص فكري يتحدث عن الخلاص الفلسفي للإنسان. ولربما استخدمت هذا الأسلوب التراثي بدافع وضع القراء داخل جو تاريخيّ، أو بدافع تشجيعنا للعودة إلى نص العطار.
سفر النص:
أختم بما ابتدأت به: "إنما هذه الأسفار كلها قناطر وجسور نعبر عليها إلى ذواتنا وأنفسنا ..."، التي استخلصها ابن عربي بعد طول تجوالاته في الأرض والكتب ونفسه.
تمثلت فكرة النص في آخر القصة: "عندئذ ادرك الرفقاء ان الضالة المنشودة، لا تقطن في الأقاصي المجهولة،...انما الكنز النفيس هو فضائل داخل النفس دفينة"، وليس من الأدب والخيال والعمق إيرادها هكذا بشكل مباشر، بل لا بدّ أن تأتي في ظل سياق قصصي ما، ليكون وصولها عميقا، كونه يأتي من خلال تجربة وتجريب. وهو كما في النص كما في السفر أيضا، أي عبر "رحلة صعبة داخل نفوسهم انكشفت هذه الجواهر الثمينة."، حيث أن السفر يعمّق فكر الإنسان وشعوره.
إنه هنا سفر النص الأدبي، ونص السفر، وسفر النفس في الأرض والسماء والنفس.
يذكر أن القصة حازت القصة على جائزة الشيخ زايد للكتاب. وقد صدرت عن دار الساقي-بيروت 2009.

الرسم:
للفنانة البريطانية فانيسا هودجكينسون،أدخلتنا الرسامة إلى الأجواء التراثية، وأفردت لكل طائر رسما، مستندة إلى الأسلوب الزخرفي القديم، باختيار اللون الذهبي، والنباتات، والشكل الثماني المحيط باللوحات.
درست هودجكينسون تايخ الفن، اختبرت الحياة العربية والإيرانية، من خلال رحلة تعلم للغة العربية.
استوحت الكاتبة النص من المنظومة الشعرية "منطق الطير" للشاعر الفارسي الصوفي فريد الدين العطّار الذي عاش في نيسابور في إيران مطلع القرن الثاني عشر الميلادي.
جبل قاف، أشارت الكاتبة أنه ذكر في كتابي: عرائس المجالس ومعجم البلدانالحمويّ لياقوت .
العنقاء:، ورد ذكره في "منطق الطير" للعطار، وورد في كتاب: "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزويني، وفي كتاب: "؟إخوان الصفا وخلان الوفا".