الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

اسرائيل وانهيار منظومة القيم العليا

نشر بتاريخ: 28/02/2018 ( آخر تحديث: 28/02/2018 الساعة: 08:05 )

الكاتب: عوني المشني

الدول تقوم على قيم تحكمها ، القيم تصل في مرحلة ما الى قوة القانون او اكثر لانها تتحول الى قيم للأفراد ايضا وجزء من التكوين النفسي للجماعة ، هكذا أصبحت قيم الثورة الفرنسية ، وهكذا أصبحت قيمة الليبرالية في امريكيا . في اسرائيل جرى تشويق مجموعة قيم تبين انها فيما بعد ليست اكثر من اكاذيب ، فقد استطاعت اسرائيل وعبر ماكنة إعلامية محترفة ان تمرر كثير من الاكاذيب التي سرعان ما تحولت الى قيم عليا يتعاطى العالم معها على اساسها ، واكثر من ذلك صدق الاسرائليون أنفسهم وباتوا يتعاطون معها على انها قيم تحكم المجتمع الاسرائيلي . لكن وكما يقال تستطيع ان تخدع بعض الناس لبعض الوقت ولكنك لا تستطيع ان تخدع كل الناس لكل الوقت ، وهذا ما حصل ، بدأت الحقائق تتكشف تباعا لأغلبية المجتمع الدولي والرأي العام وللإسرائيليين أنفسهم .
أولى هذه القيم ان اسرائيل دولة ديمقراطية ، لا بل هي الواحة الديمقراطية الوحيدة في شرق اوسط يتصف بالوحشية والدكتاتوريات ، ربما في الجانب الذي يتم فيه تداول السلطة هذا صحيح ولكن تداول السلطة عبر نظام انتخابي شفاف ليس هو " كل الديمقراطية " ، هو احد مظاهرها ، او المظهر الأكثر سطوعا ، لكن الديمقراطية أوسع من هذا واشمل ، مساواة الجميع امام القانون هو مظهر اخر ، وبدون أدنى شك هذا الجانب ينهار تماما امام حقيقة ان مواطني اسرائيل من الفلسطينييون والذي يحملون جنسيتها يعانون من تمييز فاضح حتى امام القانون ، وليس هذا فمجرد طرح اسرائيل كدولة يهودية هذا يشكل تحطيم البعد القانوني والتشريعي لديمقراطية الدولة ، الدول هي دول مواطنيها بغض النظر عن الدين او الجنس او الأصول العرقية ، وعندما تصبح اسرائيل " دولة اليهود فقط " فهذا يضرب الديمقراطية في مقتل ، حيث لا يعقل ان تكون الدولة ديمقراطية ويهودية في ذات الوقت خاصة في ظل وجود خمس سكانها ليسوا بيهود . وفِي الآونة الاخيرة وفِي ظل استمرار عمليات الضم للأرض الفلسطينية فان عدد الفلسطينيين الذين لا يتمتعون بحقوق مدنية او سياسية في تزايد مستمر . نحن امام حقيقة انكشاف حقيقة غياب الديمقراطية الاسرائيلية الا اذا اعتبرنا ان ديمقراطية الصندوق كافية ، والديمقراطية تعني حرية الرأي والإعلام الحر المستقل ، وهنا فانه في السنوات الاخيرة تجري عملية سيطرة وبطرق فاسدة احيانا على الاعلام وتوجيهه بطريقة تخرج اسرائيل من خانة الدول التي تمتلك حرية واستقلالية الاعلام ، قضايا الفساد التي اصبح في رئيس الوزراء ضالعا حسب توصيات الشرطة اثنتين منها تخص السيطرة وتوجيه الاعلام سواء ما يخص صحيفة " اسرائيل هيوم " او الموقع الإعلامي الشهير " واللاه " . اما حرية الرأي فاسرائيل التي تلاحق المدونين الفلسطينيين على صفحات التواصل الاجتماعي وتعتقل بل وتقتل الصحافيين وتقارير المنظمات الدولية والصحافية العالمية تؤكد ذلك بدون مواربة .
القيمة الاخرى التي سقطت هي النزاهة ، فساد النخبة السياسية الاسرائيلية بات ظاهرة وان كان نتنياهو يمثل الذروة في هذا المجال فان عشرات المسئولين في مختلف المجالات منهم وزراء ورؤساء وزراء ورؤساء مؤسسات وضباط قد صدرت احكاما ضدهم او اعتقلوا بشبهات فساد ، صحيح ان القانون قد طالهم وهذا مؤشر نزاهة الى حد كبير ولكن تفشي الظاهرة يشير الى تحول الفساد في المجتمع الاسرائيلي الى ظاهرة عامة منتشرة الى حد كبير . ان الفساد عندما يصبح في النخب بهذا المستوى فانه يتحول الى " شطارة " تقتدي به الطبقات الاقل ويصبح قيمة اجتماعية ، هذا ما يحصل في اسرائيل اليوم وان كان في مرحلة ليست متقدمة ولكنه يتسارع اكثر فاكثر .
قيمة ثالثة سقطت وهي ان اسرائيل دولة قانون ، القانون في اسرائيل له علاقة بمن يقف أمامه ، القاتل الفلسطيني يحكم مؤبد او يعدم ميدانيا بينما القاتل الاسرائيلي يحكم بضعة سنوات سرعان ما يخفف الحكم ، ان الأخطر من خرق القانون الذي يساوي بين الناس هو ان يكيف القانون على اساس التمييز ، ان تسيس القانون بشكل اصبح واضحا بل اكثر من هذا فان الثلاث سنوات الماضية شهدت استحداث عشرات التشريعات والقوانين بصيغة تخدم التمييز ما بين الفلسطينيين والاسررائيليين وبما يحقق غايات سياسية ويعزز عدم المساواة ، كل هذا لا يكفي ، فوزيرة القضاء الاسرائيلي تواصل نهجها منذ ثلاث سنوات بتغيير طبيعة القضاء وتسيسه ليصبح اولا اكثر يمنينية عبر تعيين قضاة جدد خاصة في المحكمة العليا وثانيا تقليص صلاحية المحكمة العليا فيما يختص بالاستيطان ومصادرة الاراضي وتحويل تلك الاختصاصات الى المحكمة المركزية في القدس وهذه إشارة لتطبيق القانون الاسرائيلي على الضفة الغربية ، وثالثا كبح جماح التدخل القضائي في الاستيطان باستحداث اليات جديدة .
واهم من كل هذا سقطت وهي اسرائيل العلمانية ، القيمة التي بنيت عليها اسرائيل كدولة هي الصهيونية العلمانية بينما كان " الحريديم " اي المتدينين ضد دولة يهودية في فلسطين ، اليوم الحريديم يسيطرون على كل مناحي الدولة ويشعر الصهيونيين العلمانيين انهم قلة مهمشة محتقرة من قبل المتدينين ، اسرائيل تتحول الى دولة دينية ضيقة الأفق لا تتقبل الاخر المختلف .
كل ما ذكر يشكل اجزاء من الصورة ولكن اكتمال الصورة تحقق بالتشريعات والقوانين شرعنت العنصرية الاسرائيلية كنظام فصل عنصري ، صحيح ان تلك القوانين والتشريعات لم تخلق نظاما حديدا حيث العنصرية الاسرائيلية بالممارسة كانت قبل تلك القوانين والتشريعات ، الان ان سنها شرعن تلك العنصرية وأعطاها الطابع " القانوني الرسمي " .
بهذا انهارت مجموعة الاكاذيب الاسرائيلية امام العالم ، وبهذا بدأت اسرائيل الواحة الديمقراطية تتهاوى
عندما نصبح امام دولة عنصرية دينية فاسدة لا يوجد فيها حرية واستقلال إعلام ويتم التمييز فيها امام القانون حسب الانتماء القومي او العرقي فإننا امام دولة مختلفة جذريا عما صورته الماكنة الإعلامية الصهيونية ، اننا امام دولة تنهار صورتها امام العالم اجمع لتتضح حقيقتها ، وفِي ذات الوقت تنهار الصورة الداخلية بما يشير الى تآكل منظومة القيم التي حكمت علاقاتها الداخلية .
دولة صاعدة اقتصاديا متآكلة اجتماعيا وسياسيا ، وحتى هذا الصعود الاقتصادي فربما لن يصمد طويلا امام تآكل القيم الداخلية . فكما قال داروين " اكثر أفراد النوع الاجتماعي الأكثر قدرة على البقاء ليس هو الاقوى او الأكثر ذكاء بل الأكثر قدرة على التعامل مع المتغيرات " ، واسرائيل الدولة القوية كثيرا والذكية الى حد ما فشلت فشلا ذريعا في التعاطي مع المتغيرات سواء منها الداخلية او الخارجية ، الداخلية كما يقول ريفلين فان هناك ثلاث كتل اجتماعية في اسرائيل ، العلمانيين ، الحريديم المتدينين ، العرب ، واثنين من هذه المكتب يشكلون حوالي ثلثي السكان وهم المدينين والعرب ويرفضون الصهيونية كقيمة عليا وكجوهر وجود لذلك علينا البحث عن عقد اجتماعي سياسي اخر ومختلف ، وهذا لم يحصل وليس مرشحا ان يحصل على المدى المنظور بل ان التشريعات القانونية في السنوات الاخيرة تعزز من قيمة الصهيونية التي لم تعد قاسما مشتركا للكتل الثلاث وبالتالي تتغاضى المؤسسة الاسرائيلية عن المتغيرات وتناهضها ، خارجيا فرض الشعب الفلسطيني حضوره ككينونة سياسية ومركب أساسي ، وكافة الممارسات والسياسات الاسرائيلية تتغاضى عن ذلك وتعمل بعكسه تماما وهذا ايضا تعبير عن فهم المتغيرات والتعامل معها . اما المتغيرات الخارجية فقد انتصر التيار اليميني في فرض منطقه بالسيطرة على الارض رغم تنامي الوطنية الفلسطينية وفرض الشعب الفلسطيني نفسه على الخارطة كمكون سياسي أساسي في هذه البلاد ، ورغم ان مفتاح إنهاء الصراع هو بيد الفلسطينيين ، ان دولة لا تستغل ذلك لمصالحة تاريخية وفِي وضع ميزان القوى لصالحها لا تعي متطلبات أمنها بل وجودها برمته وتترك نفسها عرضة لعواصف التغيير الشرق اوسطية العاتية .
يقول توماس كاريل ان اعظم خطأ هو الخطأ الذي لا تدرك انك ارتكبته ، هذا بالضبط ما عملته اسرائيل فقد ارتكبت الخطأ الكبير بادلجة الاستيطان وإعطاؤه طابعا دينيا ولأسباب سياسية ، بهذا خلقت مجموعة دينية سياسية اختطفت الدولة وحولت الوضع الاجتماعي الاسرائيلي الى وضع متهتك مصاب بشروخ سياسية واجتماعية ، لكن الخطأ الأكبر من هذا ان اسرائيل بهذه السياسة قد دقت المسمار ما قبل الاخير في نعش الصهيونية السياسية بغير ادراك منها .