الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

جولة في عدد من العواصم العربية

نشر بتاريخ: 05/03/2018 ( آخر تحديث: 05/03/2018 الساعة: 19:47 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

العواصم العربية ليست مجرد جغرافيا، إنها تاريخ وبشر، ومزيج من عبق ورد ورائحة عرق رسمت على الجغرافيا أحياء وشوارع وحارات وبنايات وذكريات، عواصم استهدفت وأخرى تصمد، تتكسر على بواباتها وتتشظى عواصف، ستفشل في منع هذه العواصم من العبور إلى مراحل تاريخية أخرى، لكنها ستعبر.
القدس:- كانت وما زالت عروس العروبة، ورغم القيد وحزن الحواري القديمة، إلا أن كنائسها ومساجدها تصر على ترديد تكبيراتها الايمانية وترانيمها المقدسة، القدس نسجها التاريخ من نياط قلبه وسقاها من حليب سيرورته وعمدها بصعود إلى السماء لا يشبهه صعود ومهر أرضها وبناياتها بالمقدس لتبقى القدس العلامة الأبرز على جبين التاريخ.
عمان:- عمان عندما تفرش نظرك في رحابها، تتأكد أنها تشبهك، وتألف خطواتك، وتتناغم مع صوتك، لا غريب في عمان، فهي تمد يدها للقادم وتصطحبه في جولة تتداخل فيها العراقة والحداثة لتكونا معاً لون ومذاق وقسمات مدينة أسمها عمان، في هذه العاصمة تتعايش الأصالة والحداثة في تناغم يجعل التنوع جديراً بمدينة تشرع أبوابها للأمل.
القاهرة:- لأن قلبها عامر بعروبة معتقة وعروبة متجددة ستظل مدينة المدن وقاهرة لذوي أجندات القهر. لن تسكت السنون صوت عبد الناصر الذي ما انفك ينثر الأمل بلسماً يداوي الفقراء. القاهرة الحصن الدافئ لعروبة صعدت وهبطت، لتستعد لاحتضان صعود عربي جديد يتكوّن في صيرورة نفي الهبوط.
بيروت:- هل أجمل وأبلغ من توصيف شاعرنا الكبير محمود درويش لبيروت حينما قال إنها "تفاحة للبحر، ونرجسة الرخام، فراشة حجرية بيروت، شكل الروح في المرأة، وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام، بيروت من تعب ومن ذهب، واندلس وشام، فضة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام...".
دمشق:- عبق ياسمينة وابتسامة نرجسة ربيعية، تشمر عن ساعد من إرادة وساعد من مخمل، فيتجلى إصرار وجمال أمرأة دمشقية تسحب برئتيها شهيق هواء الغوطة، وترسل رسائل حياة مع زفير يعطر "الحميدية" فتمط "المزة" لسانها استهزاءً بمحاولات إخراجها من التاريخ والجغرافيا، فهل يمكن لأية قوة على وجه الأرض، أن تجرد الجغرافيا من جغرافيتها أو أن تزيح التاريخ عن سكة مساره التي هي سكة دمشق!!
الجزائر:- ما زالت محروسة بحلم "بومدين" وتضحيات مليون ونصف مليون من الشهداء، الذين لم يرحلوا عن الجزائر، وظلوا يتشبثون بأرصفتها وأسواقها ومنشآتها، فتتداخل في الجزائر في تآلف نادر أصوات الأحياء والشهداء في صنع حياة أبدية لعاصمة تعرف كيف تشق طريقها من الحاضر إلى المستقبل.
الرباط :- في الرباط يتألم أهل المغرب لوجع العواصم العربية، ويطلقون العنان لمودتهم وتنوعهم وتلاحم أفكارهم وتوجهاتهم دون أن تصرع فكرةٌ فكرةً أخرى، في تعايش يتفاعل تحت سقف وحدة الرباط.
يكتب الشاعر الشاعر قصيدته، وتلتقي حبيبة حبيبها، وينهي أستاذ جامعي محاضراته، ويكمل فنان تشكيلي لوحته، ويضع باحث اللمسات الأخيرة على بحثه، تتوج الرباط يومها بالعمل والأمل، ويستقبل الناس مساءاتهم ويعودون إلى منازلهم، ينامون ولا ينامون، يقلقهم وجع العروبة.
تونس:- عندما تمارس مدنيتها تفعل ذلك بوعي وبصيرة متقدة، وعندما تنتفض لتغيير واقع، تفعل ذلك بنفسها، ولا تسمح للآخرين بالعبث في استقرارها.
كانت تونس جميلة وستظل ترفل بالألق، استقبلت الفلسطينيين بعد العام 1982، عندما سدت في وجوههم الأبواب، واحتضنهم التونسيون وغمروهم حباً وتضامناً.
ولم أجد فلسطينياً واحداً عاش في تونس، إلا وقد طرز في ذاكرته سنواته هناك بحروف من حب وعرفان، وكأن من شرب من ماء تونس سيعيش حالة رواء دائم.
بغداد:- مدينة تمتلك قدرة عجيبة على إسكات الألم ومداواة النزيف، لم تبرح التاريخ منذ أن عرفته وعرفها، تخمد نيرانها بعذوبة مياه دجلة والفرات، تجتهد لإستعادة سكينة بددتها أطماع خارجية، وها هي أصابعها تمسك بأطراف سكينتها تسحبها لتدخلها إلى قلب يتوق شوقاً لكي ينبض بطريقته البغدادية، كما كان وكانت بغداد.
مسقط:- تتخذ التوازن منهجاً، وتنتهج الاعتدال طريقاً، تقف على مسافة متساوية بين العربي والعربي، تنأى بنفسها عن التكتلات، وتحجم عن إقحام قدراتها وطاقاتها في خصومات.
لا تغامر ولا تقامر، تبحث عن السلام والوئام، تظفر به في منطقة متصارعة مضطربة، عين مسقط على التنمية والتخفيف عن الناس، وعينها الأخرى على ما يجري في العالم العربي، ترى العين الأولى بوضوح لكن العين الأخرى يغالبها دمع الحسرة.
الكويت:- في قلبها متسع لتجاوز الماضي وجراحاته، في قلبها متسع للتسامح مع من لم يفهمها في لحظة تاريخية، ولديها إرادة استثنائية في المراهنة على الزمن، وها هي تنجح في مغادرة ظلم لحق بها، لتنتصر من جديد لقضايا عروبية، طالما شكلت بوصلة لعروبيي الكويت وهم كثر، وها هو صوتها التضامني يصدح واضحاً جلياً ليقول للفلسطينيين في مرحلة شديدة السواد "إنكم لستم وحدكم".
الرياض:- لا اكتمال للمشهد العربي بدون الرياض، ولا اكتمال للرياض نفسها دون العرب، فإذا اختلت المعادلة يختل الكمال والاكتمال.
فلا الغرب بمنقذ للعرب أو الرياض، ولا الرياض تستطيع التعويل على من وضعوا المخططات لتجزئة كل قطر عربي إلى دويلات متصارعة.
وكل وعود خطط صفقات العصر غير مجدية إذا ما ضاعت القدس، لأن القدس مثلت الدين والتاريخ والحضارة التي لا يكتمل سوى بثلاث مدن اقترنت اسماؤها بالمقدّس: مكة والمدينة والقدس.
المنامة:- إن هرول نفر قليل ومشي عكس التيار، فإن الغلبة لمن يهتدون بالبوصلة وهم كثر، لذلك يبدو المهرولون نقطة مهمشة في بحر ناس المنامة الذين يدركون أن تسرع البعض هو خروج عن السياق، لكن العبرة كل العبرة في وضوح سياق المنامة، الذي يدير ظهره لافظاً شذوذ الهرولة.
أبو ظبي:- لا فلسطيني في الداخل والخارج، لا يترحّم على روح "الشيخ زايد بن سلطان"، كان سنداً وكان رجل مواقف ثابتة، بنى الإمارات الحديثة، وجعلها شاهداً على أن العرب يستطيعون إذا أرادوا، كان يعي تماماً أن قوة الفلسطينيين في وحدتهم، فظل داعماً في كل المراحل لهذه الوحدة.
رحل، وبعد سنوات من رحيله، دخلت المنطقة العربية في دروب ومتاهات لا حصر لها، وفي مرحلة اشتداد حلكة الليل، يتذكر كثيرون منا الشيخ زايد بحزن وحنين.
الدوحة:- في وقت قياسي من الزمن، نجحت هذه العاصمة، في أن تثبت موقفاً مهماً على الخريطة العربية والدولية، وإسهامها في إغاثة غزة يحسب لها دائماً، فبوصلتها في هذا الاتجاه صحيحة ومضبوطة المقاييس والحسابات.
الخرطوم:- وجوه سمراء تؤشر إلى قلوب ناصعة البياض، ابتسامات ترتسم في كل مكان، تدلل على أن السوداني مسكون بطباع هادئة، فيما المكر لا مكان له البتة في قاموس أهل الخرطوم.
عاصمة تجد فيها ملامح الروائي الكبير الطيب صالح وقد صارت ملامح كل الناس في هذه المدينة، أو أن ملامح الناس توحدت وصارت صوراً بلاغية جميلة الشكل والمضمون في إبداعات الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين وضوء البيت ودومة بنت حامد ومريود ونخلة على الجدول".
طرابلس:- وعدوها بديموقراطية فأدموا أبناءَها، ووعدوها بخلاص من ديكتاتورية فحزوا بسكاكينهم شريان هدوئها، لم ينعم أهل طرابلس بديموقراطية وإنما زكمت أنوفهم رائحة القتل، لكن هذا سيكون مرحلياً ومؤقتاً، فطرابلس لن تضل الطريق، هكذا وعد المجاهد الكبير عمر المختار.
صنعاء:- منذ عقود كف اليمن السعيد على أن يكون سعيداً، بسبب سياسة التجهيل والتجويع وكبت الحريات، وظلت صنعاء شاهداً على شعب طيب، حفر اسمه بحروف خالدة في التاريخ، لكن جشع الحكام حرق السعادة في صدور اليمنيين، فحاول عبد الناصر ذات يوم أن يجعل اليمن تستعيد بعضاً من سعادتها، فاشتدت فصول المؤامرة، ودبروا لرائد القومية العربية، مؤامرة هزيمة حزيران.
لم تتوقف فصول استهداف هذه العاصمة العربية، فالنيران تحرق أحياءَها، والكوليرا تفتك بالناس، فيما يخرج من بين الأنقاض شيخ يمني يبشر بالرغم من الدمار والموت، بيوم ولو كان بعيداً، سيمسح اليمنيون فيه من دفتر مذكراتهم صفحة سوداء بلون وطعم الموت.
نواكشوط:- كيف صارت بلاد بمليون شاعر، أو كيف صار مليون شاعر بوسع اللغة والجزالة والأصالة التي تمد يدها للحداثة؟!
كيف صارت نواكشوط تتنسم شعراً وتتوضأ في الشعر، تصحو مع الفجر على موسيقى الشعر، وتنام بعد أن يهدهدها حنان الشعر؟
في نواكشوط تقول اللغة العربية ما لم تقله في أي مكان آخر، وفي هذه العاصمة تكتب اللغة لغتها على جباه معنونة بفصيح الكلام.