الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

هل الإنسان مكتشف أم مخترع؟

نشر بتاريخ: 06/03/2018 ( آخر تحديث: 06/03/2018 الساعة: 16:52 )

الكاتب: مهند الصباح

الاكتشاف في اللغة هو رفع الغطاء عن الشيء، فنقول اكتشف الأمر يعني : "كشف عنه بشيء من الجهد"، ونقول اكتشف آثارا يعني:" رفع عنها ما يغطيها بعد جهد وتنقيب". أمّا الاختراع في اللغة وتعني: " ابتداع، خلق جديد، ابتكار"، فنقول ابتدع أمرا يعني:" أوجد شيئا ليس له أساس أو صحّة في الحال"، ونقول أيضا :" اخترع الشيء يعني" ابتدعه، واستنبطه".
منذ بداية حياة الإنسان على البسيطة وهو يتفاعل مع الطبيعة بناء على تلبية احتياجاته منها؛ كي يضمن البقاء على قيد الحياة ويتكاثر، وبالاعتماد على سلّم "مازلو" فإن احتياجه الأساسي من تنفّس وماء وغذاء موجود في الطبيعة، لهذا أدرك الإنسان مع تطوّره بأنّ كل ما يلزمه موجود في الطبيعة، وما عليه سوى بذل الجهد من أجل الحصول عليه معتمدا على احتكاكه المباشر معها، ومعتمدا أيضا على تراكم الخبرات عبر السنين لبني جنسه من البشر أصحاب حبّ الاستطلاع، أو من أولئك الذين حاولوا الإجابة على الأسئلة العلميّة المسيطرة على أذهانهم، وتفسير بعض الظواهر الطبيعيّة التي حازت على اهتمامهم، فكرسوا الوقت والجهد في سبيل الفهم والتبسيط للعامّة.
ويرى شتاين" stein" أنّ الابداع هو "عمليّة ينتج عنها عمل متميز بالجد، تقبله الجماعة في فترة زمنية معينة لقدرته على تلبية احتياجات هذه الجماعة ". فيما يرى أصحاب نظرية الإدراك " الجلشطت" بأنّ الابداع هو إعادة تجميع الأفكار وإعادة البناء الكلي لها؛ للحصول على نتيجة مقنعة".
الأفكار التي تحدثت عنها النظريّة الادراكيّة في الابداع هي مستقاة من الطبيعة التي تتكون من عناصر عديدة، أهمّها الماء والهواء، والتراب والنار، ومنها ينبثق العديد من معالم الطبيعة مثل الكائنات الحيّة وغير الحيّة على السواء.
حاول الإنسان التأقلم مع العناصر الطبيعية من حوله، فنراه في بداية طريقه على الأرض امتهن الصيد بعدما شاهد الحيوانات المفترسة كيف تحصل على طعامها، وتعرّف على الشِواء بعدما اكتشف النار، ومن ثمّ تحوّل إلى الزراعة حين راقب نمو النباتات في فصل الربيع، تراكمت الخبرات والتجارب والأفكار لديه حتى أصبحت الطبيعة بعناصرها ليّنة بين يديه، وصولا إلى ما يُعرف بعصر ما بعد الحداثة، فها هو يُسخر بعض مكونات الطبيعة لخدمته – خيرا أو شّرّا -. اصطنع الطائرات والغواصات والمركبات الآليّة حتى هبط على سطح القمر، واستكشف بعض الكواكب المحيطة في درب التبّانة.
إذا ما افترضنا أنّ الإنسان مكوّن من ماء وتراب وهي عناصر موجودة فعلا بالطبيعة وإحدى مكوناتها، فإننا ندرك تماما الإطار الأوسع الذي يعيش به الإنسان. إلا إنّه على مستوى عال من المقدرة التي تخوّله من الاستفادة مما حوله، وأن يبني على خبرات من سبقوه. كي نوضّح المراد دعونا نلقي نظرة على بعض إنجازات العقل البشري:
1- الطائرات وحُلم الطيران " عباس بن فرناس"، حلم الرجل بالطيران فكان حتفه في حُلمه، وحُلمه هذا مستمد من الطّير الذي يطير فوق رأسه. نجح بالأسلوب وفشل بالأداة حتى جاء الأخوان " رايت " ومن هم بعدهم، وطوروا الطّائرات حتى أصبحت خارقة للصوت. إذن هي الخبرات التراكميّة ومحاكاة المحيط، وليس الاختراع والابتداع المجرّد القادم من العدم.
2- البناء أو بشكله الأوّل المسكن الخشبي. كان الإنسان يستظل تحت جذوع الشجر كي تقيه حرّ الشمس، ويختبئ بالكهوف كي تقيه البرد، فنظر إلى الطّير والنحل كيف تبني أعشاشها، فقام بتقليدها ببناء البيوت الخشبيّة بداية وصولا إلى البيوت الحجريّة وناطحات السحاب. إذن المسكن جاء بناء من حاجته لمأوى بعد أن تعلّم من شركائه في الطّبيعة، وليس ابتكارا خالصا من خياله.
3- الصيدلة، عندما امتهن الإنسان الرعي وتربية الماشيّة، كان يلاحظ أنّ دابته المريضة والمعتلّة عندما تأكل من عُشبة ما فإنّها تبرأ، وبدأ بتجريب هذه الأعشاب على نفسه وعلى بني جنسه من البشر، وبعد التجربة قام بتمحيص الطيّب من الخبيث منها وتصنيفها- عشبة لكل وعكة صحيّة- حتى جاء علم الأدويّة والصيدلة. إذن تطور الصيدلة جاء من الدواب التى عالجت نفسها بنفسها بالأعشاب النابتة في الطبيعة. فمداواة الإنسان لنفسه مستمدة من الشركاء في المحيط.
4- الاتصالات، مستمدة من بعض الطيور التي تعتمد في حركتها وطيرانها على إرسال الذبذبات، كي تشق طريقها مثل طائر الخفاش ليلا.
بناء على ما سبق، نجد أنّ الإنسان ما هو إلا متأثر بالطّبيعة ومُؤثّر بها إلى حد ما، أحيانا يتناغم معها وينجح بالنجاة، وأحيانا أُخرى يقف عاجزا عن فعل أي شيء، عاجز أمام الظواهر و الكوارث الطبيعية – إن صحّ التعبير- والكوارث والظواهر التي تُحدثها الطّبيعة هي بمثابة محاولة تقوم بها لإعادة الإنسان إلى حيّزه الطبيعي، وكأنّ لسان حالها يقول: " لا تتحداني أيها الإنسان فأنا الأمّ والوعاء الأكبر الذي يحويك".
يمكننا القول بأنّ العقل البشري هو عقل مبدع ضمن إطار اكتشافي للكون- الأرض والسماء-، ولا يمكنه تجاوزه. ميّزته أنه حوى من كل شيء تميز به شركاؤه في الطبيعة، وقام بربط العناصر ببعضها البعض، وبنى عليها لمزيد من الاكتشافات التي تلبي احتياجه المستمر والمتغير على مر العصور، بعدما عصف ذهنه وشكّل قاعدة بيانات تمكّنه من الاستفادة منها واستخلص العبر بعد ظهور النتائج.
فهل يستطيع العقل البشري الإتيان بشيء جديد مكوناته الأساسيّة غير موجودة أصلا في الطبيعة؟

2018/03/05
[email protected]