الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

كل هذا الإنحطاط

نشر بتاريخ: 14/03/2018 ( آخر تحديث: 14/03/2018 الساعة: 12:42 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض

سبب هذا المقال هو انفجار الكذب في الشوارع والمساحات والشاشات والمضافات والمؤسسات، كذب كالفطر في كل مكان، فطر أسود وقاتم وقائم كالمسمار الوقح والفظ، الذي يُسّد الباب بوجه الخير والمطر، كذب كالح ومالح يذوب في الهواء والماء والغذاء، ينسكب كبقعة الدهن المقرف على الأيدي والثياب والكتب، حيثما تلتفت ترى كذبة أو مشروعها أو اغراءها أو مقدماتها أو مؤخراتها، سبب هذا المقال هو الكذب الوقح الصريح القبيح الذي لا مثيل له.

الكاذب، أو الكذوب، أو الكذاب، ليس من يخترع خبراً أو حكاية لم تكن أصلاً، ولكنه أيضاً من يقوم بمناورات ساذجة من الحذف والإضافة أو التقديم أو التأخير أو تغيير بؤرة الاهتمام أو استبدال القضية الأكثر أهمية بأخرى غير ذات أهمية، الكاذب هو الذي يعيد ترتيب الرواية أو الذي يهمش ما يريد أو يلقي الضوء على ما يريد، الكاذب أو الكذاب هو الذي يعيد الكلام من حيث يريد وكيف يريد، والذي تلد على يديه قصة لا علاقة لها بالواقع. الكاذب شخص حقير وتافه وخسيس لأنه يعتقد أن الناس ينسون ولا يلتفتون ولا ينتبهون ولا يربطون المقدمات بالنتائج، مشكلة الكاذب أنه يعتقد أنه أذكى الناس أو أشطرهم وهو في الحقيقة أكثرهم غفلة وقلة عقل، لهذا قيل أن الكذب هو أصل الشرور، لأن الكذب فيه الخوف والخداع والطمع والجشع والنفاق والعمى والعشى واتباع الهوى. ولهذا قيل أن المؤمن لا يكذب، لأن الكذب يؤدي إلى النار، على فكرة، النار، عقاب إلهي لا مثيل له، تصّور، النار، التي تأكل قلوب الكذابين، الذين يكذبون ويلاحقون كذبهم ويؤصلون له، حتى يصبحوا كذابين، ولا يعيشون إلا بالكذب.. ليتذكروا النار.. هانذا كالأطفال تماماً الذي يحذرون الكذابين بالنار..

والدول كالأفراد، تكذب وتكذب حتى تتحول إلى دولة كذابة، دولة مدّلسة، مضللة، وللدقة السياسية، فإننا نتحدث هنا عن النظام الحاكم، لا الدولة، فالنظام الحاكم هو النخبة المسيطرة، لقوتها أو لشرعيتها أو لأدوارها أو لوظائفها أو لأوهامها أو لإطماعها أو لشهواتها، النخبة المسيطرة هي التي تعيد تركيب الدولة وتعريفها وحتى جغرافيتها. النخب الحاكمة -في بعض الأحيان- تشطر البلاد أو تزيد حدودها أو تزيد في أعدادها، والنخبة الحاكمة هي التي تعطي مضمون الدولة ومزاجها وتحالفاتها. اشتباك المعنى بين النخبة الحاكمة والدولة هو اشتباك ما يزال ساخناً وحاراً في بلادنا العربية والعالم الثالث عموماً، فهي بلاد رخوة وهشّة ما تزال تتشكل وتبحث عن مقولاتها النهائية، لهذا السبب، عندما نقول أن هذا النظام كذاب لينجو، وحتى يحصل على النجاة، فهو على استعداد للتضحية بالبلاد والعباد، النظام الحاكم ليس بالضرورة هو الذي يسعى من أجل خير البلاد، فقد تكون هذه النخبة أحد أسباب الدمار والإنتحار والإنكسار. نحن أمام الكذب مرة أخرى. الكذب هو عكس المصارحة والمكاشفة والمحاسبة.

عندما قرأت نبأ محاولة الإغتيال الفاشلة للدكتور رامي الحمد الله واللواء ماجد فرج، اصابني حزن عميق، كآبة عمياء ساحقة اجتاحت عظامي وقلبي، ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد، بل دخلت في نفق من السوداوية الشديدة عندما تلا تلك المحاولة سيل جارف من الأكاذيب العجيبة والغريبة. يا إلهي العظيم. من أين كل هذه الأكاذيب؟ من أين كل هذه الإختراعات؟ إلى هنا وصلنا!! الضحية عندما تجلد ذاتها وتنتحر، الضحية عندما تفرغ سمها في قلبها، الضحية عندما تشعر بالعجز الشديد لا تجد سوى إبنها لتأكله، يا إلهي العظيم. الضحية عندما تحاصر تنتحر. الغرباء المجرمون، والأقرباء القساة يقتلوننا بالحصار والتفجير والتجويع والإهانة والشيطنة ويخرجوننا من المشهد كله، ثم، والصورة كهذه، نفجر أنفسنا بأنفسنا، نقتل بعضنا بعضاً، ونشيطن بعضنا بعضاً. بالمناسبة، شئنا أم أبينا، كابرنا أو تواضعنا، هذه هزيمة رمادية كبغلة حرون.
ظهرت على شاشة هنا وهناك، رغبت أن أصيح من قحفي أن الحوار بالنار والتفخيخ هو ليس تفجير المصالحة فقط، ولكن تفجير الصورة والنموذج والمستقبل، رغبت أن أقول أن الفلسطينيين يصلون بهذا الى حضيض لا يمكن الرجوع عنه، رغبت أن أبكي.. والله العظيم. رغبت أن أبكي.. ولكن المذيع الذي يحاورني عادة، يرغب أن يكون لامعاً وذكياً، وعليّ أن أكذب قليلاً لأكون كذلك.

الكذب انحطاط، ليس بعده انحطاط، الكاتب الذي يكذب هو منحط، يهين نفسه ويهين من يقرأ، الكاتب الذي يُدَّلِّسُ ويداهن ويغير الحكاية بعمليات الحذف والإضافة والتقديم والتأخير إنما يقوم بعملية كذب رخيصة، وكاتب السيناريو يكذب إِذ يكتب "من وجهة نظره" وهو بذلك يختفي وراء حيادية مدفوعة الأجر أو مغطاة أو مدعومة أو مقصودة.
الكذب بما أنه تزوير وتحوير للواقع أودى بنا –نحن العرب- إلى السقوط في هاوية الذل والهوان وفقدان الكرامة، إلى درجة أن علم إسرائيل يرفرف عالياً وخفاقاً في مدن وعواصم عربية كثيرة، وإلى درجة أن دولاً عربية معينة -نعرفها ولا نعرفها- تقيم علاقات مع إسرائيل دون حل للقضية الفلسطينية، وحتى يتم ذلك لا بد من شيطنة الفلسطيني واتهامه بكل الموبقات، ولهذا صار التطبيع جزءاً من المصلحة القومية العليا. يا أولاد الكلب !! متى أصبح التطبيع المجاني والعبثي مصلحة قومية عليا. وكيف تغير المزاج حتى صارت إسرائيل صديقة ونحن الأعداء.
بلغ الكذب بأحد وزراء الخارجية العرب أن يتحدث عن سماحة الدين الإسلامي ليبرر لنفسه الجلوس مع وزير إسرائيلي. فيما كتبت أحدى النساء العربيات أنها تتمنى البلاد العربية بدون ديكتاتوريات وبدون فلطسينيين. كذب طفح حتى فار التنور.

سبب هذا المقال هو الكذب الصراح القراح، الكذب الزلال، من الدول والأفراد على حد سواء. ذات يوم، قبل أكثر من عشر سنوات تقريباً. قرأت لشخص ما مقالاً تحدث فيه عن إحدى تجاربه – التي أعرفها حق المعرفة باعتباري أحد المشاركين الأساسيين فيها- وإذا به يسرد تجربته تلك بطريقة ظهر فيها انه مركز المجموعة الشمسية أو أكبر من زحل على الأقل، أما أنا فقد ذكرني بطريقة هامشية جداً ووصفني هكذا "أحمد رفيق عوض وهو شخص في الأربعين من عمره".
هناك وقاحة – يا رجل- تجبرك على التواري حياء حتى لا تسمع أو تقرأ. ويا حلالي ويا مالي. وظل وأرجع يا غزال.

وأعود إلى الدول الكاذبة الوقحة. فهناك دولة تعطي أرضك للآخرين، وهناك دولة تمنح عاصمتك بالمجان، وهناك دولة تريدك هراوتها وعصاها الغليظة، وهناك دولة تريدك جزءاً من عبيدها، وهناك دولة لا ترى فيك شعباً، وهناك دولة تريدك مجرد ملف من ملفاتها، وهناك دولة تريدك بوابة لأوهامها الفارغة، وهناك دولة تريدك ديكوراً لسخافاتها... هناك وقاحة – يا رجل- أشبه بمنطق اللواتي يبعن لحومهن، لا يستثمرن لا بالعلاقة ولا بالزمن. مجرد عقل دجاجة وانف ابن أوى.