الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

هوكينغ بين الفلسفة واللافلسفة

نشر بتاريخ: 11/04/2018 ( آخر تحديث: 12/04/2018 الساعة: 11:35 )

الكاتب: د. وليد الشوملي

انتقلت الفلسفة منذ فترة طويلة من الزمن من فلسفة وجود الى فلسفة معرفة epistemology وكان الفلاسفة شأن العلماء منذ آلاف السنين وما زالوا منقسمين بين مثاليين وماديين ولا غلبة لطرف على آخر إلا بالحجة والمنطق والبرهان. يقول الفيلسوف الفرنسي الوضعي أوغست كونت إن الاختلاف في ميدان الفكر إنما يقوم في المجالات التي يبتعد فيها الإنسان بتفكيره عن الواقع أي إذا كان النقاش يتعلق بالميتافيزيقيا، أما إذا انصرف الإنسان عن التأملات الميتافيزيقية، وحصر اهتمامه على ملاحظة الظواهر الفيزيقية والتركيز على العلاقات التي تربط فيما بينها، فإنه يتوصل الى القوانين التي تتحكم في الظواهر ويبدع فكرا وعملاً. وبالتالي تصبح فلسفة العلوم، البديل العلمي والوضعي، للفلسفة الميتافيزيقية.
فالعلاقة بين الفلسفة والعلوم علاقة تكاملية وهذا ما أثبتته مسيرة البحث العلمي عبر العصور، فقد وضعت الإنجازات العلمية والتطبيقية في أطر فلسفية أمنت ضرورات البحث العلمي، وهناك مقولة مشهورة تقول "تبدأ الفلسفة حيث تتوقف العلوم" أي أن البحث عن علل الأشياء يبدأ عندما يعجز العلم عن تقديم إجابات شافية بعد استخلاص النتائج القائمة على التجربة والاحساس. وفي موائمته بين الفلسفة والعلم اعتبر أرسطو أن الفلسفة هي "العلم الذي يبحث عن العلل والمبادئ الأولى للأشياء" وتبعه في ذلك الفلاسفة العرب والمسلمون مثل الكندي والفارابي وابن سينا.
إذن، فالعلاقة بين العلم والفلسفة علاقة متينة بحيث أن الفلسفة هي التي تضع أسس العلم وشروطه الأساسية. فالعلم يتطور والفلسفة تواكب ذلك التطور من أجل ابتكار مفاهيم عقلية جديدة تكون أساساً لمرحلة أخرى من التطور وهكذا، وهذا ما أكده الراحل ستيفن هوكينغ على الرغم من تهجمه على فلاسفة هذه الأيام، ووصفه لهم بقمامة الفضاء في كتابه الشهير "التصميم العظيم" يقول هوكينغ:
"الفلاسفة كالعلماء لا يخلقون العالم بل يحاولون معرفة وتفسير العالم"
ولو انطلقنا من علوم وفلسفة الإغريق لوجدنا أن أفلاطون اعتمد في نظرية المثل على اكتشافات أتباع المدرسة الفيثاغورية لبعض المفاهيم الرياضية، وأن فلسفة ديكارت اعتمدت على انجازات جاليليو. فديكارت شيد نظاما فلسفياً من الكوجيتو "أنا أفكر". وهذا المبدأ يستند على مبدأ: أنا أشك، وأعرف أني أشك، وبالتالي فأنا أفكر، إذن أنا موجود.
لقد أكد ديكارت على أهمية المنهج الرياضي؛ لأنه وحده طريق اليقين، وعندما يدعو إلى تعلم الرياضيات ليس لمعرفة الأعداد وأشكالها وخواصها فحسب، بل من أجل تمرين العقل على استخدام المنهج الذي يوصل إلى اليقين. فوحدة المنهج لديه تعني وحدة الفكرة لا وحدة العالم كما يقول سبينوزا، فالعالم عند ديكارت متغير، أما العقل فواحد، ففي وحدة العقل تتوفر شروط وحدة العالم، وكان إعلاء شأن العقل أحد أهم انجازات ديكارت في الوصول إلى الحقيقة بغض النظر عما وصل إليه بشأن الذات الإلهية.
أما لدينا فما زالت الدراسات الفلسفية على قلتها، منشغلة بالأفكار الغيبية الميتافيزيقية، وأهملت الى حد كبير القضايا العلمية والتكنولوجية، وهو ما انعكست آثاره على الجامعات والفضاء الثقافي العام، في حين أننا بحاجة ماسة الى تحديث العقل العربي وتجديد الذهنية العربية على حد تعبير المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري. إذن لا عجب من انتشار الأفكار الغيبية والتطرف الديني وتكفير الآخرين الذي لم يسلم منه حتى هوكينغ الذي حاول تفسير العالم تفسيرا وضعيا فيزيقيا بعيدا عن الميتافيزيقيا والميثولوجيا الغيبية مما قاده إلى إنكار الذات الإلهية.
ويخلص هوكينغ إلى القول إن الفيزياء الحديثة لا تترك مجالا للإيمان بأي خالق للكون. ويضيف إنه مثلما أزاحت النظرية الداروينية الحاجة إلى خالق في مجال علم الاحياء، فإن عددا من النظريات الجديدة أزاحت أي دور لخالق الكون، وجعلت الإحالة له عديمة الجدوى، وكان باكتشافاته ودراساته يقول إن كل اكتشاف علمي يبعدنا عن الدين ولا يبرر وجود الخالق، فالدين والعلم إذن خطان متوازيان لا يلتقيان، فالدين عبارة عن ميتافيزيقيا مطلقة والعلم بالمقابل هو فيزيقيا نسبية فكيف للميتافيزيقا أن تلتقي بالفيزيقيا؟ وكيف للمطلق أن يلتقي بالنسبي؟
هوجم هوكينج بعد موته على وسائل الاتصال الاجتماعي، ويا للأسف كان بين المهاجمين فلسطينيون! أي من القوم الذين أيدهم هوكينغ وناصرهم! فهل يجوز بأي حال من الأحوال الحكم عليه من زاوية محددة وترك المناحي الأخرى وكأننا نمتلك الحقيقة المطلقة.
لسنا هنا بصدد تأييده أو دحضه في هذا السياق إلاّ أن الرجل سيبقى عالما فذا ملهما لكل الفلاسفة والعلماء وشعلة تضيء للجميع طريق المستقبل.