الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

عيون الأمهات توّاقة لأرواح في الأسر مشتاقة

نشر بتاريخ: 24/04/2018 ( آخر تحديث: 24/04/2018 الساعة: 13:28 )

الكاتب: أسامه منصور "أبو عرب"

وعندما تقرع الساعة 07:30 بتوقيت مرابض الحرية والشرف، معتقلات الإحتلال المجرم، وتتهيأ الحافلات للتحرك باتجاه فلذات القلوب والعقول والأرواح المقتطعة من أجساد أهالي الأسرى العظماء، ترمق الأمهات الفلسطينيات العظيمات الرائعات الشامخات العالم بغضب، ويبدأن بالتسلسل في مسلسل الذكريات لأجزاء أصيلة من موروثهن الذي أورثهن إيّاه الله، فمضخات القلب قابعة في "مجدو"، منبع الأفكار السلسبيل قابع في "مجدو"، خلاصة الروح متسربلة بالقيد في "مجدو"، كل مونتاج وقصة وحوار وإخراج لمسلسل بطله ابن أو ابنيْن أو ثلاثة أبناء أو أكثر في "مجدو"، وتظل حلقة المسلسل مسترسلة لحين بدء اللقاء العظيم، ثم تبدأ حلقة جديدة في طريق العودة، تنتهي عندما تبدأ مراسم الاستعدادات للزيارة التالية بعد اسبوعين أو شهر او شهرين أو حتى عام أحياناً أو أكثر وهكذا تستمر الحياة.
العين الأكثر حزناً بين العيون الأمهات الشامخات، هي عين الأم التي تستعد في الصباح وتأتي حاملة أغراضها وهي تعلم أنها ممنوعة من الزيارة، ما يُسمىٰ "منع أمني"، تأتي وتتفحص كل عين ذاهبة الى المعتقل المجرم المستحوذ على أجساد العظماء وليس إرادتهم، لعل هذه العيون تحتضن صورتها وتحملها لابنها "ضناها"، تأتي وهي تجر ابنها الطفل لتستودعه أحد الزائرين ليوصله حيث تلتقي قطعة من روحها بقطعة من روحها او قطعة من روحها بقطعة من روحه، تأتي ومعها أحد مسموح فهي ممنوعة .. أختها مثلا أو أمها وتظل تردد "بتقلّو إنّي بحبّو .. بتحكيلو إنّي ممنوعة من زيارتو مش مقصرة .. بتخرفو عن اختو إللي جبناها جديد وسميناها فلسطين .. مش تنسى تفهمو قديش قلبنا معو وإنّا بنفتحر فيه .. وظروري ظروري يعمللنا إشي من شغلات السجن ما احنا بنحب الشغلات إللي منّو .. وأهم شي يعرف إنّي حرّمت أكلة المقلوبة في الدار تا يطلع لإنّو بحبها تحرم عليي بدونو .. آه صحيح يوم عيد ميلادو جبنا كيكة عليها صورتو وحطينا عليها شمعات بعدد اسنين عمرو مش سجنو لانو فال عاطل وغنينالو أغنية (اطلعنا .. اطلعنا .. اطلعنا اطلعنا اطلعنا .. وقهرنا السجان) ما هي فالها حلو وبس خلصنا حلفت يمين ما حدا بذوقها محرّمة علينا يمّا .. بس تنساش اتفهمو إنو الكتاب منعوه يدخل المرة الماظية والمصحف أخرىٰ .. وهذول الصور في المطارح اللي بحبهن عند شجرة الجوز شرقا وعند حاكورة جارتنا مطرح ما بقىٰ يظل يتلمّظ حامظ حتّى شوف كيف ورقها مصفرن ع فراقو يمّا وهاي صورة لأختو فلسطين ما هو ما شافهاش حزين وهاي صورة للبلد بتطل غربا ومبين فيها طرف البحر مطرح ما بقى يحب يوقّف بالزبط .. هات اشوف خرفني عيدلي شو خرّفتك كلمة كلمة) .. وتتسمّر الأم الممنوعة في مكانها فيما تتدحرج الحافلات وتغيب رويداً رويداً عند منعطف إلى اليمين والأم الممنوعة تلوّح للخيال للسراب للوهم .. لا لا إنها تلوّح للحقيقة فروحها تحلق مع المسافرين إلى "مجدو" وهي ستلتقيه يعني ستلتقيه .. فتظل تلوّح ودمعتها أكثر غزارة من بئر باب العين.
وتظل الأمهات المسافرات للزيارة مضطربات بعد الوصول لساحة الإنتظار، يتفقدن أنفسهن أو الملابس الصيفية، فتلفي إحداهن أنها أحضرت قطعة واحدة من زوج الجرابين وأخرى نسيت الصور وأخرى تقرأ القرآن وتستدعي الله أن يمر اليوم على خير فقبل قليل وبمزاجية مفرطة تم منع أحدهم من الزيارة، وأخرى تتفقد محفظتها من أجل شراء التبغ ووضع "الكنتينة"، وأخرى ترضع طفلها، وأخرى أدركها التعب فسَهِيت عينها فأفاقت مذعورة خائفة أن تكون الزيارة قد فاتتها، وأخرى تدعي على الأحتلال والحكّام العرب، وأخرى مستغرقة في تفكير عميق فهي لا تبرح مسلسل ابنها الأسير الصامد المرابط المُضحي بحريته من أجل فلسطين المحتلة والشعب العظيم.
تبدأ المجموعات بالدخول، مجموعة الأشبال، فالمجموعة الثانية، فالمجموعة الثالثة، وتلتقي عيناي بثائر البطل الشجاع الحر، عيناي لا تفارق عيناه وكأني سيارة في محطة وقود تتزود بـ"البنزين" فأتزود من معنوياته العالية الصادقة الأصيلة ما استطعت، والأمهات يعانقن الزجاج يقبلنه لعل الحرارة تنفد منه، أصوات الحزن والفرح والعتاب والقوة والشموخ والإرادة كلها تجتمع في قاعات الزيارة، قاعات اللقاء بالأحبة، وتندمج الأصوات كأروع سيمفونية معزوفة تتداخل فيها الأحرف الموسيقية بشغف الحرف للآلة والآلة للصوت والصوت للمكان البعيد "يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما .. ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى" 45 دقيقة أقصر من لمحة برق.
الحافلات تتدحرج رويداً رويداً وتنحرف أيضاً لليمين في طريق عودتها، الصمت أبو الحالة وأمها وابنها، لا أحد ينبت ببنت شفة حتى الأطفال صامتون حتى الرضع صامتون حتى أصوات محركات الحافلات صامتة حتى السيارات بالشارع صامتة حتى الناس بالشارع صامتين حتى التلال والجبال والأبنية والحواري والأزقة صامتة، وعندما تتوقف الباصات، نجد الأم الممنوعة ما زالت متسمّرة في مكانها تلوّح بيدها، تنتظر من ذهب بدلاً عنها لزيارة ابنها، تحتضنه أو تحتضنها بصمت، تنظر شمالاً حيث معتقل "مجدو" تبتسم بثقة، وتنهال من عينها دمعة واحدة تُغْرِق العالم كله.
(إهداء إلى أهالي الأسرى عامة، والممنوعين من زيارة أبنائهم خاصة ..

 من إبنكم أسامه منصور "أبوعرب" 23/04/2018.