الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الخليل التي نحبها

نشر بتاريخ: 03/05/2018 ( آخر تحديث: 03/05/2018 الساعة: 10:37 )

الكاتب: تحسين يقين

يسلمنا بهاء القدس الى ميلاد بيت لحم الجميل، فملامسة أغصان العنب الخضراء اليانعة على طريق الخليل، فالمدينة الجديدة، فتسبقني روحي إلى البلدة القديمة، فأجد نفسي قد طرت من شارع عين سارة إلى قلبها الجميل الأكثر دفئا.
تعيدني تفاصيل المدينة الى الكتب، وكلماتي عنها، لعلها ذكريات عزيزة على القلب؛ هي تجوالي لنهاراتها، في أزقتها، حيث الأسماء تحضر الماضي، أو تأخذنا إليه؛ فما إن نخطو على حجارتها حتى نشعر أننا نطير فرحين.
هي، مدينة من حجارة وقلوب وكلمات، والحجارة ليست كباقي الحجارة، فكأنها من ماء وزهر، وكأنها تهمس توشوش تبوح تشكو وتغني..
هنا على باب الزاوية، تسلمني العصور لبعضها، بدءا من الآن، فاختلاط البناء العثماني بالكوليناني، فنقاء الأبنية الأيوبية والمملوكية والفاطمية المنسجمة، في جماليات لا تستطيع إلا الوقوف طويلا لتأملها، ولا تنتهي منها.
وهي المدينة الآن، وهي المدينة هناك موغلة في العراقة الباقية، يطل أطفال البلدة القديمة من فوق قناطرها، فنسمع اللهجة الخليلية المحببة والنقية، فتطل أزمنة، وترى أطفالا من مئات السنين يشاركونهم الحياة، فقد تداخلت الأزمنة وصارت معا.
مبكرة تصحو المدينة، بسلامها واطمئنان ناسها العجيب، بقية نوم في وجه أصحاب الدكاكين، بعضهم يقرأ الصحيفة وإغراء النوم الجميل يداعب العينين، فيما غفا آخرون باطمئنان جميل، أما ابتسامات الباعة، فأنارت طريقي.
طلاب المدارس والطالبات يصحبون زملاءهم إلى المدارس كأنهم طيور؛ لا صراخ فالمدينة مسالمة، هادئة، كأنها بيت جميل، يطردون برفق آثار النعاس، يقاسمهم اليمام فضاء المدينة، يبرقون في الأزقة، وما بين النور والظل، يسكن سحر المدينة، فكيف اجتمعت كل هذه العناصر معا..
لا نهائية المدينة، تطيل النظر في الظل والعتمة، فترة نورا يغريك، فما أن تصله حتى تتكرر ثنائيات العتمة والنور، فهل تلعب المدينة بزوارها؟ ثم اعود لألوذ بالشارع الرئيس، فللا يعرف تفاصيلها غير أهلها، وهي أصلا لا تمنح أسرارها لغيرهم.
اسير في السوق، أشم الهريسة بالسمن البلدي، هي ميزة خليلية إذن، فأتذوق الطعام الدسم، وتسلم العين على المارة، كأننا نعرفهم، نكاد نلمس سقوفها التي تمنحنا بألفة.
أمرّ على ما ألفته من طرقات وأبنية، كأنني ألقي السلام، ثم ما هي دقائق إلا ورأيتني أسلم باليد على كبار السن بكامل هيبتهم ووقارهم وكوفياتهم البيضاء كقلوبهم.
هو تجوالي وحدي، وصعودي المغارة، إلى ما تيسر من تاريخ عريق، وبشر توالوا هنا، فحجارة عظيمة، تثير الأسئلة عمن بناها، وأجوبة اسطورية، يقطعها عليّ سؤال الحراس عن العنب، فأنشغل به عن الأزمنة.
أصعد، درجة درجة، خطوة خطوة، كأن العلو يمنح قدسية للمكان، الذي يستقبلك أيضا بتاريخه، فترى بشرا بملابس متعددة، تعود لعصور مختلفة، وما أن تعبر حتى يستقبلك مقام السيدة سارة، فتلقي السلام، فإذا بك في زمنها، وتلك القصص، التي تعيدك أيضا للطفولة، وإلى أماكن بعيدة من هنا إلى آخر النظر شرقا وجنوبا..
تدور عيونك في الأروقة، فالحرم الرئيسي: السلام عليك يا سيدنا اسحق، السلام عليك يا سيدتنا رفقة، السلام عليك سيدنا إبراهيم، من هنا الى العراق إلى مكة وما بينهما. أمد البصر والخيال الى ما حوصر من مقامات أخرى: السلام عليك يا سيدنا يعقوب، السلام عليك يا سيدتنا لائقة، وسيدنا يوسف..
جميل المكان، فكيف يكون هذا الصراع الدمويّ!
هي بلد الأنبياء فعلا، فأضع أذني هناك على بابي المغارة، هل أسمع أدعية وتسبيحا؟ أم أقرا التاريخ الطويل..؟ وكيف سأستطيع مغادرة كل هذا الشعور؟ تصعد عيناي منبر الحرم، فأدخل تاريخ المكان، تلك هدية التحرر والتحرير.
أعود إلى المكان ولا أعود من الأزمنة، ثم نعود معا، متجولين فيما تبدع به لجنة اعمار البلدة القديمة التي يقودها الشاب الجميل المهندس عماد حمدان، حيث بإمكاننا تلمس بصمات الإبداع في الانتماء لمدينة سيدنا إبراهيم، التي تجلت بإزالة الغبار، وترميم الأبنية لتعود طازجة.
نتجول هنا، نحن المؤتمرون في ندوة التنمية والسياحة، أعيش ما اقترحته من مسارات، حيث أننا زوار أيضا..
هنا حمام، وهنا مصنع زجاج، وهنا مطحنة السمسم، معصرة الزيت، وهنا طريق، وهنا سماء، وهنا البلدة القديمة، فكل ركن يستحق وصفا وفيلما.
فتيات المدارس وعلى مقربة من اليمام رحن يرقصن رقصة شعبية، بفرح واطمئنان فيما ينظر الجنود فزعين، ليتساءل مستوطنان عن سر هذه الطمأنينة العجيبة.
ودا لو كانا عاديين..
المشهد ساخر جدا، وفيه مفارقة كبيرة، هؤلاء الخلايلة والخليليات بدون حراسة لكنهم مطمئنون، فيما يشعر بالخوف هؤلاء الغرباء برغم الحراسة المشددة.
تزرع اصالة ابنة ال10 سنوات الأمل من خلال صوتها، فأشعر بأننا أكثر قوة، نحن في "المؤتمر العلمي التنموي الثاني الدولي المشترك حول السياحة والتنمية: الواقع والتحديات" بنظرة باتجاه مستقبل المدينة لتصبح ضلعا رئيسيا يضاف للقدس وبيت لحم وأريحا، وباقي مراكز فلسطين التاريخية مدنا وبلدات وقرى وخربا؛ حيث يرتقي صوت الطفلة الخليلية لمشاعرنا وأفكارا انتصار للخليل وحبا ووفاء.
روح المكان والمعمار والطبيعة والبشر، هو ما نحتاجه في التقديم والترويج الثقافي للخليل سياحيا، وهذا ما نجتهد به، ليصبح شعار "زوروا الخليل" الذي أطلقه الشاب طارق التميمي قبل سنوات، نداء من دواخلنا وإليها ومنها.
كيف نقدم المكان سياحيا بما فيه من مكونات الفضاء التاريخي للخليل والفضاء الفيزيقي، في ظل كون المدينة من أقدس المدن، وكونها مدينة عادية من ناحية أخرى؟
لذلك فإننا نطمح أن نقدم مقترحات عملية في الترويج لمراكز المدن التاريخية الفلسطينية سياحيا، عبر الثقافة والإعلام، بما يرتقي بتلك المراكز، باتجاه جعل الاهتمام بزيارة المدينة أمرا مهما، وبشكل دائم، وعدم الاكتفاء بالترويج السريع.
وميزة هذا الاقتراح في الترويج، أنه لا يقف فقط عند الترويج السياحي، بل والثقافي، فليس الهدف هو تحقيق معدلات دخل من ازدهار السياحة، لأن الجانب المادي ليس هو الهدف الأكبر. لذلك فإن الارتقاء بتقديم مراكز المدن التاريخية يعني ديمومتها سياحيا وثقافيا.
نزور الخليل بشوق المحب ونتركها ونحن نخطط للزيارة القادمة، نداء دائم يشدنا من قلوبنا وعقولنا، الى بلد الأنبياء والعنب، والتاريخ، والحاضر المزدهر، صناعة وتجارة وزراعة وثقافة.
نأتي ونغادر وفينا شيء منها..يبقى فينا، فهي من نحب، وهي من نشعر بالأمان فيها، بما نلمسه من اطمئنان أرواح أهلها وحجارتها..واليمام.
[email protected]