الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

نجيب محفوظ كما عرفته

نشر بتاريخ: 22/05/2018 ( آخر تحديث: 22/05/2018 الساعة: 17:07 )
نجيب محفوظ كما عرفته
الكاتب: عزالدين المناصرة (شاعر وناقد)
وصلتُ إلى القاهرة 1964، قادماً من القدس. كنت آنذاك شاعراً شاباً قدم إلى مصر للدراسة في جامعة القاهرة. وفي (نوفمبر 1964)، بدأت أتردَّدُ على (مقهى ريش)، حيث يتمجلس عدد من الأدباء المصريين الشباب حول (نجيب محفوظ)، الذي كان في (الثالثة والخمسين) من عمره، فهو من مواليد (حي الجمالية) عام 1911. وهكذا أصبحت عضواً في مجموعة المريدين الذين يتحلقون حوله مرّةً كل أسبوع طيلة خمس سنوات متواصلة، أي حتى مغادرتي للقاهرة بتاريخ (19/2/1970). لا أتذكر أنَّ أحداً من مجموعة المريدين فكرَّ أن يلتقط صورة تذكارية له مع نجيب محفوظ، لأننا لم نفكر في يوم من الأيام أننا سوف نفقد صداقته الأسبوعية. كنا نناديه بـِ: (أستاذ نجيب)، أو (عم نجيب)، وكان بعضنا يناديه بـِ(نجيب بيه) مثل إبراهيم منصور الضاحك الأبدي، والمثقف الشفهي كثير الأسئلة. أهم ما أنجزه نجيب محفوظ (هرم الرواية العربية)، هو قراءته الدقيقة لعالم (الحارة المصرية)، والتحولات الاجتماعية والسياسية والصراع الطبقي، والتناقض في سلوك الشخوص. كما كان نجيب محفوظ منفتحاً على التحول في الأشكال الروائية الأوروبية. وكان يناقش هذه المسألة مع مريديه. كان نجيب محفوظ إنساناً لطيفاً بسيطاً ضحوكاً لا يعرف التكشير أو التعالي، يبدأ جلسته بالسؤال التقليدي عن الأخبار، فيتبرع أحد الحاضرين بالحديث عن خبر سياسي أو ثقافي، عندئذ يعلق نجيب محفوظ تعليقات سريعة، وهو ليس من ذلك النمط من المثقفين الذين لا يتركون أحداً يتكلم، بل العكس، فهو يميل إلى الاستماع، ويصبر على الثرثارين. ذات مرَّة جاء متهللاً مرتاحاً بعد أن أبدينا ملاحظات إيجابية حول قصة جديدة له نشرها في (الأهرام)، فقال مازحاً: (معنى ذلك أنكم تسمعون كلام الريّس)، وعرفنا منه أن الرئيس (جمال عبدالناصر) اتصل به وأبلغه إعجابه بالقصة. أتذكر أن أحد الحضور أبلغه أن (الرئيس القذَّافي)، اتخذ قراراً بـ(قطع يد السارق)، فقهقه نجيب بيه، وعلَّق على الفور: (أمَّال الوُزرا عندنا حيمضوا ازّاي). وفي عام 1968، صدر في القاهرة ديوان شعري مشترك لثلاثة شعراء، كنت أحدهم تحت عنوان (الدم في الحدائق)، ولمَّا نسينا نحن الثلاثة أن نهدي نجيب محفوظ نسخة منه، فقد عاتبنا نجيب بيه على النحو التالي: كنا نحن الثلاثة قد دخلنا إلى مقهى ريش معاً، فقال لنا: (أهلاً وسهلاً، ماعندكوش دم!!) بصيغة استفهام استنكاري. لهذا قمنا بتوقيع النسخة فوراً. وكان نجيب محفوظ يغازل مريديه الشباب بأن يسألهم عن نتاجاتهم أو يعلق على عمل أدبي أعجبه بلغة انطباعية. وكان يقرأ للروائيين العرب، ويردد أسماء بعضهم مثل: (حنَّا مينه، غسان كنفاني، سهيل إدريس، حليم بركات) في حواراته الصحافية، مثلما ردّد أسماءهم حرفياً في حوار أجريته معه عام (1970).
كان نجيب محفوظ متواضعاً حقيقياً، ودائماً أُدلّل على بساطته بالحادثة التالية: ليس من عادتي أن أصحو مبكراً في ذلك الزمان، لكن أمراً طارئاً أجبرني على الصحو المبكر، وكانت طريقي تقودني من (شارع قصر العيني) إلى ميدان التحرير باتجاه (باب اللوق)، وكان ذلك بعد السابعة صباحاً، حين لمحت نجيب محفوظ يمشي على الرصيف المفابل، دون أن أنظر إليه. فجأة وجدت نجيب محفوظ يقطع الشارع ويتجه نحوي مباشرة، وهو يقول مازحاً: (بتتجاهلني ليه كده يا عزّ). شرحت له الأمر بجملة واحدة: لم أشأ أن أزعجك. أصر نجيب بيه على أن أتناول معه الإفطار (فول وطعمية) في أحد المطاعم الشعبية، ودفع الثمن، وغادر مستعجلاً، لأنه يكون في عمله في الساعة الثامنة تماماً. عندما أخبرت المريدين في مقهى ريش عن هذه الحادثة، أجمعوا على أن هذه الحادثة من اختراع خيالي الشخصي، وبينما نحن نتحدث، دخل نجيب بيه متهللاً، وحيَّاني تحية خاصة كأنَّ سراً مكتوماً ينبغي أن أعلن عنه، فضحك الجميع.
لم يكن نجيب محفوظ سياسياً بالمعنى الاحترافي، لكنه كان يدلي ببعض التعليقات السياسية السريعة في الجلسات الخاصة في مقهى ريش، ولم تكن آراؤه تدلُّ على احتراف. وكنت دائماً أستدرجه للكلام عن قضية فلسطين، وسألته: لماذا لم يكتب رواية واحدة في هذا الموضوع، ولم يتهرب من الإجابة، بل أجابني بوضوح: (هذا يحتاج إلى خبرة ومعرفة ومعايشة). كان مريدو (نجيب محفوظ) في مقهى ريش يكتبون القصة القصيرة والرواية والشعر والنقد، ويمارسون الترجمة. كبروا، وأصبحوا قادة الأدب بمصر والعالم العربي. أما أنا، فقد غادرت القاهرة عام (1970)، بعد إقامة فيها دامت خمس سنوات، وكفلسطيني عشت متنقلاً في العديد من المنافي، ولم أزر القاهرة إلاَّ بعد (36 عاماً)، لهذا لم أقابل عمّنا نجيب بعد ذلك، وقيل لي في التسعينات: لقد تحوَّل إلى هيكل عظمي، فلم أشأ أن أغيّر صورته التي أعرفها في شبابي الشعري: كان إنساناً رائعاً بسيطاً عميقاً، متواضعاً، ضاحكاً، منظماً تنظيماً دقيقاً، أما نتاجاته، فقد جعلته يستحق (جائزة نوبل)، حتى قبل الحصول عليها بسنوات طويلة.