الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

صفقة غزة وشرعيات الأمر الواقع

نشر بتاريخ: 27/05/2018 ( آخر تحديث: 27/05/2018 الساعة: 21:53 )

الكاتب: د. عبير عبد الرحمن ثابت

أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
على قدم وساق تجري هذه الأيام مفاوضات محمومة لترتيب وضع غزة لعقود قادمة؛ وينهمك العالم اليوم وعبر وسطاء عدة لرسم معالم الوضع الدائم لقطاع غزة، فلم يعد وضع غزة شأن فلسطيني أو حتى إقليمي بل أصبح شأن دولي، وبالتأكيد لم يحدث هذا مصادفة. فوضع غزة لم يصل إلى ما هو عليه فجأة أو نتيجة كارثة طبيعية ألمت بالقطاع بقدر ما هو تراكم مدروس لمشاكل مفتعلة ومقننة التطور؛ تم مراكمتها لأكثر من عقد من الزمن وصولا إلى ما آلت له اليوم.
إننا أمام مخطط مدروس يوشك أن يصل لنهايته؛ ومن الواضح أنه قد تأخر الوقت كثيرا لإفشاله أو بمعنى أصح أننا فقدنا كفلسطينيين أي قدرة على مواجهته أو حتى تعطيله؛ بل على العكس فنحن نُستخدم من حيث ندري وليس العكس في تنفيذ فصوله، وتعبير صفقة القرن ليس إلا عنوان مختصر لما يجري تنفيذه على الأرض؛ وصفقة القرن هي مجموعة متكاملة ومرتبطة من الصفقات التي لا تكترث كثيرا بالمسميات بقدر اكتراثها بالنتائج الواقعية على الأرض.
وصفقة غزة اليوم وهي جزء من الصفقة الكبرى توشك أن توقع بالأحرف الأولى وليس مهما قطعا تسمية أو عنونة تلك الصفقة، بقدر ما هو مهم الواقع الذى ستكرسه صفقة غزة لعقود قادمة، وكذلك ليس مهم شرعية الأطراف الموقعة؛ لأن شرعية الأمر الواقع المفروض على الأرض هي دوما الشرعية الحقيقية وهي عنوان المرحلة؛ ومن يفرض الواقع على الأرض لن يعوزه منح الشرعية لشريكه في الصفقة؛ كما أنه ليس مهما مسمى أولئك الشركاء أو ما ستسفر عنه الصفقة من كيانية سياسية في غزة بقدر ما هو مهم ما سيؤديه هذا الكيان عمليا على الأرض كما أنه ليس مهما قط رأي الشارع الفلسطيني المُحيد في غزة، لأن السجين الجائع هو في الحقيقة مسلوب الرأي وأقصى أمانيه سد جوعه وإخراجه من سجنه؛ وسيكون في غاية الامتنان لكل من ساهم في تغيير حاله حتى وإن كان هذا الشخص سجانه أو من تسبب له بالسجن والتجويع والذل والهوان.
إننا اليوم في غزة في الدقائق الأخيرة من مرحلة أصبحت جزءا من الماضي؛ وسندخل عما قريب عبر صفقة غزة والتي هي جزء من مجموع صفقات متكاملة قادمة ستجمع في النهاية لتشكل صفقة القرن في مرحلة جديدة عنوانها السلام الاقتصادي، نستعيد من خلاله نحن الفلسطينيون في غزة حقوقنا الانسانية مقابل تغاضينا عن حقوقنا السياسية التي فشلنا في انتزاعها من إسرائيل، وترتبط فيه المصالح الاقتصادية بين الأعداء؛ وتمتلك غزة خلاله ما تحرص على عدم فقده بواسطة أي مغامرين أو مراهقين سياسيين جدد كي لا تعود مجددا إلى سجنها جائعة.
وفي الانتظار سيشكل نجاح صفقة غزة قوة دفع لصفقة أو حتى صفقات مماثلة لكيانات فلسطينية في الضفة على نفس النمط الغزي؛ ولكن هذا سيتطلب حتما مزيدا من تعطيل ما تبقى من شرعية فلسطينية في الضفة الغربية، وهو أمر حاصل منذ العام 2000 نحو إيجاد شرعيات فلسطينية موازية تنقل لها الصلاحيات التي سلبتها الإدارة المدنية للحاكم العسكري من السلطة الفلسطينية ضمن صفقات مشابهة لصفقة غزة؛ وفي النهاية سنجد أنفسنا أمام كيان فلسطيني كنفدرالي ما يربطه بإسرائيل أقوى بكثير من الروابط بين فدرالياته المقسمة جغرافيا وسياسيا.
إن المشروع الوطني الفلسطيني ينهار أمام أعيننا لكننا نتعامى عن رؤية الحقيقة؛ وننكر الواقع ونهوى العيش في الوهم وفي الواقع الافتراضي الذي لا علاقة له بما هو قائم على الأرض؛ لأن هذا الإنكار يوفر للبعض فرصة التنصل من المسؤولية عن الجريمة الوطنية والأخلاقية التي اقترفها بحق نفسه قبل أن يقترفها بحق شعبه، وفي المقابل إن هذا الواقع الذي يفرض اليوم على الشعب الفلسطيني سيكون قصير العمر بعكس أمنيات الذين يفرضوه؛ أو أولئك المتساوقين معه لأنه مرهون بحالة ضعف شاذة ومؤقتة تاريخيا في مسيرة أمة عريقة؛ وبحالة فقدان بوصلة وتشتت للشعب الفلسطيني ستنتهي حتما عندما يستفيق الشعب؛ ويخرج منه جيل جديد يدرك أن النضال نحو الحرية والانعتاق والاستقلال لا يتجزأ وأن النضال الفلسطيني يجب أن يكون على جبهتين نضال ضد فاشية وعنصرية المحتل نحو الاستقلال ونيل حقوقنا الوطنية المشروعة، ونضال على المستوى الداخلي ضد الدكتاتورية نحو الديمقراطية والحكم الرشيد الخاضع للمساءلة والمحاسبة الشعبية.