الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

حياة في زمن الانتفاضة الأولى

نشر بتاريخ: 25/09/2018 ( آخر تحديث: 25/09/2018 الساعة: 19:03 )

الكاتب: أمين عنابي

حكاية ظريفة ومعبرة عن مدى شعبية الانتفاضة، استهل بها ما اود كتابته، حيث كانت هناك مجموعة من النساء من كبار السن اللاتي تجاوز أعمار بعضهن الأكثر من ستين عاماً، فهؤلاء النسوة اللاتي كن يقمن باحضار ما تيسر من انتاجهن في الريف والقرى الفلسطينية، من اجل بيعها في سوق خضار رام الله، والذي يعرف باسم (الحسبة)، فكن يخفين اكوام من الحجارة تحت اثوابهن، ويجلسن فوق هذه الأكوام، وعند بدء المواجهات مع جنود الاحتلال في هذا الموقع يشاركن الشباب في توفير ما تيسر من الحجارة، لضرب جيش الاحتلال، هذا المشهد تكرر في كثير من الصور التي نشرت في الصحافة، حيث كانت بعض النساء يحملن على رؤوسهن الحجارة للشباب، هذه قصة لمسها وشاهدها الكثير من المراقبين.
فالهم الوطني والنشاط السياسي الرافض للاحتلال كان الرد الطبيعي على الكثير من الاسباب كي تثور وتناضل ضد الاحتلال، فالذي يعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي، يعرف معنى تقييد الحركة ويعرف معنى السجن والقتل والتشريد والاستيطان، وآثار بناء جدار الفصل العنصري، والرغبة في التحرر والانعتاق، فالمعاناة نتيجة لسياسة الاحتلال الاسرائيلي كانت كفيلة ودافع اساسي، ولكن كل هذه الأسباب هي دوافع أساسية للنضال والعمل ضد الاحتلال، فكانت هناك الهبات الجماهيرية والمواجهات المستمرة هنا وهناك، الى ان جاءت الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، انتفاضة العام 1987، كما أسماها البعض.
انتفاضة الحجارة جاءت على حجم المعاناة التي عاشها الشعب الفلسطيني، فشرارتها حادثة، ولكن استمرارها أصبح نهجا وطريق نضال ضد الإحتلال، لأنها لم تقف عند الحادثة التي حدثت في مخيم جباليا في قطاع غزة، فتعدت الحادثة وشملت جميع نواحي الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، فأصبحت هناك جديد بالتاريخ الفلسطيني، واضحى هناك نهج حياة يومي منظم ومحدد وفقاً لبرنامج وطني التزم به المواطن الفلسطيني، وهو البرنامج الأسبوعي للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، واستجابة الى نداءاتها المختلفة، فتعددت الأنشطة والمهام الوطنية وشملت جميع مناحي الحياة، فلم تعد المساجد أماكن للعبادة فقط، بل أصبحت مكاناً ونقطة انطلاق للعمل الوطني الفلسطيني وتوحد للكل الفلسطيني من الأحزاب والتنظيمات العلمانية والإسلامية كي تصبح الجوامع هي نقطة الانطلاقة، وخاصة ايام الجمعة من كل اسبوع، حيث كانت تخرج المظاهرات الجماهيرية من هذه الأماكن.
لعل أبرز ما ميز انتفاضة 1987 أو انتفاضة الحجارة هو شعبيتها وديمقراطيتها، فكان لجميع الفئات العمرية من الرجال والنساء والشباب دوراً هاماً في ترجمة قرارات ومهام القيادة الموحدة الى برامج وطنية وبرامج مواجهات ضد الإحتلال وكانت العلاقة واضحة العيان عند الشعب الفلسطيني، فكان فكلما زاد عنف الاحتلال وقمعه واستخدامه سياسات مختلفة من العصا والجزرة الى سياسة تكسير العظام الى العقاب الجماعي، زاد رفض هذه السياسات ومواجهتها والتصدي لها، فكل هذه الأساليب القمعية من قبل الاحتلال فشلت في كبح جماح الفلسطينيين، الذين لم يعودوا يتحملون احتلالاً يأكل أرضهم ويعذب ابناءهم في السجون ويهدم منازلهم ويقضي على حلمهم بالإستقلال والحرية، لهذا فقد ابتكر الفلسطنيون أساليب تساعدهم على الصمود والمواجهة والإستمرار في الإنتفاضة الشعبية، فكان هناك العديد من المظاهر التي أظهرت الإصرار والتحدي والحفاظ على الطابع السلمي للإنتفاضة، ومن هذه الأساليب رفع العلم الفلسطيني، حيث كان من المحظور السماح برفع العم الفلسطيني وحتى ابراز كلمة فلسطين، فمن يتظاهر حاملاً العلم، او يعلق العلم، فإن ذلك يعرضه للعقوبة بالسجن لمدة طويلة او الاستشهاد او الإصابة، لأنه يعتبر تحدي لسياسة الأحتلال وأساليبه القمعية، فكانت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة تضع في برامجها مهمة وطنية واضحة في جميع البيانات رفع العلم الفلسطيني فوق البنايات المرتفعة وفوق البيوت والعمارات وكذلك تعليقه على اسلاك الكهرباء وغيرها من الأماكن.
وهذا كان يربك الإحتلال، فأصبح همه انزال العلم ومنع بقائه حفاقاً، ولكونه منتشراً ومرفوعاً وأصبح هذا نشاط ثابت طيلة أيام الانتفاضة، وكان الرد الشعبي برفع العلم الفلسطيني في جميع المناطق والأحياء رداً على محاولة قمع التظاهرات والسيطرة بعدم رفع العلم الفلسطيني.
ومن الانشطة الوطنية الأخرى التي اصبحت طريق حياة وهي التكافل الأسري، فجاء هذا النشاط نتيجة لسياسة الإحتلال بفرض العقوبات الجماعية وإغلاق المحلات التجارية وإغلاق المدن والقرى والمخيمات، وفرض منع التجول فأصبحت الأسرة تتشارك وتتعاون, فمن يملك يعطي لمن لا يملك وأصبحت ظاهرة تقاسم ما هو متوفر من مواد غذائية وأدوية ظاهرة واضحة داخل التجمعات الفلسطينية في القرى والمدن والمجتمعات.
وهناك العديد من النوادر والحكايات حول هذا الموضوع منها ظهور الأفران، التي تعتمد على الحطب في فأصبح الحي بأكمله يقوم بعجين الطحين (الدقيق) وخبزه مرة واحدة، حيث يستفيد جميع سكان الحي من كمية الحطب الموجودة وغيرها من الحكايات.
وأدت الأنشطة والمهام التي ابتكرها الشعب الفلسطيني الى العودة الى الماضي والعمل في ظاهرة الإقتصاد البيتي، فعادت المرأة الفلسطينية نأخذ دورها في العودة الى الماضي، فعادت ظاهرة تنشيف البندورة والملوخية وغيرها من الخضروات وخبز العجين في البيوت على النار، وعادت زراعة بعض المزروعات والخضروات حول المنزل وفي الأراضي الفارغى داخل الأحياء.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فقد شملت حملات من التسويق والذي عرف في حينة في بالتسويق الشعبي، فنتيجة لسياسات الإحتلال بإغلاق المناطق وتشديد الحصار، اصبح المزارع الفلسطيني يعاني من عدم قدرته على تسويق انتاجه من الخضروات وغيرها من المزروعات، فجاءت فكرة التسويق الشعبي احضار كميات كبيرة من انتاج المزارعين من المناطق المختلفة في فلسطين، فمثلا تسويق البصل والملوخية والبطيخ وغيرها من الخضروات مثل البصل، الذي كانت تشتهر منطقة جنين وقرية جلبون وغيرها يتم احضار العديد من السيارات محملة بالبصل مثلاً، ويتم تسويقها في المناطق والأحياء بحيث تأخذ كل عائلة حاجتها واحيانا فوق حاجتها من اجل مساعدة للمزارع بسعر رمزي.
وهذا الأمر كان يحدث في موسم الملوخية وموسم البطيخ وغيره من الخضروات بنفس الطريقة، هذا ساعد المزارعين على الاستمرار بالزراعة، وهذا كان تحدي لمحاولة الاحتلال منع ادخال احتياجات المواطن الفلسطيني ومساعدة المزارعين في توفير جزء من تكلفة الإنتاج، وهنا يبرز السؤال: من كان ينظم كل هذا؟؟؟؟
كانت اللجان الشعبية هي التي تنظم جميع هذه العمليات من التسويق الشعبي وزراعة الساحات القريبة والأراضي الموجودة داخل هذه التجمعات السكانية، وتوزيع انتاجها الى جميع السكان كلاً حسب موعده ودوره في القائمة، وكان هذا يسير بشكل سلس ودون أية نقاشات، فكانت طاقة المواطن الفلسطيني طاقة ايجابية منتجة معطاءة في هذا المجال، فكان نشاطه في الفعاليات والمظاهرات والتجمعات صباحاً، وبعد الظهر العمل في الحي في الأراضي الموجودة داخل الحي، فمن الممكن أن يكون عضواً في لجنة الحي ويعمل في برنامج الحراسة الليلي للحي، أو التعليم الشعبي أو تسهيل مهمة الشبان الذين كانوا يقومون بالكتابة على الجدران وتوزيع بيان القيادة الموحدة، حيث نجحت لجان الحراسة في الأحياء في افشال العديد من محاولات الإحتلال لخلق بعض الفتن واجواء من الفلتان داخل المجتمع الفلسطيني، واشعار التاجر بعدم الأمان على بقاء محلة مفتوحا خلال سرقة المحلات التجارية، باستخدامهم بعض العملاء كون أصحاب المحلات التجارية كانوا رأس الحربة في عدم الرضوخ لأمر الاحتلال بإغلاق المحلات التجارية أو ابقائها مفتوحة، فإذا أراد الاحتلال اغلاق المحلات كان أصحاب المحلات يبقونها مفتوحة ويذهبوا الى بيوتهم لثقتهم بأن شباب الانتفاضة هم سيقومون بحماية محلاتهم، وفي المساء يقوم الشباب بإغلاق المحلات التجارية، وتسليم مفاتح المحلات لأصحابها كلاً في بيته والعكس تماماً، كان يحدث اذا كان الإحتلال يريد ان يفتح البلد المحلات التجارية يلزم التجار بعدم الرضوخ للاحتلال، وابقاء محلاتهم مغلقة الأمر الذي يستدعي الإحتلال بكسر أقفال هذه المحلات وفتح المحلات وهنا تصبح مسؤولية شباب الأنتفاضة في حمايتها.
هذا النوع من الحياة المقاومة الرافضة للاحتلال اصبحت حياة يومية يمارسها المواطن الفلسطيني برقابة ذاتية، فيعمل كل ما في جهده من أجل إنجاح البرنامج الوطني، وتنفيذ قرارات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة،لهذا من كان يعتقد بأن الانتفاضة هي فقط المواجهة مع الإحتلال بالمظاهرات، كان يملك جزءاً من الحقيقة، لأن الانتفاضة أصبحت نهج ونمط حياة عمل متناسق ومنسجم بجميع أنشطته المختلفة لهذا أخذت بعدها الشعبي، وأصبحت فيما بعد نقطة فاصلة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، فدخلت التاريخ بكلمة انتفاضة ودخلت القواميس وانعكست حملات كبيرة من التضامن الدولي والعربي مع الشعب الفلسطيني، الأمر الذي زاد من عزلة الإحتلال والتصدي لسياساته بخروج العديد من المظاهرات في العديد من دول العلم تضامناً مع نضال الشعب الفلسطيني، فرغم ضحايا الاحتلال ورغم سياساته استطاع الشعب الفلسطيني الإستمرار في النضال والأمر الذي أربك الإحتلال وزاد من الأعباء عليه حيث استخدام أعداد كبيرة من جيشه لقمع الانتفاضة.