الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف
خبر عاجل
جيش الاحتلال يعتقل جهاد نواجعة رئيس مجلس قروي سوسيا بالخليل

انتخابات المجالس المحلية: ماذا قالت الجماهير العربية في إسرائيل؟

نشر بتاريخ: 11/11/2018 ( آخر تحديث: 11/11/2018 الساعة: 11:23 )

الكاتب: جواد بولس

انتخبت الجماهير العربية في اسرائيل مرشّحيها لمعظم المجالس المحلية والبلدية، بعد أن خاضت معارك اتسّمت بشراسة شديدة في كثير من القرى والمدن العربية، رغم نداء البعض ألّا تخرج الممارسة الديموقراطية عن طبائعها التنافسية الحضارية، ورغم ندائه أن تخلو المنافسات من العنف؛ ذلك أنه سيترك جروحًا اجتماعية خطيرة وآثارًا سياسية سلبية. ولكنّ الأمنيات في شرقنا تبقى رهائن للخيال وحبيسات في القلوب، ففي الشوارع سادت، على الأغلب، "حكمة" العصا وتربع سلطان الخوف وتجبّره.
ستكون لنتائج الانتخابات، بطبيعة الحال، تأثيرات مباشرة على حياتنا اليومية وعلى مستقبلنا السياسي العام ومكانتنا كأقلية تواجه تحديّات وجودية في علاقتها مع الدولة. ولكن لا يمكن حصر انعكاسات ما جرى يوم الثلاثاء الماضي في مقالة اسبوعية، ولا عن طريق الاستعانة بتعليلات سطحية تتعاطى مع المتغيّرات الجارية كحدث عابر أو متوقع، وكأنّ الواقع السياسي، الحزبي والنخبوي والقيادي ، المتوارث منذ سبعة عقود، ما زال يحافظ على أركانه وعلى وشائجه وعلى مركباته وعلى تأثيره.
من الطبيعي أن تختلف الانتخابات المحلية عن انتخابات الكنيست، ولكن من الطبيعي والمؤكد كذلك أن تتقاطع العمليّتان في العديد من المفاصل، وأن تتبادلا التأثير بينهما؛ فكما هو متوقع بعد هذه الجولة، قد تدفع أو تندفع بعض الجهات السياسية نحو مبادرة لتأسيس حزب عربي جديد، سينافس القائمة المشتركة أو ربما سيكون معاديًا لها، والغد لناظره قريب !
تأثرت كل قرية ومدينة بمجموعة من المعطيات المحلية الخاصة والمميزة؛ بيد أن جميعها واجه، في الوقت ذاته، نفس المؤثرات والعوامل السلبية السقيمة. لكننا، رغم قتامة الصورة، نستطيع تشخيص بروز عدد من الظواهر التي أرى فيها، رغم محدوديّتها، بشائر لمستقبل مشرق وضمانات لعافية اجتماعية وسياسية مكنوزة في مجتمعاتنا.
ظاهرة شيوع العائلية والحمائلية وتأثيرها في مجتمعاتنا العربية كانت ولا زالت من المسلّمات المؤسفة؛ إلا أننا، رغم هيمنتها، سنجد من تحدّاها في عدّة مواقع، خاصة بين بعض النخب الطليعية والتقدّمية، وكذلك بين جيل الشباب، الذين أثّروا أو حسموا النتائج في العديد من المواقع، وكسروا القوالب وأرسوا بذورًا خيّرة إذا ما أحسنت رعايتها ستنمو وستصبح زهورًا لفجر واعد.
المرأة في مجتمعاتنا الذكورية مضطهدة، ودورها في قيادة العملية السياسية كان ولا زال، شبه معدوم ؛ فرغم مسيرات النضال ضد سياسات وممارسات قمعها، لم يحصل التغيير المنشود ولم تنل النساء ما تستحقه من حقوق ومن دور ومن مكانة. (مع وجود بعض الحالات الاستثنائية النادرة كانتخاب الراحلة ڤيوليت خوري رئيسة لمجلس محلي قرية كفر ياسيف الجليلية في بداية سبعينيات القرن الماضي وانتخاب عدد قليل من العضوات في هيئات المجالس). مع هذا، لا يمكننا التغاضي عن التغيير الحاصل في هذه القضية كما عكسته نتائج الانتخابات الأخيرة ؛ فللمرأة كان دور قيادي بارز في الكثير من القرى والمدن، حيث لم يقتصر ذلك على انتخاب 26 سيدة كعضوات في المجالس البلدية والمحلية، بل بمشاركة جموعهنّ الفعالة والمؤثرة في جميع مراحل العملية الانتخابية من تخطيط وتجنيد وقيادة ميدانية وتنظيمية ؛ مشكّلات بذلك ظاهرة لافتة، ستصبح واقعًا فيما اذا احتضنته جميع القوى التقدّمية الموجودة والناشطة في مجتمعاتنا.
أصبح شيوع ظواهر العنف في مجتمعاتنا العربية من الأمور الموجعة، وتحوّل العجز في مواجهته إلى خطر يهدّد السلامة العامة ويهزّ أركان هويّتنا الجامعة؛ ورغم بقائه كعامل مؤثر في مجريات العملية الانتخابية، باختلاف منسوب مفعوله بين مكان ومكان، شاهدنا كيف انبرت في بعض البلدات معظم الفعاليات الاجتماعية والسياسية إلى مواجهته؛ ونجحت في كثير من الحالات بإبطال مفعوله أو بتهميشه بشكل مفرح.
لقد أشرنا في الماضي إلى معظم هذه العوامل السلبية ونوّهنا إلى خطورتها وإلى تأثيرها التخريبي على النسيج الاجتماعي وعلى هويتنا الجامعة وعلى الحالة السياسية العامة المتقهقرة. كان سؤالنا دومًا : لماذا نجحت هذه العناصر وتغلغل نفوذها بيننا الى هذا الحدّ ؟ نحن نعلم انها كانت موجودة بيننا عندما عاشت مجتمعاتنا عصرها السياسي الذهبي ويوم كانت هويتنا الجمعية هي درعنا الواقي وكانت نخبنا التقدمية والوطنية سدودا حاضنة و"كواسر موج" تصدّ كلّ غريب وتعاقب كل معتدٍ وتردع كل مشاغب وتقصي كل عميل؛ فلماذا إذن ؟
لم تتعاطَ الأحزاب والحركات السياسية والدينية مع خطورة هذه التطورات؛ وقد تبين لنا في الواقع أنها لم تكن قادرة على مواجهة هذه الظواهر بسبب تكلّس هيئاتها وعجز قياديّيها، مما أدّى إلى استقواء تلك العناصر المنهكة وإلى دخولنا في حلقة خبيثة، يغذّي طرفها الواحد طرفها الأخر حتى وصل حالنا الى ما نحن عليه اليوم. فقد كشفت الانتخابات المحلية، في الواقع، تمكّن تلك الأعراض المرَضيّه من الجسد، لكنها كشفت كذلك عما تختزنه "أجسادنا" من مناعات اجتماعية ومن مجسّات سليمة متأهّبة وجاهزة لخوض معاركها من أجل الحياة الكريمة والصحية والسليمة.
يجب ان نقرأ تفاصيل ما حصل في جميع المواقع قراءة جريئة وسليمة وغير متعالية؛ فانتخاب بعض البلدات لرؤساء "محسوبين" على الأحزاب والحركات السياسية والدينية التقليدية يجب الا يغرّر بهيئات تلك الاحزاب وألا يوهمها ويطعمها "جوزًا فارغًا"؛ فنجاح كلّ رئيس في تلك المواقع حصل رغم انتمائه الحزبي والحركي وليس بفضله، والعبرة والفلاح سيكونان من حصة من سيجتهد ويستخلص أفيد العبر.
أقول ذلك وبرهاني، علاوة على وضوح النتائج، هو فشل القائمة المشتركة، ومعها سائر مؤسّسات المواطنين العرب القيادية، بتشخيص المخاطر الكامنة وبإيجاد قواسم مشتركة سياسية قادرة على تمكين أتباعها في القرى والمدن من اقامة أجسام غير متناحرة أو موحّدة ومؤهلة لمواجهة البدائل الغريمة وقوتها المتنامية. ولقد عكس تصرف الفرقاء/ الحلفاء انتهازية صارخة، واثبت تغليبهم للمصالح الحزبية الفئوية المحلية، التي تماثلت أحيانًا مع المصالح العائلية المحلية، على مصلحة المجتمع العامة وعلى سلامته؛ فقد نجدُ ائتلافًا بين حزبي التجمع والجبهة مثلًا في بلدة ما، بينما يدور بينهما صراع دمويّ في بلدة مجاورة. وقد شكٌلت هذه التناقضات مشهدًا أرخى على عامة الناس ظلالًا ثقيلة وأفضى، في النهاية، الى نتيجة سياسية واحده؛ وهي أنّ القائمة المشتركة كانت الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات .
على جميع الأحزاب والحركات السياسية والدينية التقليدية إذن أن تراجع بناها التنظيمية وتستحدث برامجها السياسية وأن تعي ان ولوجها الى بطن الحاضنة/ القائمة المشتركة لن يؤدّي إلى حمايتها من الجوع ومن الجفاف أو حتى من الموت البطيء.
كانت الجماهير هي الحكم عندما انصفت احزابها وحركاتها الوطنية، وستبقى هي الحكم الأول والأخير؛ ومن لا يراها كيف عاقبت من يعيشون في ماضيهم فقط ، مهما كانت تلك مضيئة ومشرفة ، لن ينجح في مواجهة شمس الغد الحارقة، ومن لا يشرع فورًا في "تنظيف مداخنه" سيختنق من دخان الحرائق، ومن لا يبدأ ببرمجة حواسيبه من جديد لن يجد لنفسه مكانًا يذكر في عالم "النانو" والروبوتات.
قد نختلف على عدة تقييمات حول نتائج الانتخابات الأخيرة؛ لكنني أسمع، ومعي يسمع الكثيرون، أصوات أوراق الناخبين وهي تصيح في صناديق الاقتراع وتفتش عن هوية وعن طريق وعن مستقبل. وأجزم، هكذا قالت لي الحناجر في بلدتي كفر ياسيف، أنه ما زال في القنديل بعض من زيت وهنالك من سيضيئ العتمة لأجيال المستقبل.