السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الإبداع: استبصار خارج الصندوق لتغيير منشود في داخله

نشر بتاريخ: 22/01/2019 ( آخر تحديث: 22/01/2019 الساعة: 12:15 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

من يترك نفسَهُ أسيرَ الماضي يفقدُ المستقبل، وإذا ما أردتَ أن تكونَ ناجحاً، فعليك أن تنظر إلى البعيد الذي لا يراه الناس، فما من طائرٍ علا إلاّ بعدما رفرف وآمن بقدرته على ذلك، بعد محاولةٍ تتلوها محاولات للتحليق عالياً كما الآخرين، فالحياةُ لا تمنحك شيئاً فشلت فيه أنت، فالفرصُ نادرةُ الحدوث، وهي اليوم تُخْلقُ ولا مزيد من الوقت لانتظارها، لذا عليك أن تجعل التحدي الأكبر في حياتك هو تطويرُ نفسك، وبناءِ ذاتك، لتكون مثلهم علامةُ تعجبٍ (!)، لا علامةُ استفهام (؟)، كمعظمِ الناسِ العاديين، فالإنسان بفطرته رياديٌ ومبدع، طالما استخدم قدراته العقلية والذهنية، وأعملها في كل شيءٍ مفيد، ليخلُقَ من ذاته منحىً إيجابياً، ويصنع فارقاً بين التضاد؛ كالنجاح والفشل، والابداع والتقليد، والانتاج والاستهلاك، والتغيير والروتين ... إلخ، وقِسْ على ذلك ما تشاءُ من مصلحاتٍ تصنعُ عمليةَ التغيير الإيجابي والواعي على صعيد الأفرادِ والمجتمعات، تبدأ بفكرةٍ من وحي فردٍ لتنتقل كإلهامٍ جماعي، ونموذجٍ للتعميم، والتقليد من الآخرين.
إنَّ رياديةَ الأفكارِ والأفعالِ عزيزي القارئ؛ كانت دوماً نتاجُ أشخاصٍ واعين، ومدركين لذواتهم ولأهدافهم، ولحاجاتِ مجتمعاتهم ودورهم فيها، فرياديةَ أيُ عملٍ أو فعلٍ تكون في البداية مبادرةُ شخصٍ واحدٍ، يحملُ فكرةً وبصيصَ أمل، تضيئ للآخرين سرمدية الطريق، فهناك أفرادٌ تميزوا على صعيدِ أعمالهم الشخصية، كستيف جوبس، وبيل قيتس، وهناك من تميزوا على صعيدِ مجتمعاتهم ككل، كـ منديلا في جنوب أفريقيا، ومحمد يونس في بنقلادش، وميهاتير محمد في ماليزيا، ولي كوان في سنغافورة وغيرهم الكثير غافل من يجهلهم، لأن حياتنا مبنية على بعض من وحي أفكارهم وإبداعاتهم.
وعليه فإن انطلاقنا بأفكارنا يبدأ من صندوق واقعنا نفسه أياً كان لونه (أسود، أبيض أو حتى رمادي) ومن حاجات مجتمعاتنا الحقيقية، ومن المشاكل التي نعيشها لحظياً ويومياً، فالعقول هي من تصنع من اللاشيء شيئاً، ومن الألم والمرارة سعادةً، وهي أيضاً من تصنع النقيض، فالرماد كان كفيلاً بنهضة ألمانيا من جديد، ومن تحت الركام بعقول أبنائها وحاجتهم للأمان والاستقرار، بعد نزيف دمٍ طويل، راح ضحيته الملايين، ولو رجعنا للتجارب التنموية والنماذج سابقة الذكر، لوجدنا أنها انطلقت بالإنسان ومن خلاله ومن وحي ما يحتاجه وما يفكر به، فالريادة والتنمية ترتكز في جوهرها على بناء الإنسان وما يحتاجه، ولقد شَكلَ التعليمُ في سنغافورة مثالاً حقيقياً، رغم محدودية الموارد الطبيعية في سنغافورة وافتقارها للعديد منها، وهذا يثبت قطعياً أن الريادة هي امكانيات بشرية صانعة للأفكار، حيث ركز لي كوان كرائد وصانع للتجربة السنغافورية في التنمية، على إعادة روح الإيمان لأبناء دولته، من خلال دفعهم نحو التعلم والعمل، من أجل إيجاد وطن يفتخرون في الانتماء له جميعاً، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية.
ومن باب تداول المفاهيم على حقيقتها في صناعتها للأثر الحقيقي، والمقاس كماً ونوعاً، في جانبيها النظري والتطبيقي، فَإِنْ الريادةَ مفهومٌ عام، ومرادفٌ لكلمات الابداع، والابتكار، والانتاج، وهي مصطلحٌ ارتبط ببني البشر تاريخياً على اختلاف زمانهم وماكنهم، ومنذ نشأة آدم عليه السلام، وهي كصفة وسمة؛ تعني التميز، والمبادرة، والابداع، وتلازم كلَ إنسانٍ قادرٍ على خلق وإيجاد قيمةٍ مضافةٍ للأشياء، ولو أمعنا النظر لوجدنا أن هذا المفهوم يمثله شخصُ الفاعل وهو الانسان الريادي كموصوف، وتميّزِ الفعلِ أو العملِ كنتيجةٍ ذات تأثيرٍ ايجابي، فهي من وجهة نظري؛ ترتكز على الانسان كمحور للتغيير، ونقطةُ انطلاقٍ للوصول لذلك التميّزِ فعلاً ونتيجةً، وقد نجدُ مفهومَ الريادة ظاهراً في إطاره الفردي في شخص المكتشف، والمخترع، والقائل، والمنظر، أو في إطاره الجماعي فيما أنتجته الأفرادِ لغاياتٍ عامة، على سبيل المثال؛ لا الحصر، وما أنتجته الحضارات المختلفة كـ الصينية، والفرعونية، والآشورية، والكنعانية، والإغريقية، والاسلامية، والغربية اليوم، كذلك ما شهدته في الحقب التاريخية من مكتشفات، ومصنوعات ميّزت تلك العصور، فنجد العصر الحجري، والبرونزي، والحديدي، والتكنلوجي حالياً، وهذا المفهوم اذا ما أردنا تخصيصه في مجال معين، فهذا يعني تميزٌ وحصرية في هذا المجال، أو تلك الصفة وذاك الموصوف، وتمثلُ في نتيجتها ما يضيفه ويصنعه الشخص الريادي من الموجود لما هو مفقود، عبر مبادرته للتغير بالانطلاق بفكره من وحي مجتمعه وصندوق حاجاته، ومشكلاته ليرى ما يراه الناس، وما لا يرونه، فهناك ريادة الأعمال، والريادة الاجتماعية، والريادة في المجال العسكري، والرياضي، والصناعي، والعلمي، والطبي، ...الخ، ولكلٍ منها رائدٌ وروادٌ وزمانٌ ومكانٌ والشواهدُ كثيرة.
ومن أجل خلق ذلك التميز وتلك الريادية في الفعل والفاعل، يجب علينا "بناء الانسان" القادر على التفكير والتجديد، لخلق تلك الأفعال والأعمال، فهي تحتاج في صياغة تكوينها البنائي إلى "تكوين فكري معرفي" أي؛ قدرٌ من المعرفة المتخصصة بالشيء، إضافة إلى "تكوين سلوكي قيمي"؛ ليستحقُ رائدها وسامَ الاتصافِ بها، بمعنى آخر؛ هي بحاجة لتفكيرٍ سليمٍ مقترنٍ بعمل، ولسلوكٍ إيجابي تحركه قيمٌ وعقائدٌ جازمة تجاه ذلك التفكير، وهذا العمل يستندُ لمنظومةٍ قيمية وأخلاقية ما، تقودُ الانسان نحو التغيير والتطوير، والخروج من نمطية الأشياء إلى قولبة الأفكار، وصناعة المحتمل من المستحيل.
وفي خلاصة القول إن التفكير خارج الصندوق يبدأ من داخل الصندوق ذاته، ليصنع من الموجود ما هو مفقود عبر إقدام نخترع فيها مستقبلاً توقعناه حقيقةً لا سراب، فالإنسان هو منطلق الريادة، ومن خلاله تبدأ، وهو مفتاح ذلك الصندوق، وذلك التفكير الابداعي، وهو جوهر التنمية، ومن خلاله وبه تتم، مهما كانت امكانات البلد المتاحة، فريادية الأفكار هي نتيجةٌ حتمية لخلق البدائل، وصناعة الحلول الابداعية، وفي نهاية الأمر أؤكد أنَّ الإنسان العربي الأصيل والمنتمي، هو الموجودُ الذي لا زال مفقوداً، لبناء نهضتنا العربية مرةً أخرى، في ظل هذا الابتعاد الطويل عن الماضي التليد، والمستقبل المنشود، لنهضةٍ تعيد توجيه بوصلتها العقول النيرة، وهذه حقيقةٌ يجب أن تعيها الحكومات العربية وساستها، وأستلهم في عنوان مقالتي هذه ما عبَّر عنه المغفور له الملك الإنسان الحسين بن طلال حينما قال: (إنّ حياتي مُلكٌ لشعبي، إنني أبذل كل ما في وسعي لكي تجد الأجيال القادمة ظروفاً حياتيه أفضل من ظروفنا) وبذلك تصنع التنمية المستدامة والبيئات الخلاقة للإبداع والمبدعين. 

• أكاديمي ومختص بالتنمية المستدامة والموارد البشرية.