السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

"الهدهد" لياسر المصري.. رواية الانصهار في الإيحاء والذاكرة

نشر بتاريخ: 04/02/2019 ( آخر تحديث: 04/02/2019 الساعة: 16:13 )
"الهدهد" لياسر المصري.. رواية الانصهار في الإيحاء والذاكرة
الكاتب: د. روحي ثروت زيادة- باحث وناقد في الكلية العصرية الجامعية/ رام الله

قال تعالى: "وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه، أو ليأتيني بسلطان مبين، فمكث غير بعيد، فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين" صدق الله العظيم.
فهدهد سليمان لم يكن من عامة الهداهد؛ بل كان هدهداً خاصاً بدليل تعريفه بأل التعريف، والهدهد يرى الماء من بعد ويحس به، والهدهد من بره لأمه أنه دفنها حين ماتت وجعل قبرها على قنزعة رأسه. والعرب يضربون المثل في قوة إبصار الهدهد فيقولون أبصر من هدهد.
والهدهد الإيجابي يشاهد في أثناء طيرانه ما لا يبصر غيره، ويخبر بما رأى. إذن اختيار الراوي ياسر المصري للهدهد عنواناً لروايته ركز أحداث الرواية على موقف المثقفين العارفين، وموقفهم من كل ما يدور حولهم من أحداث، والهدهد يجيد في خطابه المهارات الإبداعية من إيجاز فلا يميل إلى الثرثرة ويراعي ظرف المخاطب ومنزلته ومكانته، ويجذب استماع المخاطب حتى يتمكن من إيصال رسالته، كذلك المثقف يلمح بالحل ولا يأمر به، فطبيعة النفس الإنسانية تنفر من الأوامر لهذا يلجأ المثقف (الهدهد) إلى أسلوب العرض والاقتراح.
"وجئتك من سبأ بنبأ" والنبأ هو الخبر الذي له شأن عظيم والمؤكد بأدلة التوكيد.
الهدهد وإنكار المنكر، فحين ينكر المثقف ما يرى من تصرفات وأحداث يُظهر ذلك ويبوح به، ويحاول وضع حد لما يجري.
والهدهد المثقف دقيق ويحيط بما لا يحيط به الآخرون، ويحيط بالشيء من جميع جوانبه، وفي هذا من الدقة والضبط ما لا يخفى، فلم ينظر ياسر للقضية من زاوية واحدة، ولم يطرح وجهة نظر واحدة، ولم يلجأ إلى ظاهرة التأثيم والتفسيق، ولم يستثن أحداً من المسؤولية.
الهدهد المثقف في هذه الرواية يحترم القيادة ويقدرها، فيعرض القضية للقائد دون أن يدلي فيها برأي إلا بالتعريض والتلميح.
متابعة صدى المواقف والأقوال، ومتابعة ردة الفعل، وبناء على ذلك يكتمل الأمر ويكون التصرف في المرحلة القادمة.
هذا ما أوحت به رمزية العنوان الهدهد.
والروائي ياسر المصري في هذه الرواية يمتلك طاقة تعبيرية هائجة متعجلة ومقتدرة على الرؤية، وروايته هذه تحمل في بواطنها محفزات ناتجة عن اليقظة والحذر والمواجهة، غارقة بالحنين والشعور بالغربة وفيها انصهار المجتمع والإنسان والنفس والتاريخ والجغرافيا واللغة في بوتقة الإيحاء والذاكرة.
وعناصر الرواية الحديثة من الشخوص أو الأشخاص، والزمان والمكان والحدث والحبكة والعقدة والحل، متفاوتة في انعكاساتها، فاختيار شخصية الديك المغلوب على أمره فيها شطط وتجاوز لما تحمله تلك الشخصية؛ فالديك على الرغم من دلالته على الذكورية إلا إنه يحمل معاني البشر والتبشير بفجر جديد، ومستقبل مشرق، غير أنه هنا خرج عن هذه الدلالات ليضعه الراوي موضع الضعف والتشاؤم، ولعل ذلك ليس قصوراً من الراوي بقدر ما هو فانتازيا وخروج عن المألوف، ليتماهى مع الوضع المتردي والتخبط الذي ينتاب أبناء هذا الشعب العظيم وتوالي النكبات والتآمر عليه من كل من هم وصاة على هذا الشعب ومقدراته.
ولجأ الراوي هنا أيضاً إلى اختزال الزمان والمكان وعدم المكوث فيه أكثر من مشاهد قصيرة، على الرغم من أنه مسكون بالمكان مولع به أما الحوار بقسميه الخارجي والداخلي (ما نسميه المنولوج أو صدى النفس فعلى الرغم من محاولة ياسر استثمار هذه الحوارات لتوضيح وجهة نظره إلا إنه نجح في حديث النفس (المنولوج) وأخفق في الحوار الخارجي خاصة ما دار بين الجنديين في مدينة جنين فجاء الحوار على بساطته كنشرة أخبار.
ولكن ما يسجل لصالح الراوي في هذا المجال هو عدم انحيازه لوجهة نظر دون الأخرى، فقد أطلق لكل المتحاورين العنان كي يعبروا عن خلجات نفوسهم بحرية مطلقة، فكسر جدار الصمت والسلبية، مع أنه في بعض الأحيان كان يلجأ إلى التدخل لتبرير المواقف المختلفة، مما يخرجه عن نطاق الحيادية.
وأما السرد في هذه الرواية، كان يصدر من الداخل تارة، ويصدر من الخارج تارة أخرى، من خلال إنطاق الشخصيات، ونلاحظ ذلك الانعطاف الحاد عند الانتقال من السرد إلى الحوار، مما يشعر القارئ بتلك المطبات المزعجة في الرواية.
اللغة في السرد والحوار مباشرة في بعض المحطات، ورمزية في محطات أخرى، تفتقر إلى الإيحائية في مواضع، وصريحة مباشرة في مواضع أخرى.
ومن أجمل ما ورد في الراوية من الإيحائية والرمزية، تلك الإشارة إلى ملحمة أقهات الكنعانية حين أشار إلى بعل (محاولة منه للتأصيل لهذا الشعب العظيم وأحقيته في امتلاك أرضه).
أما الحبكة، فجاءت في المنحنى الطبيعي للرواية، حيث تنامت الأحداث، واختلفت العلاقات ومحاور القوى، وانقلب الصديق عدواً والعدو صديقاً، ودار ما دار من أحداث أسست وأرهصت للحبكة والعقدة، ولم تش بالحل؛ لكنه على طريقة الفانتازيا انعطف إلى الحل انعطافاً حاداً أدخل القارئ في إرباك، فلم يرهص لتلك النتيجة والحلول المفتوحة، تاركاً مساحة واسعة لخيال القارئ.
لا سيما وهو العارف لمدى صعوبة الوصول إلى العودة كجسم واحد يعاني هماً واحداً، تحكمه ظروف واحدة.
ومن أجمل ما في الرواية هو جعل الديك يتحدث بصيغتين، وكأنه في الأولى يذيع نشرة أخبار في تلفزيون فلسطين، وفي الثانية في تلفزيون الأقصى.
ولغة النشرة على لسان الديك منذ البداية حتى النهاية هي إشارة إلى قمع الحريات الذي تمارسه كلتا السلطتين للإنسان المستقل.
ومن جميل الأسلوب ذلك المزج بين السرد والحوار واللغة الشعرية الشاعرية، لكن ازدحام أسماء الطيور والحوارات الخارجية بينها، ودخول السرد والحوار في استطراد فيه إيحاء للواقع المر والتخبط الذي آلت إليه جميع فئات الشعب، فلم يسلم منهم أحد، والكل تأثر جراء كل ما حدث ويحدث. وهذا ذكاء واضح من الراوي في استخدام ما يناسب هذا الواقع من لغة واستطراد، وإيحاء، وحوار.
وعلى الرغم من الاختيارات المعجمية والبيانية المعبرة عن قيم وطنية وإنسانية لدى ياسر المصري إلا إنه يلجأ أحياناً إلى الوصف التقريري في أثناء السرد والحوار معاً، ويخرج على إطار تفكير شخوصه إلى تفكيره الخاص، وفي الحالتين كان ناجحاً مقنعاً.
رغم اكتظاظ الرواية بالإيحاءات والرموز إلا إنها عفوية خاصة في تراكم الحوار، وكثرة ومضات التنوير ووصف الأمكنة والشخوص.
هذه الرواية البكر لياسر المصري فيها نكهة غير معهودة، وفيها إبداع متميز انعكس في السرد والمستوى الفني والتصوير والحركة واللون، حيث قدم شخصياته بشكل جعلها تتحرك أمام القارئ، بصورة HD بدرجة عالية من الوضوح، فيها حياة نابضة بكل معاني الحياة السياسية والاجتماعية.
وصف ياسر المصري الواقع الفلسطيني والعربي بعمق فلسفي ومنطق واضح، ولغة أدبية جميلة بريشة الفنان المبدع الذي يلتقط الأحداث بعين الصقر، ومعرفة الهدهد، وبساطة الديك.
لجأ ياسر المصري في هذه الرواية إلى السرد التاريخي للأحداث وفضل النهاية المفتوحة، وأخفى الحلول ليضع كل إنسان الحل الذي يراه مناسباً لوضعه المتأزم.
اختفاء الراوي والسارد في كثير من المحطات، ولجوؤه إلى التفتيت تارة والتجميع تارة أخرى، والحكاية تارة والحوار تارة أخرى رغم حداثته يشي بميلاد أديب جديد نطاسي حاذق هو ياسر المصري.
وأخيراً فإن النقد الانطباعي يبعد الناقد عن الموضوعية، وهنا يمكنني الادعاء وبقوة بأنني لم أتعرف إلى ياسر المصري إلا قبل نصف ساعة من الآن ولم ألتقه وأشاهد محياه الجميل من قبل، فلعلني لم أجامل ولم تسيطر عليّ الانطباعية، فنقدت روايته بتجرد وموضوعية دون التأثر بالعلاقة الشخصية.