الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الخيال السياسي

نشر بتاريخ: 15/02/2019 ( آخر تحديث: 15/02/2019 الساعة: 11:46 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

عنوان هذه المقالة مقتبس عن عنوان كتاب من تأليف الدكتور عمار علي حسن، الصادر في العام 2017 -المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وقد لفت انتباهي في الكتاب المذكور الذي انتهيت من قراءته مؤخراً، أن المؤلف تناول موضوعاً جديداً، لم يسبق أن كتب حوله باستفاضة في عالمنا العربي، عدا مداخلات مقتضبة جاءت في سياق مواضيع ذات صلة بالخيال، حيث وفي كثير من الدراسات أُشبع الخيال الأدبي تحليلاً وبحثاً، وكذلك الحال بالنسبة إلى الخيال العلمي أو الخيال الاجتماعي، وظهرت دراسات أيضاً في الخيال النفسي.
تعامل المؤلف مع الخيال السياسي بوصفه منتجاً ثقافياً، لأنه يخضع في النهاية لقدرة الفرد على الإبداع وامكانية الخلق والابتكار، إضافةً إلى أن الخيال السياسي لا يمكن أن يتشكل ذهنياً ووجدانياً، بمعزلٍ عن ثقافة واسعة، مستمدة من معرفة جيدة بالعلوم الأخرى من اقتصاد وفلسفة وفيزياء وعلم نفس وأدب ومنطق.... ومن الضروري أن يتم التفاعل والتلاحم بين هذه العلوم في أُفق الثقافة الكلية للإنسان، ليكون قادراً على إطلاق خياله السياسي، لأننا نقصد هنا خيالاً معرفياً مبنياً على علم وليس على خزعبلات ودروشة.
إن السياسي المحترف إذا افتقد للخيال وظلَّ محكوماً لتكتيكات محدودة سيغرق في تفاصيل يومية تُعلّب عقله ومداركه، وتجعله محبوساً في حسابات اللحظة السياسية، بعيداً عن الاستشراف والرؤيا القادرة على امتلاك إمكانية تصور ما يمكن تحقيقه في المستقبل.
لقد تسنى لقادة تاريخين تحقيق انتصارات جبارة على قوى محلية وعالمية، معتمدين على خيال سياسي مكنهم من إنجاز قراءة متخيلة على سبيل المثال لخارطة استقلال تم رسمها وتشكيلها في أفق الحلم.
لكن الخيال السياسي وحده لا يكفي وإلا يصبح فعلاً وجدانياً كقصيدة شعر، إذا لم يوظف صاحب الخيال السياسي آليات وأهداف مرحلية تعمل على تحويل الخيال السياسي آليات وأهداف مرحلية تعمل على تحويل الخيال السياسي آليات ووسائل تعمل مرحلياً على تحويل الخيال السياسي إلى واقع، ثم لينطلق الخيال مرة أخرى بعد الاستقلال، ليركز على أهداف بنائية جديدة يطوف بها في انتظار التحقيق.
إن الدول المتقدمة حققت كثيراً من الإنجازات وأحدثت قفزات كبيرة ونوعية في الاقتصاد والتكنولوجيا والرياضيات والكيمياء والفيزياء والعلوم الاجتماعية، لأن خيال السياسي للنخب لم يتوقف عن التحليق في محاولة للوصول إلى ما هو أفضل، على اعتبار أنه إذا توقف الخيال، فإن عملية الحياة ستتسمر وتتجمد في مكانها دون أن تتحرك إلى الأمام، فيما الخيال السياسي في عالمنا العربي ظلَّ محدوداً ومضغوطاً في قوالب آنية إذ لم ير القسم الأكبر، ممن يمسكون بالسياسة والاقتصاد ما يحمله المستقبل، وظنوا أن حياة المواطن ستبقى رهينة لسياسات وإجراءات تضمن بقاء هذا المواطن محدودب الظهر تحت سقف منخفض ليس بمقدوره تجاوزه، فإذا بالاحتجاجات الجماهيرية تباغت الجميع، مقابل ذلك فإن من فجروا الاحتجاجات منطلقين من فرضية أنها "ثورات" أو "ربيع عربي"، افتقروا أيضاً للخيال السياسي وراحوا يحطمون المؤسسات ويدمرون الجيوش والشرطة ويخربون البنية التحتية، لتتقهقر بعض الدول إلى مرحلة ما قبل الدولة، فلا الخيال السياسي لحكامها، نجح في قراءة استشرافية لواقع مجتمعاتهم، ولا من أعلنوا أنهم سيفرشون "ربيعهم" استطاعوا أن يجعلوه ربيعاً حقيقياً، لأن اليباس دهمهم مبكراً دون أن يسعفهم الخيال السياسي في رسم صورة مختلفةٍ للمستقبل.
ومعلوم أن الخيال السياسي للقادة والمفكرين لا ينجح في كل تجربة في تجسيد الحلم، حيث إن عبد الناصر بمشروعه القومي والتنموي والوحدوي العربي، قد برهن على خياله السياسي الخصب، بيد أن الأدوات التي استخدمت لم تكن مناسبة لترجمة الخيال إلى واقع، كإسناد مهمات حساسة لقادة عسكريين وسياسيين فشلوا في الامتحان الصعب، في الخامس من حزيران عام 1967، وهذه إلى جوانب عوامل أخرى داخلية وخارجية، تسببت في هزيمة عسكرية، كان لها تداعيات سلبية على مجمل المشروع القومي، إلا أن ذلك لا ينفي أبداً أن عبد الناصر تمتع بخيال سياسي هو وليد حلم ورؤية استشرافية بعيدة المدى.
إن الخيال السياسي يتطلب وجود أصحاب قدرات تحليلية عميقة ورؤى استراتيجية لنخب قيادية تؤمن بالعلم وتسعى للتغيير بالانسجام مع روح العصر، بمعنى أن الخيال السياسي معدوم تماماً عند الذين يتكالبون لاستصدار نسخ كربونية لتجارب قديمة بل موغلة في القدم، فهؤلاء لا يعانون قصوراً في الخيال السياسي فقط، وإنما إلى جانب ذلك يعانون عقراً لا شفاء منه، والصحيح أنهم بلا خيال، ومجرد أدوات هدم تنبش في دهاليز ومغائر مهجورة من مخلفات حقب زمنية، من العبث استنساخها، وكأن عقارب الزمن قد شنقت نفسها بحبال الهروب من العصر إلى قرون خلت.
وأخيراً إذا كان الخيال السياسي مطلوباً وضرورياً للقادة فإن الدكتور عمار علي حسن لا يقصر الخيال عليهم فقط، وإنما يحث المواطن العادي على إعمال خياله السياسي قبل اتخاذ قرارات تتعلق بالسلطة، فإذا شارك في انتخابات برلمانية أو رئاسية، ولم يكن له انتماء حزبي، فعليه أن يتخيل سياسياً ولو قليلاً شيئاً مما يمكن أن يفعله أحد المتنافسين ليتم التفضيل والاختيار.
فالخيال السياسي يخدم في القضايا الاستراتيجية على صعيد القادة، وفي مسائل أصغر وربما محدودة تمكن المواطن العادي من رؤية ما يتوقعه في الغد إزاء ما يرتبط بحياته ومستقبله.