السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

أكاديمية التنوير في قلب الزنازين

نشر بتاريخ: 20/02/2019 ( آخر تحديث: 20/02/2019 الساعة: 19:09 )

الأسير رائد الشافعي
محكوم بالسجن المؤبد

ان الثقافة التنويرية مثلت على مدار المراحل التاريخية التي مرت بها الانسانية رافعة رئيسة لكل مشروع تحول وما كنا نحتاجه في السجون والوطن هو المشروع الثقافي التنويري ومواجهة الجهل والفكر الظلامي المغلق والتقليدي وفي مواجهة أعراف وعادات وموروث وعقل اجتراري غدى جزءاً منه قيداً على الابداع والابتكار والتقدم والاجتهاد وهذا المشروع التنويري لا يشمل لوناً ايدلوجيا بعينه بل انه يشمل كافة اطياف القوى الايدلوجية والفكرية التي تحتاج الى افاق وتجديد وارتقاء.
وقد جاء برنامج جامعة القدس في السجون ليمثل هذا المشروع القائم على الجهد المنظم والذي يعزز الدور الجماعي مفتاح لعملية التغيير. وفي القلب منه فان هناك دوراً فردياً يقع على عاتق كل انسان أسير يرى في الحرية والثقافة قيمة ومفهوم شامل لا يتجزأ. لذا كان دور كل فرد بمكانه هو مساهمة بقدراته تجاه دفع هذا المشروع نحو تحقيق انجاح هذا المشروع التنويري الاكاديمي والتقدمي بمضامين انسانية. وان الجامعة والحال التي انتجتها تمثل رافعة لحالة من النهوض والتقدم واداة من اجل مواجهة المشروع النقيض ومن اجل المواجهة فان الأمر استدعى العمل على كافة المستويات لتقديم بديل حقيقي في واقع متغير، بديل ابداعي فكري وثقافي واكاديمي بمقاربات اخرى داخل السجون ولم يكن مشروع جامعة القدس الذي قاده بجدارة واقتدار القائد الوطني د. مروان البرغوثي الذي قاد هذا المشروع ليشكل البديل الافضل والاداة الحقيقية لتغيير واقعنا وفي ظل حالة التراجع الوطني والثقافي والترهل التي تمر بها الحركة الوطنية برمتها ومن ضمنها الحركة الأسيرة ، وحسب قول عبد الرحمن الكواكبي " ان من أقبح انواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل".
وقد عملت الجامعة من خلال برنامج البكالوريوس والماجستير ومن خلال القرار الشجاع لرئاسة الجامعة والجهد الذي بذله الوزير السابق الاخ عيسى قراقع على توسيع بقعة النور على حساب الظلمة وفتح الابواب المغلقة عمليا لمعرفة ذاتنا واقتحمت الجامعة الاسوار الشائكة والزنازين المعتمة لتضيء شمعة وتفتح العقول في تجربة فلسطينية نادرة تستحق كل تقدير واحترام بمجموعة كبيرة من الاسرى الذين حرمتهم الظروف فرصة التعليم ويقضون اجمل سنين اعمارهمفي زنازين الاستعمار. ومن خلال الجامعة اصبحت القراءة والعلم جوهر الواقع ذاته والقانون الناظم للفكر والابداع من خلال رصد برنامج صارم وشامل ذات مهمات مركبة وتحولت الثقافة والعلم الى اسلوب حياة وترجمت ذلك الى قعل وسلوك، هذه هي روح المسؤولية الكبرى الا وهي بناء منظومة تعليمية ثقافية ترى في الانسان الأسير فاعلاً ومشاركاً ومسؤولاً أمام مهمة مركبة متشابكة ومتداخلة تتمثل في حماية مشروع الجامعة التي حولت الاحلام الى حقائق وعلى قول غسان كنفاني" ان الحقائق الصغيرة لم تكن في يوم سوى الأحلام الكبيرة والمشاريع الكبيرة يمكن تحقيقها بجهد وبدون انتقاص من قدرة كل انسان بالمساهمة".
لقد كان العمل والمثابرة على ادخال جامعة القدس ومشروعها التعليمي وبرنامجها وتجربتها الدراسية والاكاديمية هي من أكبر وأعمق التجارب في تاريخ الحركة الأسيرحضوراً وتأثيراً وتعقيداً في مواجهة الجهل والعزلة وكسر الصمت وشكلت نموذجاً نوعياً لما تمثله في الاستمرارية الثورية والثقافية للنضال الوطني بتسليح الأسرى بأهم الأدوات والوسائل العلمية والنقدية لفهم جوهر الصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني وللجامعة ابعادها الانسانية والاخلاقية واثرها على صقل الشخصية الوطنية وبلورة هوية المثقف المشتبك بالاضافة الى تداعياتها المهمة على الأسرى وعائلاتهم فالوطن هو الانسان أولاً قبل ان يكون كومة حجارة وأرض مسلوبة. وفي السياق ذاته اضافة لاسهامها في التفاعل الديناميكي الذي دفع بتفعيل العقلية البحثية والنقدية واثر ذلك على البيئة التنظيمية والاجتماعية في قلاع الأسر ولعل توقيتها وحضورها هو الاختيار الأهم في الزمان والمكان الذي شكلت شبكة الأمان والحماية والسد المنيع في مواجهة عملية التدمير البطيء والمنظم والعمل على تفكيك أواصر الهوية الوطنية الجمعية في وقت تراجع وانهيار في منظومة الثقافة الوطنية والوحدوية في صفوف الأسرى الفلسطينيين خاصة بعد ان تحولت السجون الى مختبرات ومراكز للأبحاث الاسرائيلية وهنا شكلت جامعة القدس بديلاً مقاوماً ونضالياً لأن النضال في الأسر لا يتوقف بل تتبدل أدواته. ويتبين ان جامعة القدس من خلال البرنامج شكلت نواة مشروع المقاومة لاستنهاض السجون ولاعادة تأسيس وتأهيل الوعي الثقافي الوطني عبر بلورة وتأطير هوية وطنية جمعية رسالتها ثورية الجوهر لا تخضع لقوانين سلطة السجون ولا لأمكنة وأزمنة طارئة وعابرة هنا تبرز مسؤولية ودور القائد المناضل المثقف في خضم هذا الصراع وهذا يؤكد مقولة سارتر
" لكي يكون لك حق التأثير في المناضلين يجب عليك أولاً ان تشاركهم في نضالهم".
ان حضور الجامعة قد ساهم في ايجاد اطار فكري فاعل للتفكير النقدي والعمل ورسم نقطة تحول ونضج في جعل الأسرى قادرين على القطع مع الثقافة السابقة وغير العلمية وغير الاكاديمية على أهميتها واحداث ثورة ثقافية على أسس ومناهج علمية مما يجعل هذه القضية والتجربة موضع فخر لانها الاستثناء الأبلغ والأعظم والأهم في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة وهذه حقيقة ليست توصيفاً رومانسياً وستخلد هذه التجربة والقائمين عليها والداعمين لها في الوجدان والضمير الجمعي للأسرى وللشعب الفلسطيني لانها نسجت روابط الوحدة والتعددية في زمن الانقسام وان الحاجة الراهنة لمقاومة المناهج والتأطيرات والانقسامات التي تفرض علينا فالبعد الفصائلي والايدلوجي والسياسي وغيرها من الابعاد في سجن هداريم يشكل حالة تنوع وقوة وابداع وان التناقض والابداع حياة وفي التماثل موت ونحن نريد الحياة ونؤمن بالتنوع كما قال المفكر الراحل مهدي عامل.
ان فكرة الجامعة ومشروعها الريادي حرر الأسرى من عبودية الانتظار وقيود اليأس والعدمية وعبثية المكان والزمان وما عادوا اليوم ما كانوا عليه بالأمس بعد ان هزمت أمام ارادتهم الظروف الموضوعية وتحول الحلم الى واقع حقيقي بفعل انساني جمعي وبعد ان تحول الخلاص الفردي الى لوحة مباهاة على حساب الخلاص والنصر الجماعي. فبرنامج الجامعة اعاد احياء التمرد والرغبة في النهوض والتغيير وعدم القبول بان تتحول احلام الأسرى وتضحياتهم الى فتات خبز على موائد من احترقوا في شرح الاستسلام والهزيمة.
نعم عندما تتغول علينا قسوة الاحتلال والسجان من كل جانب يصبح صراعنا من أجل الحفاظ على انسانيتنا من أقدس المهمات التي نكافح من أجلها ولأن التعليم هو الموحد الحقيقي للمستقبل والأهم وهو المعول الوحيد والقادر على كشف وهدم الغاية من السجون التي وجدت من اجل الهدم دون البناء وهنا تجلى دور واسهام الجامعة في البناء واستبدال رقم الأسير الذي وجد لمسح الذات والغائها الى رقم جامعي لدرجة البكالوريوس وماجستير للحفاظ على القيمة الانسانية واعادة التوازن النفسي للأسير المناضل واعادة صياغته وتحرره من الموضوع الى الذات فهذه الفكرة الابداعية حملت كل معاني الانسانية السامية والقيم الثقافية الخلاقة في هذا المكان الطاريء وافرازاته السلبية وشيدت بتعاليمه صرح اكاديمي نلجأ اليه ونستهدي بتعليمه في مواجهة الجهل والانقسام وبلسمة جروحنا.
ان من كان وما زال ومايسترو وفيلسوف هذا الواقع والتغيير هو المناضل والقائد الوطني د. مروان البرغوثي حيث ان هذا التغيير ينبغي ان يكون الانسان الأسير فاعلاً وصانعاً وعياً جديداً عبر رسم معالم ثقافة جديدة نقدية تقوم على مبدأ جمعي خلاق لم يرسمه سوى من يستطيع ان يحقق علاقة ابداعية امبريقية بين الفكر والواقع، واقعاً نقدياً علمياً بمقدرته مواجهة الصهيونية والاستعمار الكوليونيالي وسياساتها التي هي أعلى شكل من اشكال العنصرية ومن اجل امتلاك ادوات مواجهة يجب اولا بناء الذات المتفقة والقادرة على تفكيك مركبات ومقومات وعناصر الاسطورة التوراتية والخطاب الصهيوني من اندلاع اسطورة العبور الى قانون القومية العنصري ذو النكهة النازية عبر المقاربات التفكيكية، وسأحاول القاء الضوء على جزء بسيط من تجربتي الخاصة رغم أنني لا أحبذ الحديث والكتابة عنها، فثقافتنا تحرم علينا البوح وفتح القلب على مصراعيه ونكتفي ببوح القليل من النجاحات والانتصارات ولا نتجرأ على الحديث عن هزائمنا ومأسينا مهما صغرت ولكن اليوم أكتب عن أكبر هزائمي وهي رحيل بناتي دنيا ورانيا والحكم علي بالسجن المؤبد خلال فترة زمنية لا تتجاوز نصف عام وذلك في بداية دخولي السجن عام 2002.
سبب ذلك بالاضافة الى حزني وحزن زوجتي ورفيقة دربي شرين، هجرتُ الحياة من حزني لأكثر من عشرة أعوام وهذه الهزائم على وجه الخصوص رحيل دنيا ورانيا وعدم وجودي بجانب زوجتي حين أكتبها تفقد الكلمات معانيها وتتناثر الحروف وتذبح اخر خيوط الشمس المتبعثرة على حنين عمري المطلوب وانا لست من سلالة سيزيف ولن أقوى على صعود تلك التلة من جديد وأحس الأيام أكثر قسوة وظلمة على ظلمتها وعلى عتمة الزنازين لأن الشعور بفقدان من تحب وفقدان الأمل والحرية والمستقبل الى الأبد هو شعور موجع ورهيب ومخيف فهناك قصص حقيقية ومؤلمة ومريرة لم يسمع بها أحد في هذه الزنازين المعتمة بالرغم انها أعمق وأصدق من قصص وروايات حاصلة على أرض الجوائز.
لم أتمكن من انهاء دراستي الاعدادية وخرجت من المدرسة أول أعدادي بسبب الاعتقالات المتكررة في الانتفاضة الاولى وبعد مرور الوقت أدركت ان الشهادة وانهاء الدراسة هي مهمة مستحيلة وحلم صعب المنال.
ان الظروف الموضوعية تعتبر محدداً لكل الظروف والعامل الذاتي يعتبر هو الحاسم للتغلب على أية مشكلة او ضائقة وبعد فترة طويلة من الزمن وقضاء سنوات طويلة من الاستنكاف والاعتكاف والعزلة في هذا السجن تحدث معي مطولاً الأخ مروان البرغوثي حول العودة للدراسة والانخراط في برنامج لتدريس التوجيهي أشرف عليه هو شخصياُ ورفضت بشكل شديد التفكير بالدراسة لكنه وان كان زعيماً وقائداً كبيراً فانه قبل كل شيء انسان عنيد ومثابر ولا يعرف اليأس والاستسلام اليه طريق ويؤمن بثورية النفس الطويل وبعد محاولات عدة والحاح منقطع النظير واحترامي الشديد لشخصه وافقت. وبعد الدراسة حصلت على التوجيهي ومرة اخرى عمل على اقناعي بالالتحاق بالجامعة ولم اكن واثق من قدرتي على ذلك ولكني وافقت والتحقت بتخصص علوم سياسية في جامعة القدس وانهيت كافة المساقات 46 مساق ومحاضرات مضاعفة مما هو في الجامعة وادركت ان الرغبة في الحياة تدفعك نحو البحث والمعرفة لمواجهة التكلس الفكري فقيمة الانسان تحدد لما يصبو اليه وليس بما وصل اليه وبدأت الدراسة رفم الخوف الذي انتابني واليوم في سجن هداريم لا تجد االا الكتاب والتعليم والقراءة وذكرياتنا الجميلة مع الأهل لنتنفس من ضيقنا وتعبنا واشواقنا فهي القيم الرائعة التي نستنهض بها الهمم والعزائم ونسموا بها على الجراح والروعة بالحياة حين يدفع بنا انسان لآن تستيقض فينا رغبة الحياة من جديد ورغبة الدراسة والتعليم لبلوغ الوعي النقدي الدافع والاستمرارية في النضال والمقاومة.
الآن وبعد الحصول على درجة الماجستير وخوض التجربة الاكاديمية أدركت أهمية التعليم ودوره في التغيير على المستوى الشخصي والجماعي وأثر ذلك على السلوك الانساني وشرف الحصول على هذه الهدية التي هي اليوم خيط أرياداني الذي نمسك به كي نشق طريقنا في المتاهة ولا غنى عنه لبلوغ غاية عظيمة في أكثر الوضعيات والاماكن صعوبة وتعقيد وجعلتنا نملك ما نحسد عليه في أكثر الأماكن مدعاة للإحباط والكآبة والخروج من ظلمتها الى نور العقل والحكمة.
ان ما من شك فيه ان الدراسة الاكاديمية قد اسهمت اسهاماً بالغاً ولعبت دوراً اساسياً وخلقت واقع جديد يجعل الأسرى قادرين على مواكبة التطور الحضاري الانساني ويتوافق مع تحقيق الكرامة الانسانية بالرغم من ان هذه البقعة الجغرافية التي لا تزيد عن بضع مترات مربعة والمعزولة عن العالم الخارجي وعن كل ادوات الاتصال والتطور التكنولوجي الا ان الدراسة الاكاديمية اسهمت في احداث تحول جذري وعميق لانماط التفاعل والتفكير لدى الاسرى وهذا يحدث في ظل هجوم وعدوان غير مسبوق من المستوى السياسي والأمني الاسرائيلي لحرمان الاسرى من ابسط حقوقهم الطبيعية ومصادرة مكتسباتهم عبر ممارسة التطهير الثقافي المحرم دولياً وقانونياً وممارسات اشبه ما تكون بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى ولكن الارادة والاصرار والتحدي هو ما جعل الاسرى يفترشون الأرض رغم مطر الشتاء ويلتزمون بجميع المحاضرات والأروع والأعظم النظر الى الطلبة وهم يؤدون واجباتهم الاكاديمية تحت المطر وبروح معنوية عالية وان كل الكلمات تعجز عن وصف هذا المشهد الجماعي وعظمته، ولغتي عاجزة عن رسم هذا المشهد الانساني المشرف.
ان هذه مناسبة لأعبر عن مدى عظمة شكري وامتناني لجامعة القدس والى رفيق الدرب الأخ والصديق والقائد د. مروان البرغوثي الذي مكنني من اتمام شهادة الثانوية العامة ومن ثم الحصول على درجتي البكالوريوس والماجستير وسأظل حافظ لهذه الفرصة الذهبية التي حولتني من انسان يلفه الحزن والكآبة والعزلة الى انسان مفعم بالايمان وبحتمية النصر وقدسية وعدالة قضيتنا والى انسان اكثر تنويراً وايماناً بالقيم الانسانية والديمقراطية.