الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الاستثمار في الإنسان

نشر بتاريخ: 22/02/2019 ( آخر تحديث: 22/02/2019 الساعة: 20:04 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

شاركت مؤخراً في حلقة إذاعية تلفزيونية مزدوجة من برناج "آخر الكلام" بثت عبر صوت فلسطين وقناة فلسطين مباشر، والبرنامج كما هو معروف من إعداد وتقديم الإعلامي أحمد زكارنة، حيث لم تكن هذه المشاركة هي الأولى من نوعها لي مع "زكارنة"، فقد سبقتها مشاركات أخرى، أكدت لي أن هناك من بين الإعلاميين الفلسطينيين من يجتهد ويبحث ويجمع المعلومات والمعطيات، كي يقدم عملاً إعلامياً ناضجاً ومفيداً، يسهم في النهوض بالوعي العام، بالمعلومة والتحليل والاستشراف، في مرحلة تنهال علينا البرامج الإذاعية والتلفزية بغثها وسمينها، مع أن "السمين"، يكاد يكون محدوداً في ظل الإعلام الاستهلاكي الذي يجتاح العالم.
وبالرغم من ارتباطي بمواعيد مسبقة في اليوم المحدد للحلقة، إلا أن العنوان جذبني وشجعني على المشاركة والتفاعل لمجموعة من الأسباب أذكر هنا أهمها: أولاً لأن الاختيار موفق ما دام يتعلق بالإنسان والاستثمار فيه، لأن الإنسان هو أهم مكوّنات هذا الكون.
وثانياً – هناك قصور على مستوى عربي في فهم الاستثمار في الإنسان، وحينما يتم طرح ذلك، تُجزأ الأمور، ولا ينظر لعملية الاستثمار بشكل شمولي، في إطار التداخل بين الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والنفسي والأخلاقي والإبداعي والعلمي والتقني، إذ من العبث أن يقتصر التركيز على جانب دون الجوانب الأخرى ضمن منظومة متلاقحة ومتكاملة.
ثالثاً – كنت نشرت قبل بضعة أسابيع مقالاً عن المواطنة، بينت فيه أن المواطنة في عالمنا العربي باتت مفككة، وأن المواطن يعيش اغتراباً، وأن ما جرى في عدد من البلدان العربية في السنوات الأخيرة، برهن بأن الاستثمار في الإنسان والارتقاء بمعارفه وحسه، وتقديم الإمكانيات المناسبة له ليعيش حياة كريمة، كان ضعيفاً إلى أبعد الحدود وإلا ما الذي يفسر توق المواطنين العرب للهجرة، والتطلع إلى أوروبا على أنها المخرج والملاذ؟ وما الذي جعل هذا الإنسان ينقض على منشآت بلده تدميراً وتقويضاً سوى أن مواطنته عانت خللاً بنيوياً، نتيجة عدم الاستثمار الصحيح فيه؟ والسؤال الذي أثارته الحلقة، واجتهد المشاركون في الإجابة عنه: من الذي يستثمر في الإنسان وهل يمكن أن يكون هناك مستثمر غير الدولة ؟
وتعددت الإجابات والاستنتاجات، بيد أن ما يمكن أن استخلصه بهذا الخصوص أقدمه في رؤية مكثفة، ذكرت بعض جوانبها في الحلقة المذكورة، ولم يسعفني الوقت لاستجلائها من خلال إبراز أبعاد وتجليات أخرى لها.
اعتقد أن الاستثمار في الإنسان يجب أن يتم منذ شهوره الأولى في الأسرة ومروراً في الروضة والمدرسة بكل مراحلها وليس انتهاءً بالجامعة، لأن الاستثمار من المفروض أن يكون مفتوحاً حتى نهاية حياة المواطن، والمقصود بالاستثمار ذلك الجهد المبذول في تربيته على مستوى الأسرة والمراحل التعليمية والمؤسسة، وما تقدمه الدولة للمواطن من خدمات ورعاية صحية وضمان دخل يوفر له الاستقرار والتوازن النفسي، فالاستثمار الحقيقي من الدولة والمجتمع في الإنسان تغدو مخرجاته مواطنة منتمية، حيث يشعر الإنسان بقيمته في مجتمعه وبالتالي ينظر لكل شيء في هذا الوطن من باب أنه شريك فيه. ولعل الاستثمار الثقافي هو أحد الجوانب المهمة في هذه العملية، لأنه يشكل الإنسان وعياً وسموا ويرتقي به كقيمة عليا تحترم نفسها والآخرين. وهنا يأتي دور المدارس والجامعات والنوادي واتحادات الكتاب والمنتديات الثقافية والمكتبات العامة.
وحينما نقول استثمار فإننا نقصد شراكة كاملة بين الدولة بمؤسساتها والأحزاب والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، ففي الانتفاضة الأولى في العام 1987 لم تكن هناك دولة، لكن الأحزاب والمؤسسات والأطر اضطلعت بدور تاريخي في الاستثمار في الإنسان كقيمة ابهرت العالم في إبداعاتها وصمودها ورقيها، بمعنى أنه في غياب وجود مؤسسات الدولة كان هناك من ينوب عنها باحتراف، غير أنه في مرحلة وجود الدولة، فإن التكامل بين مكوناتها والمكونات المجتمعية بشكل عام هو مطلوب وضروري.
إن الاغتراب الذي يعانيه المواطن العربي اليوم على أرضه مرده شعوره بالتهميش والحرمان من الخدمات الصحية والتعليمية، وعدم الحصول على فرصة عمل مناسبة، وغياب كل الضمانات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعله يثق بدولته ووطنه ومستقبله، حيث لا مستقبل للمواطن العربي ولا مستقبل للوطن، إذا حرم المواطن من أن ينعم على أرضه ويشارك بفعالية في التنمية المستدامة مستفيداً ومفيداً في الوقت ذاته، وبمعزل عن ذلك يتحول الحديث عن المواطنة والصمود وعطاء الإنسان إلى مجرد خيالات لا تغني ولا تسمن من جوع. فالتنمية تعني الإنسان والقيمة العليا في الحياة هي قيمة الإنسان وغير ذلك هو التهميش والاغتراب وغياب المواطنة.