الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

غزة.. قصة حب مسكونة بالنار و النّوار

نشر بتاريخ: 13/03/2019 ( آخر تحديث: 13/03/2019 الساعة: 15:58 )
غزة.. قصة حب مسكونة بالنار و النّوار
الكاتبة: ميساء عدنان سلامة
غزة لا تشبه غيرها منفردة بكل ما فيها، كأن شوارعها كتاب يوثق ما فيك من سحر ارتباطك فيها رغم احتقان قلبك من وضعها القائم، وقلقك الدائم اتجاه مستقبلك فيها، يتعمد أهلها رعاية أعشاب الأمل التي تنبت من تحت مفاصل الركام ، وثنايا الهزائم في أزقتها.
يفتقد المتأملون فيها لأشباه حديقة بوتشار أو اللوكسمبورغ ،و لا يتنفسون هواء هذه الأماكن إلا من خلال أبطال الرويات كـ كوزيت حين كان يتردد عليها في رواية البؤساء ،ولن تجد فيها المتاحف الضخمة التي خضعت لإبداع العقل الانساني لأداء وظيفتها في إدهاشنا مثل المتروبوليتان أو اللوفر ، وستلف شوارعها جميعها ولن تجد كقصر باكنغهام ، ولن تعبر على سلالم لولبية كما في تشامبورد التي لا تلتقي صعودا أو نزولا ولكنها تلتقي مع مبدأ اقليدس الهندسي ، وستغار كثيرا حين تنظر لمكتباتها وتقارنها بتلك المكتبات التي تخلق أجواء دافئة ،تجعل القارئ يشتهي ملامسة الكتب كمكتبة سياتل و شتوتغارت.
وبعيدا عن اختلاف رؤيانا لهذه البقعة التي تسمى غزة وما نقارنه ، أو تفتقره و ان كانت جميلة ، أو العكس . وتجنبا لخوض جدل ابستمولوجي حولها ، تبقى غزة أيقونة عشق مشتملة الهوية و الثقافة فيها السهول البسيطة والحدائق العادية وسوسن فقوعة وطائر الشمس ، والبيوت المتواضعة والأطفال المبتهجون رغم كل شيء ، وشاطئ البحر ونوارسه البيضاء ، والكتب التي ترتبت على الرصيف أمام الجامعات لتجد فيها باولو كويلو برائعته الخيميائي و الرحلة الساخرة في جزر وهمية لميدوسا في رواية 7 وستبحر مع غيوم ميسو لتخاطب الروح والمشاعر الخفية ،وستجد العقاد والمتنبي وجمع حافل من العلماء وكتيبات الدين والمطويات ، وسيسرقك صوت الباعة المتجولين وهم يتفننون في اصطياد لقمة العيش بالحلال ، وستأنس بصوت تسلل من احدى البيوت وهو يحمل لحن ملحمة جويام تيل أوالحان عبد المطلب.
وفيها أيضا الأبطال الحقيقيون خلاف الروايات أولئك العقلاء الذين لاذوا بجنونهم في حب الوطن ، وفيها أيضا أصحاب القلم واللوحة والصورة والأغنية التي لا يقل فعل لحنها عن فعل عملية فدائية في إثبات أحقيتنا بهذا الوطن.
ولأهلها لغة حلوة سائغة كطعم العسل ، و ملامح وجه أصيلة كزيتونة مباركة، ولنسوتها جمال شقائق النعمان والحنون، والخير في شيوخها كسنابل القمح في الحقول ، حين تسير بين مخيماتها تتحرر من شقاء يومك، كما يتحرر رائد فضاء من الجاذبية، وستسعد وانت تشم رائحة الخبز والزعتر والخبيزة حين عودتك لبيتك بسقفه الأسبستي كما يسعد كهل بعودته الى طفولته ، وستفخر حين ترى طلاب العلم بجامعتها ومدارسها.
فيها من الحضارة ما فيها، ومن التاريخ الكنعاني ما يجملها، ومن التآخي الديني ما يثبت سماحتها، فتأمل في غزتها القديمة كيف يعانق المسجد الكنيسة في مشهد واحد- كاتب الولاية و كنيسة بريفيريوس-.
لا نبالغ بالقول أن غزة أجمل بقاع الأرض وان شعرنا بذلك؛ ولا أكثرها سلاما حيث فيها الحصار والحرب والهدنة ، وقد لا تجد فيها أحيانا علاجك، وقد تصارع لأجل لقمتك ولقمة لأولادك، وفيها شوك بائس خلفه المشروع الوطني الفلسطيني بعد أن ذبلت المحاولات في انهاء الانقسام في شتاتها، ولكن يكفي أن نكون فيها لتبقى فينا قائمة وأن نفخر بها كفخر الياسمين ببياضه، وأن نحفظ حقنا الابدي في البيادر وأيام الحصاد والدراس، والخوابي، ومواسم اللوز واغاني العتابا والدحية والدبكة والميجانا.
غزة جميلة بنبضها ووجعها ، وهَمِّ رجالها وهيامها ، كن فيها لذاتك وابحث فيها عن طعامك ولا تكن فنان الجوع كما رسمه كافكا وكن واثقا أننا نبقى وستبقى قصتها فينا قصة حب مسكونة بالنار و النّوار.