الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

كيف نحمي هويتنا الوطنية من التفكيك؟

نشر بتاريخ: 17/03/2019 ( آخر تحديث: 17/03/2019 الساعة: 14:20 )

الكاتب: د.محمود الفطافطة

يستقطب موضوع الهوية بشكل عام أهمية بالغة في حقول البحوث الفلسفية والسوسيولوجية والسياسية، خاصة في ظل تطورات العولمة، ثم في ظل الحروب الأهلية والطائفية التي عصفت بالعالم، خاصة العربي منه، والتي باتت تُشكل التحدي الأكبر أمام "هويات" الجماعات الوطنية والقومية، وبالتالي وحدة الشعوب والدول الوطنية والقومية، في الوقت نفسه الذي يُشكل فيه موضوع الهوية أهمية خاصة في الحالة الوطنية الفلسطينية، وهي الحالة التي لم " تُنجز" مشروع هويتها الوطنية كما فعلت معظم شعوب المعمورة، ليس فقط بسبب التأخر عن مشاريع الوطنيات العربية المتمثلة في الدولة العربية بشكلها الراهن، وليس بحكم عدم التكافؤ في صراع موازين القوى مع المشروع الصهيوني فحسب، بل بسبب افتقاد مشروع الهوية الوطنية الفلسطينية الإقليم الجغرافي الخاص، وحيزه الاجتماعي بعد نكبة عام 1948.
ويأتي موضوع "الهوية الوطنية" في الحالة الفلسطينية في صلب الهم الوطني الفلسطيني، ويتصدر واجهة الجدل والحوار والبحث والدراسات، خاصة بعد وصول الكل الفلسطيني إلى القناعة بانسداد الأفق أمام المشروع الوطني، المتمثل في الدولة المستقلة والعودة وتقرير المصير، وهو الأمر الذي بات يهدد هذا المشروع في أساساته.
ومن واقع الجدل الدائر حول "الهوية الوطنية الفلسطينية"، وارتباطها بالهوية القومية العربية يبرز مأزق الخطاب المتعلق بهذه الهوية، من حيث منطلقات التناول وحدود التحليل، أم من حيث طرح التساؤلات واقتراح الإجابات، وهو الأمر الذي ستعالجه هذه الورقة.
تقوم الورقة على فرضية مؤداها: أن قضية الهوية الوطنية الفلسطينية هي قضية حركة التحرر الوطني الفلسطينية وليست قضية التحليل النظري المجرد، وهي بالضرورة قضية المشروع الوطني الأول الذي عبر عن تلك الهوية الوطنية، وإن تطور هذه الهوية ارتبط بالكفاح الوطني على الأرض، وليس بتحليلات النحب "المثقفة"، وبالتالي؛ فإن صيرورة الهوية الوطنية الفلسطينية المستقبلية محكومة بقدرة حركة التحرر الوطني الفلسطينية على تجاوز مأزقها: مأزق الحركة والمشروع والهوية، ذلك أن الصيرورة الطبيعية للهوية الوطنية الفلسطينية هي صيرورة كفاحية بالضرورة، والارتكاس في المشروع الكفاحي هو أكبر خطر يُهدد مستقبل هذه الهوية بالذات.
تبرز أهمية هذا الموضوع أولاً، من مركزية مكون "الهوية" في ماضي وحاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني، ومن ارتباط الهوية الوثيق بحالة الصراع والكفاح الوطني ثانياً، بالإضافة إلى الأهمية العلمية لأبحاث ودراسات الهوية.
في البداية، نود التأكيد على الهوية القومية العربية تشهد تراجعاً لمصلحة الهويات الوطنية القطرية، إذ أنه في ظل تشكل الدول القطرية أصبحت الهوية الوطنية الجامعة طُموحاً وهدفاً غير ملموس وصعب المنال، وربما مُؤجل، خاصة في ظل انشغال الشعوب العربية بقضاياها الحياتية كغلاء الأسعار والبطالة، والتخلف والفقر وسوء توزيع الثروة، والتبعية والتهميش، وتردي أوضاع التعليم والصحة، عدا عن انتشار الفساد وعدم ديمقراطية الحكم، وغيرها من القضايا.
هذه الهوية الوطنية لا نراها في حالة تناقض مع الهوية القومية إلا في حالات متعددة؛ كسعيها إلى انكفاء الدولة القطرية على ذاتها لتخليد التجزئة، أو بقاء تبعية البنية الاقتصادية والثقافية والفكرية فيها للمركز الإمبريالي العالمي، أو تصالحها مع أحد اهم أعداء الأمة العربية وهي " إسرائيل" التي أُقيمت على الأرض الفلسطينية بعد تدمير قراها ومدنها وتهجير وتشتت سكانها.
وفي ظل وقوع فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني، فإن الشعب الفلسطيني أحوج ما يكون للحفاظ على هويته الوطنية لأنها مستهدفة من عدو استيطاني إحلالي بنى وجوده على مرتكزات أساسية أهمها: أن " فلسطين وطن بلا شعب لشعب بلا وطن"، " الشعب الفلسطيني وطنه الأردن وبالتالي هويته أردنية"، الشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية ولديه عشرون دولة ليقيم فيها"، وغيرها من الادعاءات التي ليس أخرها " هوية الشعب الفلسطيني مزيفة". لذلك يصح القول إنه في السياق الفلسطيني يصبح التأكيد على الهوية الوطنية ضرورة نضالية لتأكيد الوجود وبالتالي الحقوق.
فالهوية الوطنية الفلسطيني تتميز بكونها تستند إلى وجود تاريخ من الصمود والنضال مضمخ بدم الشهداء وعرق المناضلين في مواجهة عدو استيطاني إحلالي بدعم من كل دول العالم الاستعماري. بالمقابل، الشعب الفلسطيني هو أحوج الشعوب العربية إلى هويته القومية لأنه عجز، وسيظل عاجزاً، بإمكانياته الذاتية، عن تحقيق أهدافه في التحرر والعودة وبناء دولته الديمقراطية فوق أرضه.
إلى ذلك، فقد شكل حدث "النكبة" العلامة الفارقة في الوعي الجمعي الفلسطيني في لحظة "صدمة" تاريخية لا زالت مفاعيلها صاحبة التأثير الأكبر في مشهد الاشتباك الفلسطيني الصهيوني، حيث تشظت الأرض وتوزع الشعب على منافي الأرض، وبقيت الحكاية الجامعة لتؤسس فيما بعد تعبيرات الهوية الوطنية الكفاحية وشبه الكيانية، في الشتات ابتداءً، ثم في الوطن الفلسطيني المحتل لاحقاً.
وإذا كانت الهوية الوطنية لمعظم الشعوب قد تبلورت على شكل دول مثل ما هو عليه الحال في الدول القومية الحديثة، فان نظيرتها الفلسطينية تبلورت على شكل مقاومة تناضل لإثبات الوجود في مواجهة إرادة الاجتثاث والنفي، ما يجعل منها هوية نضالية في جوهرها.
كذلك، فإن التعبير الأقوى عن الهوية الوطنية الفلسطينية بعد النكبة تمثل في قيام منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964. ورغم أنه لم يكن هنالك خلاف حاد داخل الساحة الفلسطينية حول ثنائية القطرية والقومية، وذلك للإجماع الفلسطيني حول الخطر الأساسي المتمثل بالمخطط الصهيوني إلا أنه كان تباين بين هذين التيارين. كان التيار الأول (القطري) الذي يرى أنه بسبب ارتباط الحركة الصهيونية بالغرب ودعمه لها فإن بقاء فلسطين جزءاً من الدولة العربية الواحدة سيجعل من المعقول ضغط العالم من أجل تهويد فلسطين، باعتبارها جزءاً ضئيلا من الوطن العربي. أما إذا حافظنا على اعتبارها قطراً عربياً مستقلاً كبقية الأقطار الأخرى، فستكون وطن أهلها لأنها صغيرة لا تتسع لمزيدٍ من الهجرة اليهودية إليها، بل أن مزيداً من الهجرة سيقضي على شعبها العربي الفلسطيني، ولم يعد مستساغاً عالمياً القضاء على شعب من الشعوب. وهذا التيار كانت أفكاره ومفاهيمه القطرية والكيانية ضبابية، ثم تعرض للتشتت واليأس والغياب، لكنه عاد وانتعش في أواخر خمسينيات القرن.
أما التيار الثاني (القومي) فانطلق من فكرة أن الحركة الصهيونية حركة عالمية بفعل انتشار اليهود في كل بقاع العالم، وبفعل تعاطف دول الحلفاء المنتصرين معها ودعمها السياسي والعملي لها. ومثل هذه الحركة لا يمكن الانتصار عليها، ولا حتى مواجهتها إلا من خلال الوحدة العربية، أو على الأقل وحدة سوريا الطبيعة، أو ما كان يُطلق عليها بلاد الشام.
وبعد بعثرة فلسطين في كل اتجاه بسبب النكبة، وانضمام العديد من الفلسطينيين إلى القوى السياسية العربية، رفع القوميون شعار" الوحدة طريق التحرير". وظل هذا الشعار سائدا حتى اخترقته حركة التحرير الوطني الفلسطيني" فتح" بانطلاقتها في بداية العام 1965.
ولا يمكن لنا الحديث عن الهوية الوطنية الفلسطينية دون التطرق إلى تأثيرات اتفاق أوسلو، ومن ثم الانقسام، على الشعب الفلسطينية من كافة المجالات، لا سيما تشظي هويته. فالتخلي عن أهداف الشعب المعلنة، خاصة أثناء النضال، هو أكبر خطر على الهوية الوطنية، لذلك شاهدنا الشعب الفلسطيني يعيش أخطر تراجع في وحدته ووحدة هويته بعد اتفاق أوسلو، وتراجع زخم نضاله الوطني. لقد همش هذا الاتفاق أكثر من مليون فلسطيني صمدوا في الأرض في المحتلة عام 1948، وهناك خطر على هويتهم الوطنية، كما همش أكثر من خمسة ملايين فلسطيني يعيشون في الشتات. والأخطر أنه خلق سلطة مشوهة وعاجزة، وشاب واقعها بعض الفساد والترهل.
إن قيام السلطة بإبرام اتفاق أوسلو، خلق تداخلاً في المراحل وإرباكا لقيادة الشعب الفلسطيني وفصائله وأفراده. وهذا جعل من التناقضات مركبة، وربما مشوهة، وأوجد خلخلة في الهوية الوطنية الفلسطينية، لأنه أوجد نشاطاً أيديولوجيا سلطويا في ظل واقع ما زال يتطلب سيطرة وهيمنة القيم والثقافة الوطنية التحررية، وساهم في كثيرٍ من الأحيان في ارتقاء التناقضات الثانوية إلى تناقضات رئيسية، وشوش على بوصلة النضال الوطني الفلسطيني وتناقضاته والقيم والمعايير التي يحتكم اليها.
وكان الشرخ فيما بين الضفة وغزة أخطر انقسام شهده الشعب الفلسطيني؛ لأنه انقسام جغرافي معزز بانقسام برنامجي وأيديولوجي. ومن الواضح أن أي تغيير في مضامين الثوابت الوطنية، وأهمها حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، سيكون له أكبر الأثر على الهوية الوطنية الفلسطينية.
إن أهم سلاح امتلكه الفلسطيني أثناء نضاله التحرري هو ثقافته الوطنية، وهي عندما تضعف أو تتراجع، وبغض النظر عن الأسباب، فإن ذلك سيشكل أخطر عامل سلبي يواجه هوية الشعب الفلسطيني ومصيره. فلكي ندحض مقولة " الكبار يموتون والصغار ينسون"، يصبح السؤال عن برنامج حفظ الهوية الوطنية الفلسطيني مشروعاً وضرورياً وعاجلاً.
وفي ظل التناقضات والصراعات التي تموج بها القضية الفلسطينية، فإن الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية والحيلولة دون تشققها أكثر، بسبب أوسلو والانقسام، يكمن في التأكيد على ثوابتٍ عديدة، أهمها:
1. التأكيد على أن الصراع والتناقض مع الاحتلال الإسرائيلي سيظل قائماً ورئيساً حتى تتحقق كافة أهداف الشعب الفلسطيني، ولا داعٍ لتخفيف حدة هذا التناقض حتى ونحن نفاوض، فالتفاوض شكل نضالي. وبناءً على ذلك يجب رفض التطبيع مع الاحتلال، خاصة على المستوى الشعبي، ويجب وضع برامج وسياسات وآليات تؤكد على استمرار النضال ضد الاحتلال بكل الطرق والأساليب المتاحة والملائمة للواقع المعطى وإرهاصاته.
2. يجب أن يعيش الشعب الفلسطيني، جماهيراً وسلطة، مضمونا وشكلا يتلاءمان ووجود هذا التناقض واستمراره. فالنضال وحالة التناقض لا يتعايشان مع حالة البذخ التي بنيت عليها السلطة، ولا مع "الجيوش" البيروقراطية والأمنية التي أنشأنها. فإنجازات اتفاق أوسلو، إذا كان له إنجازات، لا تحتمل الانتقال إلى حالة دولة بمطاهرها الكاذبة. وواقع الشعب الفلسطيني الاقتصادي يفرض التقشف لا الترف والبذخ. ويتطلب أيضا بناء اقتصاد مقاومة وصمود لا اقتصاد استهلاكي. وفي هذا الاقتصاد يجب أن تكون الأرض هي محور الصراع، وبناء القدرة في الإنسان جوهره، وتنمية القطاعات الإنتاجية أحد أهم أركانه، ومقاطعة بضائع الاحتلال شرط تنميتها، وتنمية الثقافة الوطنية ركن أساسي في نضاله لحفاظ على الهوية الوطنية وروح المقاومة وتوحيد قوى الشعب في مواجهة الاحتلال والإحلال.
3. يجب ألا نسمح، مهما كانت الضغوط والمبررات، بأن ننسلخ عن أهم عامل من عوامل قوتنا، وهو امتدادنا القومي الاستراتيجي. فحتى في أحلك الظروف، كان يجب إقامة علاقة وثيقة مع جماهير وأحزاب وقوى الأمة العربية وأنظمتها السياسية بتوازنٍ خلاق يدعم قدراتنا ولا يغير ثوابتنا. وكان يجب أن تتشكل تحالفاتنا الدولية على أساس استمرار النضال، وبما يكفل تعزيز قدرتنا.
وعلى أساس كل ما تقدم، نؤكد أن استمرار الصراع دون تمكن الشعب الفلسطيني من تحقيق حقوقه الوطنية، لا يزال يجعل من المقاومة شرطاً لازماً لوطنية الهوية، وذلك على نحو يختلف عن المعنى المعروف للهوية الوطنية/ القومية لدى الشعوب والأمم الأخرى، والذي لا يرتبط بالضرورة بمفهوم المقاومة. كما أن الترابط العضوي ما بين العروبة وفلسطين من شأنه أن يحقق المشروع التحرري الفلسطيني والحفاظ على هوية الشعب الفلسطيني العربي.
على الفلسطينيين الذهاب للانتماء الوطني إلى نهايته، وتوسيع الانتماء الفلسطيني عروبيا. وفي هذه الحالة فقط تنشأ ذاكرة قومية غير فولكلورية تتعامل مع تاريخ فلسطين كتاريخ الحاضرة / المدينة المدمرة التي كانت تنمو كجزءٍ من مشروع عربي متواصل قطع الاحتلال طريق تطوره عام 1948.