الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

حراك "بدنا نعيش" ومأزق الشعب الفلسطيني

نشر بتاريخ: 20/03/2019 ( آخر تحديث: 20/03/2019 الساعة: 13:54 )

الكاتب: العميد أحمد عيسى

المدير السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
ماذا يحدث في غزة؟
استجاب الألاف من مواطني قطاع غزة يوم الخميس الموافق 14/3/2019، لدعوة كانت قد وجهتها مجموعة من الشباب للمشاركة في حراك شعبي سلمي سُمي "بدنا نعيش" للدلالة على مقاصده، وذلك للإحتجاج بطريقة سلمية على فرض حركة حماس مزيداً من الضرائب على السلع الاستهلاكية لتوفير الأموال الكافية لتمويل حكمها وربما لتمويل نشاطات الحركة. الأمر الي أدى الى ارتفاع الأسعار، وفاقم بالتالي من ضعف القدرة الشرائية المتهالكة أصلا للغالبية العظمى من المواطنين، وزاد من عجزهم عن تأمين احتياجاتهم الأساسية من السلع والخدمات، لا سيما وأن المجتمع الفلسطيني في القطاع يعاني من ارتفاع نسب البطالة التي تتراوح ما بين 60-80% وفقاً للنتائج الاحصائية للعام 2018.
من جهتها حركة حماس التي تتحمل مسؤولية ادارة حياة المواطنين في قطاع غزة منذ صيف العام 2007، وظفت كل أدواتها الأمنية والعسكرية والدعوية وعلى رأسها كتائب القسام، للقضاء على هذا الحراك باستخدام العنف المفرط كما أظهرته وسائل الاعلام المختلفة، كما وظفت أدواتها الاعلامية المتعددة لإلصاق تهم الخيانة والتآمر بالحراك والقائمين عليه، الأمر الذي استحضر من الذاكرة مشاهد العنف التي رافقت انقلاب حماس على السلطة الوطنية في العام 2007.
ومن جهتها كذلك باقي المكونات السياسية الفلسطينية فقد أكدت منفردة ومجتمعة على حق الشعب في التعبير عن رأيه بحرية، وحقه بالاحتجاج سلمياً على ما آلت اليه ظروفه الحياتية والانسانية، علاوة على تأكيد رفضها إستخدام حماس كحكومة أمر واقع للعنف ضد الجماهير المحتجة، ودعت الحركة الى الغاء المسببات التي أدت الى هذا الحراك. 
وكان صوت حركة فتح هو الأبرز في هذا الشأن حيث علاوة على التأكيد على حق الشعب في التعبير والاحتجاج بالطرق السلمية، ورفض استخدام العنف من قبل أجهزة حركة حماس المختلفة للقضاء على الاحتجاجات، لم يخفِ الناطقون باسم حركة فتح سعيهم لتوظيف ما يحدث لتقويض سيطرة حركة حماس على قطاع غزة واجبارها على التخلي عن كل جوانب الحكم لتمكين السلطة الوطنية بشكل كامل من ممارسة سلطاتها في غزة.
وكعادته الإحتلال الاسرائيلي الذي يحاصر غزة منذ أكثر من عقد فظل يراقب ما يحدث محاولاً توظيفه لتعميق الانقسام واستمراره، وقد تجلى ذلك بوضوح في الخطاب الاعلامي الاسرائيلي، وفي اعلان الجيش رسمياً قبول رواية حركة حماس بأن الصواريخ التي أطلقت في ذات اليوم من قطاع غزة نحو تل أبيب كانت نتيجة خطأ فني الأمر الذي لا يخلو من دلالة.

ما هو تفسير ما يحدث في غزة؟
تظهر مراجعة العلاقات ما بين مكونات المجتمع الفلسطيني في غزة (حماس، الشعب، باقي المكونات السياسية والمدنية)، أن حراك "بدنا نعيش" لم يكن الأول من نوعه الذي تخرج فيه الجماهير للشارع للتعبير عن احتجاجها على ما آلت اليه ظروفهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتظهر المراجعة كذلك أن هذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها حركة حماس القوة والعنف لقمع كل من يخرج عن طوعها ويعبر عن اختلافه معها، ولم تكن كذلك هذه المرة الأولى التي تحاول فيها السلطة الوطنية الفلسطينية توظيف ما يحدث لتقويض سيطرة حركة حماس على القطاع.
كما وتكشف هذه المراجعة عن حقيقة مفادها أن اي من أطراف العلاقة المشار اليهم لم ينجح في تحقيق أهدافه، فظروف الناس الانسانية والمعيشية لم تتحسن، بل ازداد الشعب فقراً وبؤساً وياساً وخوفا مما يحمله المستقبل لهم، كما لم تنجح حركة حماس في ترسيخ شرعية حكمها للشعب، ولم يصدر عن اي من قياداتها ما يدلل على أخذه العبر مما حدث ويحدث في غزة على مدى العقد الماضي، ولم تنجح بالمقابل حركة فتح وباقي مكونات المجتمع الفلسطيني السياسية والمدنية في دفع حركة حماس للمصالحة وانهاء الانقسام الأمر الذي يقيناً سيحسن من ظروف الناس المعيشية.
وينبغي الإشارة هنا الى أن حركة حماس في الداخل والخارج تعيش ظروفاً مالية هي الأصعب التي تواجه الحركة منذ انطلاقتها في العام 1988، الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه من عدم الانتظام في دفع رواتب الموظفين في كثير من مؤسسات الحركة كفضائية الأقصى، علاوة على اضطرار الحركة لإغلاق فضائية القدس وصحيفة الرسالة التي تعتبر الصحيفة الرسمية للحركة.
ويكشف التفسير أعلاه، عن استماتة حركة حماس في الدفاع عن سيطرتها على غزة ولا سيما السيطرة الاقتصادية، فضلاً عن أنه يكشف عن استعداد الحركة لاستخدام مزيد من العنف وربما القتل ضد كل من يختلف مع الحركة من الشعب، لتأكيد وإدامة هذه السيطرة، ويكشف بالمقابل عدم استكانة وتسليم الشعب بمواصلة العيش في الظروف المعيشية التي يحياها واقعاً، ويكشف في نفس الوقت عن عجز المكونات السياسية الفلسطينية عن تطوير حلول خلاقة قادرة على تحقيق المصالحة الأمر الذي يتمناه الجميع، وتعالج في نفس الوقت اسباب الفقر والبؤس واليأس والخوف من المستقبل، الآخذة في التنامي في الواقع الفلسطيني لا سيما في قطاع غزة.
ولما كان اصغر الفلسطينيين سناً بمن فيهم اولئك المنتمون لحركة حماس والمدافعون عنها، يدرك بإحساسه قبل علمه ووعيه استحالة النجاح في إدامة السيطرة على الشعب بالعنف فقط، ويرى بأُم عينه أن الاعتداءات الإسرائيلية الثلاثة التي جرت في الأعوام 2008، 2012، 2014، لم ترفع الحصار عن غزة وأهلها بل اسفرت في نهاية المطاف عن سماح الاحتلال بادخال الأموال القطرية لحركة حماس عبر معابره ومن خلال أجهزته الأمنية، الأمر الذي يجعل من المشروع، بل من الضرورة الوطنية توفير اجابات لجملة التساؤلات التالية: ما الذي تنتظره حركة حماس من تحولات محلية واقليمية ودولية لتحسين الواقع المعيشي الذي لم يعد بامكان الشعب احتماله في قطاع غزة؟ وهل حقاً هناك تحولات استراتيجية قادمة فيما يخص الشأن الفلسطيني غير تلك التي تجعل من الإنفصال السياسي والجغراقي بين غزة والضفة الغربية، وتجعل من غزة مركز الحل السياسي للموضوع الفلسطيني؟ وهل الهدنة بين حركة حماس والاحتلال الاسرائيلي التي كثر الحديث عنها في الأونة الأخيرة تصب في هذا الاتجاه؟ أو بالمقابل هل توصلت جهات التقدير الاستراتيجي في حركة حماس الى استنتاج مفاده أن صدام اسرائيل مع محور المقاومة في المنطقة قادم لا محالة؟ وقررت حركة حماس بالتالي التخلي عن براجماتيتها والتموضع في محور المقاومة والاستعداد للانخراط في المواجهة حين اندلاعها مع اي من أطراف هذا المحور؟ وهل يخدم ذلك المصالح العليا للشعب الفلسطيني لا سيما في ظل تنكر اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية للتسوية السياسية؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو مستقبل علاقة حركة حماس مع كل من تركيا وقطر؟ وهل سنشهد في قادم الأيام تغيرات هيكلية على صعيد حركة حماس تفصل ما بين السياسي والعسكري؟ ثم كيف تقرأ حركة فتح وباقي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية السيناريوهات المتضمنة في الأسئلة أعلاه؟ وهل في جعبتهم سيناريوهات بديلة تجنب الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات التهديدات التي قد تكون متضمنة في السيناريوهات التي تعمل وفقها حركة حماس؟ والأهم من ذلك ما هي المعايير التي يمكن توظيفها لاستخلاص التهديدات والفرص.
الإجابة على الأسئلة المثارة أعلاه وما قد يتفرع عنها من أسئلة من قبل النخب الفلسطينية يوفر خروجا آمناً للفلسطينيين من المأزق الذي كشفه حراك بدنا نعيش، ويؤسس في نفس الوقت لاستراتيجية وطنية تمكن الفلسطينيين من جعل مساحة فرصهم في حالة التحول الجارية في البيئة الاستراتيجية أوسع من مساحة التهديدات.