الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

واقع التعليم القانوني في فلسطين وسبل تطويره

نشر بتاريخ: 26/03/2019 ( آخر تحديث: 26/03/2019 الساعة: 21:01 )

الكاتب: د.بهاء الدين خويرة

أستاذ القانون العام ومدير مركز الأبحاث والدراسات القانونية- جامعة فلسطين الأهلية/بيت لحم

لا يختلف اثنان على أهمية العلم والتعليم في المجتمع، وما لرسالة التعليم من أهداف نبيلة وسامية لا مجال لحصرها أو تعدادها بأسطر قليلة، لكن هذه الأهمية تلعب دوراً دقيقاً ومحورياً في قطاع التعليم القانوني؛ وذلك بحسبان أن مبدأ سيادة القانون هو أساس الحكم في الدولة، وأن الثقافة القانونية تعتبر أمراً جوهرياً ومطلباً حيوياً في حياة كل أمة، وبغيرها لن تستقر لأفرادها حياة.
والنظام التعليمي باعتباره أحد القنوات الرئيسة التي تصوغ الوعي الاجتماعي وتدربه على حماية مرتكزات الحياة الإنسانية الحقيقية؛ يفرز موقعاً متميزاً للتعليم القانوني ليمارس دوراً غير تقليدياً في التنوير للحقوق والواجبات والتثبيت لها ضمن آفاق الفكر ومكنون السلوك الاجتماعي، لذا يرتبط التعليم القانوني بفهم اجتماعي متكامل في ظل دولة القانون الحديثة، وبالذات بمفاهيم العدالة والمساواة والخصوصية والهُوية والمواطنة والوطنية، وغيرها من المفاهيم التي تعطيه مكانة محورية في الخطاب التربوي المعاصر.
ومن منطلق كون التعليم المنفذ الرئيس للتنمية البشرية؛ فإن تطوير قطاع التعليم القانوني في ضوء المتغيرات العالمية والإقليمية وما يترتب عليها من نتائج؛ أصبح يدور حول إكساب طالب المعرفة القدرة على الإبداع والابتكار، بحيث نكون أمام شريحة مؤثرة قادرة على ممارسة العمل الحقوقي في شتى المجالات، وهو الأمر الذي يستوجب ضرورة إحداث نقلة نوعية في البرامج التعليمية والمقررات الدراسية في هذا القطاع.
وفي واقع الأمر؛ فإن غايتنا في إلقاء الضوء على واقع التعليم القانوني في فلسطين وسبل تطويره تعزى إلى الرغبة في ملامسة الأحداث الجارية بشأن المسابقات القضائية والاختبارات القانونية التي تمت في مرافق العدالة، سواء بالنسبة للاختبار الكتابي الخاص بالمسابقة القضائية للتعيين في منصب قاضي محكمة الصلح، والتي كانت نتيجتها النهائية بعنوان: "لم ينجح أحد" (وهي ليست السابقة الوحيدة)، وكذلك الاختبارات الخاصة بالتدريب على المحاماة، سواء السابقة على بدء مرحلة التدريب أو اللاحقة لانتهاء هذه المرحلة، والتي أثارت نتائجها تساؤلات متباينة حول فعالية التعليم القانوني وقدرته على مواجهة التحديات والمستجدات وبخاصة العملية منها.
فمن خلال قراءة نتائج هذه الاختبارات وتحليلها؛ يمكن استخلاص قناعة مبدئية مفادها أن التعليم القانوني في فلسطين بحاجة إلى مجموعة من التغييرات الجذرية، والأسباب لذلك كثيرة، قد يبدو أكثرها منطقية أنه يوجد ثبات معلوماتي ومهاري بالنسبة لخريجي كليات الحقوق، وهذا الثبات غير قادر في بعض الحالات على مواجهة متغيرات الساحة المحلية والعالمية والمنافسة في سوق العمل القانوني، كما أن الدراسات القانونية في العديد من جامعاتنا لا تزال تعاني الكثير من العيوب والمساوئ التي أدت إلى تخريج الآلاف من دارسي القانون الذين نالوا حظاً قل أو كثر من التكنيك القانوني، وليس لديهم إلا قدر ضئيل من الفكر القانوني.
ويبدو أن هذا الواقع يعكس الحاجة الماسة إلى ضرورة إصلاح نظام التعليم القانوني الفلسطيني وتطويره، بإدخال تغييرات أساسية لبرامج الدراسات القانونية على نحو يجعل الطالب يتلقی مقررات أكاديمية أساسية لتكوينه العلمي القانوني، مع التركيز على تلقي تدريبات عملية في المقررات النظرية القانونية، خاصة تلك التي تعكس الواقع الاجتماعي بما فيه من مؤثرات سياسية واقتصادية واجتماعية.
وأتفق مع من يرى بأن الأمر يستلزم إضافة مناهج تتعلق بدراسة فلسفة القانون وتاريخ فلسفة القانون وعلم الاجتماع القانوني وغير ذلك من فروع المعرفة القانونية التي تحقق التطور المطلوب في اتجاه إعداد رجال القانون الذين يجمعون بين ملكة السيطرة على الصفة القانونية وامتلاك ناصية الفكر والوعي القانوني الخلاّق، وذلك لأن الكثير من الدراسات القانونية ترتكز لغاية الآن على تقاليد بدائية ومناهج قديمة، خاصة من حيث طرح العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مع أن التطورات الجارية ولدّت أفكاراً وأحرزت علاقات معقدة في فروع المعرفة المختلفة، ومع ذلك فإن الإسهام القانوني في مواكبة ذلك كله ما زال قاصراً إن لم يكن معدوماً.
فالحقيقة التي نراها بحكم اطلاعنا وممارستنا للعمل الأكاديمي؛ تعكس بوضوح تركيز برامج كليات الحقوق على الدراسات القانونية الأساسية التي تقوم على تلقين الطلاب أكبر قدر من المعلومات القانونية في فترة زمنية قصيرة تكون عادة على مدار فصلين دراسيين منفصلين، بما يجعل طرق تقويم الطلبة يعتمد على قياس مستوى الحفظ والقدرة على استرجاع المعلومات، وليس على أساس القدرة في الفهم وحل المشكلات، بحيث لا يتم الاهتمام غالباً بكيفية تطبيق الطالب للمعلومات القانونية التي يقوم بدراساتها على القضايا الواقعية إلا في حالات نادرة وفي جزئيات قليلة من المقررات الدراسية.
ومن أجل توفير البيئة الأكاديمية الملائمة لتطبيق أساليب متطورة في مجال التعليم القانوني؛ فإنه ينبغي أولاً وقبل أي شيء توفير الأسس والتوجهات التي تضمن بناء الطالب علمياً وأخلاقياً، وذلك من خلال وضع الضوابط التي تمنع من التوجه نحو النجاح بأي ثمن أكثر من الاهتمام بالجانب العلمي والمعرفي المتحصل من العملية التعليمية، وكذلك إعطاء الطالب مساحة واسعة من الحرية في التعبير عن رأيه أو المشاركة فيما يتعلق بمتطلبات دراسته الأكاديمية، من أجل تعويده على ممارسة السلوكات الأخلاقية والاجتماعية البناءة.
ولعل هذه البيئة بحاجة إلى تفعيل نظام تعليمي عملي (التعلم عن طريق العمل Learning By doing) من خلال تدريب الطلاب على مهارات مهنة المحاماة (Lawyering skills) والمهارات القانونية العملية بوجه عام، وكذلك تحفيز الطلبة على اتباع منهجيات التفكير النقدي للنصوص القانونية من خلال تهيئة الظروف الملائمة والمشجعة على الإبداع والتفكير العلمي.
ولا يغيب عن البال حينما يتم الحديث عن التعليم والتدريب القانوني، أن يتم مناقشة الدور المنوط بنقابة المحاميين النظاميين الفلسطينيين المنشأة بموجب القانون رقم (3) لسنة 1999 وتعديلاته، والمتمتعة بالشخصية الاعتبارية وبذمة مالية مستقلة وصلاحيات إدارية لا مركزية وفقاً لما يحدده القانون.
فالإجراءات المتخذة من النقابة لا سيما في الآونة الأخيرة بشأن اختبارات قبول المحامين المتدربين وكذلك اختبارات مزاولة المهنة، وإن كان تهدف إلى تنظيم ممارسة مهنة المحاماة والارتقاء بها، لكنها خطوات ينبغي أن تحاط باهتمام متزايد من الناحيتين العلمية والعملية، وبحاجة إلى تنسيق وتعاون حثيث مع كليات الحقوق في الجامعات الفلسطينية من أجل رسم سياسة عامة تنبثق عنها إستراتيجية واضحة المعالم تستند على أسس علمية مدروسة، ومغلفة بإجراءات قانونية سليمة لا تشوبها أية شائبة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن دور النقابة لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يختزل بمجرد عقد الامتحانات أو تنفيذ الدورات أو غير ذلك من النشاطات التقليدية، فهنالك مساحة واسعة لاستنهاض الرؤى والأفكار المتعددة التي يمكن التحرك على هديها من أجل أن تؤدي النقابة الدور الذي أنشئت من أجله ضمن نطاق مبدأ المشروعية، وفي إطار خدمة مهنة المحاماة وتطويرها والمحافظة على شرفها، ورعاية مصالح المنتمين إليها، ومراقبة كفاءة أدائهم.
ولا ينبغي أن ننسى كذلك المسؤولية الملقاة على أجهزة الدولة الرسمية المعنية ممثلةً على وجه الخصوص بوزارة التربية والتعليم العالي، ولا نقصد هنا المسؤوليات القانونية المجردة المنصوص عليها في التشريعات الناظمة للتعليم العالي في فلسطين، والتي تخلو بطبيعة الحال من مفردات التعامل مع قطاع التعليم القانوني وخصوصيته، وإنما يمكن للوزارة بإداراتها ودوائرها وأقسامها المختلفة أن تساهم في زيادة فعالية العلاقات الجارية بين المجتمع التعليمي والإطار النقابي وكذلك المؤسسات الأهلية المعنية، وذلك ضمن إطار البحث عن الحلول الهادفة لتطوير قطاع التعليم القانوني بأسرع وقت ممكن، دون أن ننتظر انتهاء المدد الطويلة التي تستغرقها خطط التنمية الشاملة، ومن ضمنها خطط تطوير التعليم العالي واستراتيجياته.
في نهاية القول، يبدو أنه حان الوقت لإعادة النظر في المواصفات الواجب توافرها في خريج كلية الحقوق، بحيث يكون قادراً بحد أدنى على ممارسة مهارات قانونية عملية تندرج ضمن مفهوم العلوم القانونية المساعدة، كإجراء الأبحاث وكتابة التقارير والمذكرات، وصياغة الوثائق والقوانين والقرارات، واستيعاب التطبيقات القضائية وفهمها، وكذلك المعرفة العملية بمناهج البحث وأدوات التحليل والصياغة القانونية، وهي كلها مهارات تحتاج إلى وضع برامج تدريبية متخصصة للطلبة، ضمن إجراءات منظمة وجهد جماعي وتعاون متبادل مع الجهات المعنية كافة، فالمبادرات الفردية لا يمكن أن تنتج حلولاً فعّالة أو تخرج بنتائج مثمرة في هذا المجال الدقيق والحساس.
كما أن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحاً إزاء التفكير بإنشاء مراكز متخصصة تُعنى بتنمية قدرات أعضاء الهيئات الأكاديمية وتطويرها في مجال تدريس المقررات الحقوقية، وهي خطوة ستسهم حتماً بتزويد المحاضر الأكاديمي بالمعارف المتجددة عبر استخدام التقنيات التعليمية الحديثة، خاصة في ظل العصر الذي نعيشه الآن المليء بالتحديات الصعبة والمتغيرة، وتحتاج عملية التعامل معها إلى خبرات متراكمة، وفكر متجدد، وأساليب متنوعة، ومهارات متميزة، لنصبح أمام أستاذ أكاديمي مبدع ذي بصيرة؛ قادر على تكييف البيئة المحيطة به ضمن آفاق العلم والمعرفة، وليس مجرد التكيّف معها أو التأقلم في أجواها؛ كما هو الواقع الغالب في الوقت الحاضر.