الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

إجابات فكريّة لأسئلة الخروج إلى الساحات.. الجزائر والسودان .. مثلاً !

نشر بتاريخ: 14/04/2019 ( آخر تحديث: 14/04/2019 الساعة: 13:38 )

الكاتب: المتوكل طه

لا شك أن المواطن العربي، في الجزائر والسودان، الآن، على الأقل، يتوق لتحقيق أهداف ثورته وخروجه إلى الساحات العامة، وعبور المرحلة الانتقالية بالسرعة الممكنة، وفي أقل معاناة وخسائر، ولسان حاله يقول : متى تتحوّل هذه الأزمات إلى ذكريات ؟
الأزمات لا تختفي بالرغبات، بل بالوعي والفعل والمواجهة. الأزمة التي يمرّ بها الوطن العربي في أتون عملية التحوّل هي أزمة مركبة وليست ظرفية أو بنيوية فحسب، بل تكاد تتحول إلى أزمة وجود ( نكون أو لا نكون ) فإما أن يُمَهّد هذا التحوّل إلى نهوضٍ بالمشروع العربي ليأخذ العربُ مكانهم، الذي يستحقون بين الأمم، قياساً بعددهم وموقعهم وثرواتهم وحضارتهم، أو أنْ يظلّوا ساقطين في مهاوي التبعيّة والاستلاب والمُغايرة.
وهل يدرك المأزومون أهمية العمل، حتى لا تتحوّل الأزمات إلى كوارث ؟ يجب أنْ يَعي الجميع أنّ ما حدث ويحدث هو مخاض هائل، يصحبه دمٌ وصراخٌ وأوجاعٌ وأوساخٌ ومعانيات، وربما يطول المخاض وتتعسّر الولادة، لأسباب ذاتية وموضوعية، ونرجو ألاّ يختنق الجَنين ، وأنْ يتيح له أهلُه إمكانية أنْ يحيا، ليكون على شاكلتهم، وألاّ يكون وليداً دون مناعة، أو أنّ ملامحه تنبيء بِجِينات غير جِينات أبيه وأُمّه.
وأعجب من بعض المتحاورين الذين يعتقدون بأن هذه الهبّات / الثوارات هي مؤامرة لتمرير الشرق الأوسط الجديد أو الفوضى الخَلاّقة !
أقرّ بحقّهم فيما يعتقدونه، دون أنْ يذهبوا إلى تخوين الطرف الآخر والحطّ من قدرة، أو أنْ يَبْخَسوا تضحياته وأشياءه.
وأعجب أيضاً من الذين يُسْقِطون أفكارهم ورغباتهم وما يشتهون على هذا الربيع المتعثّر الصعب ، وجعلوه خريفاً يبشّر باليباب . إنهم بانتقائيتهم التاريخية يسحبون حالة على حالة مختلفة تماماً، كأنها الغرب في القرون الوسطى مع الكنيسة الظلامية آنذاك. هذه الفكرة في جوهرها تريد أن تقول إنّ بقاء الأنظمة الاستبداديّة الحالية أفضل مِن تغييرها .
فهؤلاء الذين خلطوا الأوراق بشكل مقصود، يريدون أنْ يوَسِّعوا مهمة الثورة إلى أبعاد وأمداء تجعل مهمتها مستحيلة، والمستحيل لا يقدم عليه العاقل من الناس.
وما دام الأمر كذلك، فإنهم يريدون أنْ نجتثّ المنظومة الفكرية والثقافية التي شكّلت هويّتنا العربية، على مدار أربعة عشر قرناً، ليحققوا بذلك عملية القَطْع مع تاريخنا وجذورنا. والقَطْع هنا، أيضاً، فكرة مُسْتَجْلَبة من الغرب، وخارجة عن سياقها في مهمتها مع تاريخنا، لأنها تنتمي إلى المرحلة نفسها التي استقطعوها من التاريخ الغربي، وهي مرحلة القرون الوسطى.
ومن الواضح أن إغراقهم الفلسفي والاصطلاحي لم يخدمهم كثيراً، ولم يشفع لأفكارهم في تسويق فكرة "الماضي المستمر"، لأنّ أهم الحقائق المؤكدة في العلوم الاجتماعية هي أنّ المتغيِّر هو الثابت الوحيد، ولا يوجد ماضٍ مستمرٌّ فكرياً أو فلسفياً .
وما دمنا في سياق العلوم الاجتماعية، فإنّ هؤلاء ، وعند حديثهم عن المجتمع والوطن والدولة ، يُخْطِئون بصورة فادحة .
فالمجتمع مجموعة من البشر تعيش على أرض لها تاريخ مشترك "ذاكرة جماعية واحدة"، ولها أهداف مشتركة، ولا ينقص المجتمع العربي أيّ من هذه الأركان. أما قضية التناقضات بين الفئات الاجتماعية، فهي من مظاهر التجمّع الإنساني، فهل المجتمعات الغربية في قرونها الوسطى والحديثة تخلو من التناقضات؟ إذاً، ما هو التنوّع؟
ولا يبدو أن الكثير من هؤلاء على دراية كافية بالمفاهيم الديمقراطية، لأنهم يقولون إنّ المواطنة أساس الانتماء، وهذه مُغالطة كبرى، فعلاقة الإنسان بالوطن علاقة انتماء، فيما المواطنة في الدولة المدنية علاقة تعاقدية تحدّد الحقوق والواجبات للفرد والدولة.
أمّا علاقة الإنسان بالدّين، فهي روحية فردية وجماعية، تنسحب عليها مفاهيم الأُمّة، والأُمّة فرد باللفظ ، ومجموعٌ بالجوهر. ولا يجوز أن يصوغ هؤلاء على هواهم مكوّنات الأمم وثقافاتها، لأنها نتاج تفاعل الفرد/ المجتمع بعوامل هائلة ومتعددة تاريخية غير منقطعة، أو مُسْتَقْطعة على طريقة البعض، ولا تكون المواطنة بديلاً للدّين أو متناقضة معه.
وإذا شئت فتعريف المجتمع المدني هو مجموعة المؤسسات والمنظمات التي تنشأ طوعياً بمعزل عن الدولة، والطوعية هنا أساس وشرط ، فيما عند هؤلاء هي قهرية وغير طوعية.
ومن التعسّف أن يقولوا بنفي العرب وبإخفاقهم، على مدار تاريخهم، في بناء مجتمع مدني، فالاصطلاح، أساساً، حديث يعود إلى الموجة الثانية من التغيير الديمقراطي في الغرب، فيما هو أصيل وعريق في الفكر العربي الإسلامي، من دولة المدينة المنوّرة والنقاط الإحدى والعشرين التي بدأ بها الرسول محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقامت على التعاقد وليس الإِكراه، متقدمة بأربعة عشر قرناً استهزأ بها العديد من هؤلاء المفكرين ، ومروراً بقرطبة والأندلس في أوجها، وكذلك بمرحلة هارون والمأمون ببغداد، وليس انتهاءً بأوسع مفهوم للعدالة الاجتماعية في عهد عمر بن الخطاب وحفيده عمر بن عبد العزيز، إذ إن العدالة الاجتماعية هي الجوهر العملي للدولة المدنية والمجتمع المدني.
والغريب أنّ الكثير من هؤلاء المثقفين يمنحون الثورات ملامح، ويقَوِّلونها مقولات، ويضعون لها دساتير من عندهم، ثم يقومون بمحاكمتها على الأساس الذي ألصقوها بها. والثورات بريئة مِن فَهْمهم ومواصفاته التي أسقطوها على الثورات! فأين ظهر أنّ الثورات تمنع أو تشترط ألاّ يكون الرئيس القادم من أقليّةٍ أو طائفةٍ ما ؟ الصراع هنا، الذي تفجرّت على خلفيته الثورات العربية، لا يمكن اجتزاؤه بمجرد صراع سياسي على الحُكم والسُلطة، فلم يَسْعَ البوعزيزي للجلوس مكان بن علي في تونس، إنّما نهضت الثورات على خلفيّة ظلمٍ وغيابٍ للعدالة الاجتماعية، وتفاعلٍ اقتصاديٍّ وفكريٍّ وثقافيّ يسعى للحرية والكرامة والمساواة. إن تغيير الحاكم لم يكن أولاً، ولم يكن هدفاً إلاّ بمقدار ما يحقق غيابه حضور الحقوق واسترجاع الفضاء الحرّ والعدالة والديمقراطية وتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولم يكن الدّين سبباً في مكوّنات القَهْر والظُّلم وبيع الثروات للغرب والانكسار أمام قوة الاستكبار، بل قامت به أنظمة استبدادية فاجرة تبنّت العلمانية، وأكبر نموذج على ذلك تونس والبعث السوري وآخرون. ولا أراني مجافياً للحقيقة عندما أقول إن العلمانية، في واقع التجربة، في تونس وسوريا والعديد من الأنظمة العربية والغربية كانت فكرة طاردة للآخر. وعندما رفَعتْ الثورات العربية شعار الدولة المدنية أدركت بوعْيها وليس بتنظير "المفكرين المتغربنين" أن الدولة المدنية هي دولة لا تخدم الاختلاف فقط، وإنما تؤصّل له، وتقبل بممارسته، وهي بالتالي تصهر التنوّع الاجتماعي في هوية وطنية واحدة تحتكم إلى علاقة تعاقدية تقوم على قانون المواطنة.
وفي ترحُّم بعض المثقفين وبكائهم على ضحايا الثورات الحالية والسابقة، إنما يريدون أن يقنعونا بأنه لا جدوى إطلاقاً من هذه الثورات! وهذا لا يخدم سوى النظام الاستبدادي العربي، لأن ذلك تعميق لليأس والقنوط . وكيف لا يدرك هؤلاء، الفرق بين الثورات التي قام بها العسكريون العرب، وهي انقلابات، وما يحدث الآن.
إنّ "ثورة" البَعْث والحركات التصحيحية لم تكن، أصلاً، إلاّ قهراً للثورة الحقيقية، التي كانت تغلي في عمق الشارع العربي، إثر إقامة دولة الاحتلال وهزيمة سنة 1967، وكان ما قامت به الأنظمة، آنذاك، اعتراضاً للثورات التي حبلت وتخمّرت في بطن الأرض العربية.
أمّا ما يجري الآن، فهو تحوّل بلغ معياره، وفاض بملايين الهاتفين في الشوارع، وليس مجرد مجموعة من العساكر الانقلابيين الذين يريدون "التغيير" بقرارٍ خارجيٍّ أو داخليّ.
إنّ هؤلاء الملايين لا يبحثون ولا يسعون للجلوس على مقاعد الحُكم. ويبدو أنّ هؤلاء المثقفين لم يعرفوا شيئاً عن عِلم الثورات، لأنهم، في بُرْجٍ بعيد، لم تصله الصرخات، ولم ينخرطوا في حمأة مواجهة أو ثورة مباشرة، أو بالأحرى يريدون أنْ يروا ما يُريدون !
وبكلّ المقاييس التي تناولت فكر الثورات ونظريتها، فإنّ ما يجري في العالم العربي هو أكثر اتساعاً من الصراع على السُّلطة، بل يؤسس لتحوّلٍ هائلٍ وعميقٍ وواسعٍ في الواقع المحلي والإقليمي والدولي، ويضع الشعوب العربية في وجه غاصبيها المحليين والإقليميين والدوليين. ولا تخدم أفكار التيئييس التي يروّجها هؤلاء، ولا غرابة في أنهم لم يضعوا البديل، بقدر ما أخذوا روح الثورات وأدبياتها، وأعادوا صياغتها في سياق مداخلتهم "ونصائحهم النظرية" للثورات.
وفي دفاع هؤلاء عن حقوق الأقليّات وهويتها سقطوا في خطأ منهجي في مسألة تتعلّق بالديمقراطية، لأن جوهر الديمقراطية يقوم على سُلطة الشعب، بغضّ النظر عن فكره وعقيدته وجنسه ولونه، وهؤلاء بذلك ضيّعوا الأكثرية والأقليّة عندما شطبوا حقّ الأكثرية، ووضعوه بصيغة متناقضة مشتبكة مع الأقلية، فيما هو في الحقيقة يرجع إلى العلاقة التعاقُدية بين الأفراد والدولة، فالمواطنة قانون يحتوي الجميع.
إنّ القهرية في نموذج الديمقراطية الغربية مسألة فكرية شائكة، ما زالت ميداناً للنقاش والحوار والنقد بين المفكّرين؛ ليبراليين ديمقراطيين وديمقراطيين غير ليبراليين.
وإنَّ سَحْب هذه المسألة على الثورات العربية، التي لم تؤسّس نموذجها الديمقراطي بَعْد، هو استباق في غير محله.
أمّا اكتشاف بعض المثقفين المتأخّر لأحقيّة الفرد في التديّن واللا تديّن، فنذكّره بقول القرآن الكريم: "مَنْ شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وقوله أيضاً: "لا إكراه في الدين". وإذا كانت الحرية قيمة عُليا، فإنّ الاعتقاد هو أيضاً قيمة عليا. وتسقط الحرية كقيمة عندما تُسْقِط حقّ الآخر في الاعتقاد، وإنْ كان الآخر فرداً أو جماعة.
وبيت العبادة (جامع أو كنيسة أو معبد) ليس مكاناً فقط، وإنما تعبير عن قيمة فكرية وثقافية متجذّرة وعميقة، وجزء من مكوّنات هوية المجتمع. والمسألة ليست فقط في حقّ الأفراد في التديّن أو الذهاب إلى بيت العبادة، وإنما ثمة قيمة أخرى تكمن في ذلك، وهي احترام قبول الآخر، فرداً وجماعة، بمعنى أنّ إقامة كنيسة في الجزائر، مثلاً، تعبير عن احترام المجتمع الجزائري للمختلِف وللآخر، كما أنّ مَنْع بناء مئذنة في بلد غربي دليل على عدم قبول الآخر والمختلِف.
إنّ الّلا تديّن سلوك، وليس قيمة، ويقع في هامش الحريات.
إنّ المكفول في الأصل هو فكر المجموع، والمحمي هو فكر الفرد أو الأقليّة، وهذه قاعدة في أيّ نظام ديمقراطي. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتحدّث عن ضمان وحماية حقوق الأقليات.
ولا شك لدينا أنّ المسيحية ليست كنزاً بشرياً فحسب، بل كنز فكري وثقافي وحضاري، ولا يقلّ الإسلام عن ذلك بشيء، أي لا يجوز اعتبار دين كنزاً وآخر ظلاماً وجهلاً ودمويّة ! كما لا يحق لبعض المثقفين أنْ يحجروا على النصّ، وأن يحولوا دون تحديثه بدعوى النتوءات التي ظهرت والاختلافات التي عصفت بالمجتمع العربي الإسلامي في القرون الماضية، علماً أنّ "النصّ"، الذي لا يعتوره خطأ ، لم يتيسّر له مَن يقوم بهذه المهمّة منذ حين.
إنّ صبغ التاريخ العربي الإسلامي بلونٍ واحدٍ هو الدم والعنف والقهر إنما يشير إلى عمى لا ضرورة له، أو انتقائية مشبوهة، فالتاريخ العربي الذي أعطى الحضارة الإنسانية حمولتها المضيئة وكنوزها لم يشهد أنْ تَخلَّقت في حضنه ظواهر فاشية أو نازيّة، ولم يقم المسلمون والعرب بإبادة الملايين وقصف القنابل الذرية ومحاكم التفتيش والمكارثيّة، بل إنّ التاريخ العربي الإسلامي يشبه تاريخ الحضارات الإيجابية التي أصابت وأخطأت، ولا يجوز اختزال نتاجها بصفة رديئة مسيئة واحدة، تطبعها بالإجرام والتخلّف والسواد.
إن الصراع ظاهرة تاريخية، ويعتبره الكثيرون مُحرّكاً للتاريخ، فيما الدمويّة نزعة فردية أو نتاج أزمات اجتماعية اقتصادية، لا تطبع وجه التاريخ لأيّ شعبٍ كان.
ولعلّ أبشع توصيف ساقه هؤلاء ادّعاؤهم أنّ الإسلام يجعل المرأة تستحسن عبوديتها! ونتمنّى عليهم في هذا الأمر أن يعودوا إلى النصّ القرآني والحديث الصحيح ليتبيّنوا مدى إنصاف الإسلام للمرأة ، بدءاً بحقّها في الاختيار والعمل والذمّة المالية المستقلة، وأنها شقيقة الرجل، وأنْ نأخذ نصف ديننا عنها.
لقد وقع مثقفون عديدون في التنميط وفي تكرار المقولات الجاهزة الظالمة، دون أن يفحصوا أو يمحّصوا ، لقد تقصّوا واستسهلوا أن يكرّروا مقولات غربية استشراقية عن المرأة في الإسلام.
إنّ هؤلاء قد بحثوا عن تحالف مستحيل بين متناقضين، هما: الثورة كما يرونها، والنظام، في مواجهة الدّين والمجتمع، وبالنتيجة تسقط الثورة، ويسقط الدّين، ويُعيد النظام إنتاج نفسه من جديد، ويبقى!
إنْ لم يكن هذا تعبيراً عن أزمة عميقة، فهو استكمال لفكْر استئصالي عنيف. فالعنف ليس فقط بالدبّابة والراجمات والدّوْس على جثث الشهداء والتمثيل في الأطفال، وإنّما بهذا النوع من الفكر الاستعلائي الاستئصالي.
ومِن التناقض في ما يقوله أصحابنا هؤلاء أنّه أحياناً يأخذون بالأكثرية عند حديثهم عن الديمقراطية، وأحياناً ينسفون مبدأ الأكثرية.