الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

عندما تنتصر إرادة الحياة على غريزة الموت

نشر بتاريخ: 17/04/2019 ( آخر تحديث: 17/04/2019 الساعة: 18:46 )

الكاتب: د. وليد القططي

حب البقاء غريزة مزروعة في عمق النفس البشرية، وظيفتها المحافظة على حياة الإنسان واستمرار نوعه، تقف وراء السلوك الذي يضمن دوام الإنسان على قيد الحياة وحفظ الذات من الهلاك. وهذا ينسحب على الجماعة البشرية، التي تسعى لإبقاء وجودها ككيان اجتماعي انطلاقاً من غريزة حب البقاء المزروعة في عقلها ووجدانها الجمعي، والنخبة الحاكمة باعتبارها جماعة بشرية لا تشذ عن هذه القاعدة؛ بل تزيد عليها شهوة حب السلطة، فتصبح لديها غريزة حب البقاء في السلطة، لتكون فتصبح هذه الغريزة دافعاً لغريزة أخرى أكثر شراسة وأشد جبروتاً، وهي غريزة الموت والتدمير، فتدفع الإنسان إلى أن يُدّمر ويحطم ويخرّب كل من يهدد بقاءه ويتحدى وجوده. وهذا واضح في النخب العربية الحاكمة وأنظمتها السياسية الاستبدادية أكثر من أخواتها في البلدان غير العربية؛ ذلك بأنها أكثر الأنظمة الاستبدادية حرصاً على الحياة واستمرار الوجود، وجشعاً لحب البقاء مواصلة الخلود، وأشد الأنظمة الديكتاتورية تشبثاً بالسلطة بكل مكتسباتها المادية وامتيازاتها المعنوية.
غريزة حب البقاء في السلطة عبّر عنها الأدباء والفنانون في أعمالهم الإبداعية المتعددة، ومنها الدراما السينمائية، ومن نماذجها فيلم (البداية)، حيث اجتمع كل من المؤلف لينين الرملي والمُخرج صلاح أبو سيف على فكرة التسلّط في النفس البشرية، بواسطة دراما واقعية كان من المفترض أن تكون خيالية، وهذه الواقعية نابعة من تجسيده لثلاثة نماذج بشرية موجودة في واقع الجماعات البشرية، فالنموذج الأول الشخصية المتعطشة للسلطة والتسلّط على الآخرين واحتكار السلطة والثروة من دون الناس، والنموذج الثاني الشخصية ذات القابلية للعبودية الطوعية والرضى بالاستعباد من الحاكم ليتخذ منهم أعواناً وخدماً له، ويسخرهم جلادين وسجانين لأبناء شعبهم، والنموذج الثالث المُشرق هو الشخصية المتمردة على الظلم والتسلّط، والثائرة على السلطة المستبدة، والرافضة للعبودية والاستعباد. والمستعدة لدفع ضريبة الحرية وثمن الكرامة. والفيلم وصفة مخرجة في نهايته "كان هدفي أن أقدم لكم فيلماً ليس له علاقة بالواقع، ولكن الطبع غلب التطبع، فإذا بالفيلم كما شاهدتموه يصبح واحداً من أفلامي الواقعية".
الواقعية التي تحدّث عنها المُخرج المصري صلاح أبو سيف، تحدّث عنها الفيلسوف الايطالي ميكافيلي في كتابه (الأمير) في كيفية الوصول إلى السلطة وممارستها والبقاء فيها، ولكن بطريقة نفعية انتهازية أقرب إلى الوحشية، مُتخذّاً من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة منهجاً للمحافظة على السلطة، بعيداً عن كل القيم الأخلاقية والقانونية والدينية. ولكن وحشية منهج ميكافيلي المغطاة بقناع الواقعية قد تكون أكثر رحمة من وحشية الأنظمة الحاكمة في بلاد العُرب ومنازل العُربان؛ لأن حبَ البقاء في السلطة عن الأنظمة الاستبدادية العربية المعاصرة لها لونٌ خاص مُخضّبٌ بالدم القاني المسفوح من أفواج البؤساء في أزقة مدن الصفيح الفقيرة، ولها طعمٌ مُختلف مٌغمّسٌ بالعرق الملتصق بظهورِ الأجساد المجلودة والأرواح المنهوكة في زنازين القهر الآسنة، ولها رائحةٌ مميزة بعفنِ التاريخ المُثقل بتراثٍ كثيف من الصراع الدموي والنزاع الوحشي على السلطة منذ استشهاد الخليفة الراشد الثالث ثم الرابع وحتى آخر الدماء المُراقة في عواصم الربيع العربي.
حب البقاء وشهوة السلطة ومعهما غريزة الموت الموّجهه لكل من يهدد وجود الأنظمة الحاكمة، فاقت كل الاعتبارات الأخرى لدى النُخب العربية الحاكمة وأنظمتها السياسية الاستبدادية الفاسدة، وظهرت جلياً أثناء أثناء ثورات الربيع العربي، من خلال التشبث بالسلطة والإمساك بالحكم بأي ثمن، وإن كان الثمنُ إزهاقَ أرواح المواطنين والعباد، وتدمير بُنيان الأوطان والبلاد، لتبقى النُخبة الحاكمة في السلطة ولو على أنقاض الأرواح الفانية والبلاد المُخرّبة. وحتى لو تم الإطاحة بالنظام الحاكم أو بعضه أو رأسه فإنَّ حبَ البقاءِ وشهوة السلطة يدفع ما تبقى منها متغلغلاً في الدولة العميقة إلى العودة للحكم من بوابة الثورة المُضادة، لتعيدَ إنتاج النظام القديم بعد تبديل رأسه، أو لتعيدَ تدوير النظام السالف بعد التخلّص من بعض أجنحته، أو لتعيدَ تجميل النظام الغابر بعد إجراء عملية تجميل يائسة لإعادة نظام عجوز إلى مرحلة الشباب، وآخر هذه المحاولات الخائبة لا زالت مستمرة في آخر موجات الربيع العربي في كل من الجزائر والسودان، ولكن هيهات أن تنتصر غريزة الموت الكامنة في النظامين الحاكمين البائدين على إرادة الحياة المتدفقة في عقول دماء الجماهير الثائرة.
إرادة الحياة الفياضة في عروق الشعوب العربية الحرة في الجزائر والسودان وغيرها، سننتصر على غريزة الموت المنبثقة من شهوة البقاء في السلطة للنخب الحاكمة في كلا البلدين العربيين، ولن تنطلي خدع الأنظمة الهرمة على شعوبها، حتى لو قامت هذه الأنظمة بالتضحية ببعض أركانها وأجنحتها لتقديمه كبش فداء لإنقاذ رأس النظام والصفوة المقربين في السلطة، أو يقوم النظام بعكس ذلك عندما يُضّحي برأس النظام فـ(تتغدى به قبل أن يتعشى بها)، كما حدث في الجزائر عندما أجبر الجيش الجزائري الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على التنحي، بعد أن انتهت صلاحيته كغطاء لمنظومة الفساد والاستبداد للنظام العسكري والجبهة الوطنية، التي تآكلت شرعيتها الثورية والشعبية منذ زمنٍ سحيق، وهو نفس السيناريو الذي حدث في السودان، مع اختلاف بسيط في الخدع البصرية لفيلم فاشل وإخراج أكثر فشلاً، فقد أطاح الجيش السوداني بالرئيس عمر البشير، عندما أعلن وزير الدفاع اقتلاع النظام واعتقال رأسه ونسي أنه ركنٌ من هذا النظام المتشبث بالسلطة والمحتكر للثروة.
خُلاصة الكلام أن إرادة الحياة لشعبي الجزائر والسودان وكل الشعوب العربية الحرة ستنتصر على غريزة الموت الكامنة في شهوة السلطة للنخب الحاكمة وأنظمتها الاستبدادية، وروح الأمل الجميل في مستقبلٍ أفضل للأجيال الصاعدة ستنتصر على واقع اليأس القبيح في الحاضر الرديء والماضي الأكثر رداءة، وصدق الشاعر التونسي الثائر أبو القاسم الشابي عندما قال: إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة... فلا بدَّ أن يستجيبَ القدر. ولا بدَّ لليلِ أن ينجلي... ولا بدَّ للقيدِ أن ينكسر.