الثلاثاء: 16/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

رحل طبيب القدس وترك محبوبته امانة لدينا

نشر بتاريخ: 09/05/2019 ( آخر تحديث: 09/05/2019 الساعة: 12:01 )

الكاتب: محمد خضر قرش

من المرات القليلة التي وقفت فيها مجدوها ومتأثرا ومنفعلا في رثاء رجل شهم صادق وامين، أحب القدس وعشقها حتى الثمالة لم يأخذ منها شيئا واعطاها عمره وزهرة شبابه وحياته. فقد وقفت امام نفس الحالة حينما رثيت امير القدس البار فيصل الحسيني قبل نحو 18 عاما. فهناك ذكريات نضالية مشتركة ربطت القائدين معا ليس لكونهما مقدسيان أصيلان قطنا بالقرب من بعضهما البعض فحسب، بل لأنهما ناضلا في سن مبكرة في نفس التنظيم وانتميا إلى ذات الفكر القومي العروبي. 
كما سبق وأن رثيت شاعر فلسطين محمود درويش ورفاق درب عديدين كالمناضل العمواسي هشام ابوغوش الذي ترجل باكرا قبل أن تكتحل عيناه العسليتان النديتان في رؤية عمواس والقدس وقد تحررتا من دنس الاحتلال. فإذا كان هناك اختلاف بين رثاء شاعر جُبلت قصائده برائحة خبز أمه وقهوة امه ويا ايها المارون فوق الكلمات العابرة ورثاء رفيق درب لعدة عقود كانت مليئة بالتحديات والمواجهات انتصرنا في محطات وأخفقنا في أخرى. إلا ان رثاء أمير القدس فيصل الحسيني وطبيب الفقراء المقدسي وحبيبها د. صبحي، تختلف تماما عن غيرهما. فطبيب الفقراء الأصيل ليس رفيق درب وإنما قائدا ومعلما وناصحا وموجها وأخا كبيرا. 
وفيصل كان مدربا لي ولغيري في معسكر كيفون في لبنان في بيت أحمد الشقيري والذي تحول مركزا للتدريب بعد عدوان حزيران 67 ، وقائدا ميدانيا للقدس تفتقده المدينة حاليا كما يفتقد البدر في ليلة ظلماء. وبالعودة إلى الأخ الكبير طبيب القدس وحبيبها فقد كان زاهدا في المناصب التي سعت إليه كثيرا وعزف عنها حتى انه والمناضل بهجت أبو غربية رفضا معا تسلم أعلى الأوسمة من رئيس منظمة التحرير بعد أوسلو.
لقد حفر طبيب الفقراء وحبيب القدس اسمه في شوارع وحارات وأزقة القدس بأعماله وتفانيه في خدمة أبناء المدينة وفلسطين على حد سواء. ولست في هذا المقام تعداد مناقب وأعمال فقيد القدس أبا سعد فهي كثيرة وأتى على ذكرها الكثيرون قبلي. فطبيب القدس وحبيبها ليس بحاجة إلى شهادة من كاتب هذه السطور ولا من غيره على نضاليته وتفانيه في خدمة القدس ومناهضة الاحتلال ودعمه لجمعياتها المختلفة. فقد حفر أسمه بأعماله والذي سيبقى خالدا بدءا من عيادته في عمارة هندية في باب العامود واعتقاله المتكرر قبل عام 1967 بسبب أعماله وأفعاله الميدانية. 
فهو من المؤسسين الأوائل لجمعية المقاصد الاسلامية ومستشفاها المتميز في جبل الزيتون واعتقاله بعد النكبة وانتقاله الى قبرص فالكويت الذي اقام بها حتى عام 1990 ومن ثم عودته الى عيادته المتواضعة في الشميساني. 
وقد باشر في تأسيس جمعية يوم القدس وإقامة الندوات السنوية في الثاني من أكتوبر من كل عام والذي يصادف ذكرى تحريرها من حكم الفرنجة على يد صلاح الدين الايوبي. 
وقد كان لي كما لغيري من المقدسيين شرف المساهمة في تقديم أوراق العمل الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية والسياسية حول المدينة المقدسة. لم تهن نفسه ابد ولم تلن قناته ولم تنحنِ لأحد إلا للواحد الأحد. لقد بقيت كما عهدها المقدسيون صلبة وشجاعة ومثابرة وعزيزة الجانب وشهمة. لم تغرِ أبا سعد المناصب الرسمية وكانت معظمها في متناوله وعرضت عليه في زمن ياسر عرفات ومحمود عباس على حد سواء. لقد أبقى على عضويته في المجلسين الوطني والمركزي لكنه لم يحضر أي اجتماع لهما وكذلك فعل رفيق دربه المناضل بهجت أبو غربية. 
من الصعب ان يعطي أي مقال لطبيب القدس حقه، لذلك فقد اقترحت على الأخ عبد القادر فيصل الحسيني تشكيل لجنة لتخليد اعمال رموز القدس الذين قدموا لها حياتهم دفاعا عنها وعن مستقبلها. وقد ناقشت ذلك مع عبد القادر على ان تتولى مؤسسة فيصل الحسيني إصدار كتابا شاملا يخلد ويكرم أعمال طبيب القدس واميرها وامين عاصمتها الذي رحل قبل ثلاثة أيام من وفاة الدكتور صبحي بالإضافة الى المناضل بهجت أبو غربية وروحي الخطيب وعمر القاسم وغيرهم من الرموز الوطنية المقدسية. 
وقد وعد الأخ عبد القادر بالاهتمام بالموضوع وسيتم اللقاء قريبا لوضع معالم خطة حفظ تراث واعمال هذه الرموز المقدسية الاستثنائية. يتوجب علينا تكريم الرعيل الأول المقدسي وجمع سجلهم النضالي في كتاب يُدرس في المدارس ليتعرف أبناء القدس وفلسطين على قادتهم الذين أعطوا القدس ارواحهم ولم يبخلوا عليها. النشء الجديد يجب أن يطلع على السيرة الذاتية والكفاحية للرموز المقدسية الذين رغم كل الظروف الصعبة والقاسية واللجوء والتشتت والاعتقال الذي واجهوه، ظلوا مرتبطين بعروبة القدس وفلسطين وكرسوا جزءا كبيرا من حياتهم لمواجهة المخططات الأميركية والغربية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي. لم تنحرف أو تتغير البوصلة النضالية لطبيب القدس وحبيبها منذ مغادرته المدينة وحتى اخر يوم في حياته. 
بقيت القدس هاجسه الأساسي ومحط اهتمامه وتركيزه. فلم يكن غريبا على طبيب القدس أن يتصل بكاتب هذه السطور قبل يوم واحد من وفاته ليسأله عن أحوال المدينة ويبشره بأن مجلس إدارة يوم القدس قد قرر تخصيص مبلغ لتمويل المشاريع الصغيرة في القدس ومستفسرا عن تأخر حضوره الى عمان. ترجل طبيب القدس وحبيبها المناضل الشهم صبحي غوشة تاركا محبوبته أمانة لدينا ولدى كل الغيورين على عروبتها واوصانا بها خيرا. 
لقد طلب منا أن نبقى رافعي راية عروبتها ما دام فينا قلب ينبض. أبا سعد وانت الان ترقد في دار الحق والصدق والعدل كن على ثقة بأننا سنحافظ على الأمانة وسنصون محبوبتك التي هي محبوبتنا أيضا، فقلبنا سيظل يخفق بحبها وقلمنا سيبقى يفتخر بانتمائنا لها. عهدنا لك يا طبيب القدس وحبيبها أن نبقى أوفياء لمسقط رأسك ورأسنا ولتاج رؤوسنا جميعا. 
ستبقى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين مسرى الرسول محمد صلى الله عيه وسلم ومهد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام والمحبة، قبلتنا وبوصلتنا الحقيقية غير القابلة للتبديل أو التغيير، مهما ادلهمت الخطوب وطالت ظلمة وعتمة الليل واشتدت الضغوط وغلت التضحيات. كن على ثقة باننا على العهد باقون وفي القدس منغرسون ومستقرون. 
وسيبقى شعبنا بمثابة الشوكة الفولاذية المستقرة دوما في بلعوم الاحتلال لن يستطيع بلعها ولا سحبها ففي كلا الحالتين ستمزق أحشائه. فإلى جنات الخلد يا طبيب القدس وحبيبها. ونختم بما قاله شاعر فلسطين محمود درويش في رثاءه لجمال عبد الناصر حينما كتب يقول" نعيش معك ونسير معك ونجوع معك وحين تموت نحاول الا نكون معك".