الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

تكنولوجيا المعلومات والاتصالات .. الابتكار والتنافسية العالمية

نشر بتاريخ: 18/06/2019 ( آخر تحديث: 18/06/2019 الساعة: 09:48 )

الكاتب: زكي زبدة

مجرد التفكير كيف كانت حَياتُنَا قبل عشرين عام، عندما كنا نقترب من جهاز التلفزيون لتغير القنوات من قناة الى أخرى وبتقنيات بسيطة، كيف كنا نكتب رسائل ونبعثها بالبريد التقليدي قبل عصر الانترنت، الطوابير المكتظة امام المؤسسات الحكومية للقيام بالمعاملات، ماذا جرى في آخر عشرة سنوات عندما انتقلنا لاستخدام الرسائل النصية القصيرة وتقنيات الانترنت.

حالياً مستخدموا شبكة الفيس بوك لوحدها يتبادلون ما يقارب عشرة مليار رسالة يوميا، كما واصبحنا نشاهد آلاف القنوات المجانية على جهاز التلفزيون بأحدث التقنيات، وجرى تطور كبير وسريع في قطاع النقل والمواصلات، حيث قدم خدماته بكفاءة وبتكلفة منخفضة، وحققت صناعة الطائرات والعولمة والانفتاح الاقتصادي والعديد من المتغيرات نقلة نوعية في انماط الحياة، وساهمت في بلورة ملامح العالم ووضعتنا امام واقع جديد في عالم زاخر بالتقنيات الحديثة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

على ما يبدو بأَن الروائيين ذوي النظرة العميقة والبعيدة يستطيعون ان يرسموا معالم واضحة لما سيحدث في المستقبل، تنبأ الروائي البريطاني جون برانر بالجوال والذكاء الصناعي قبل خمسون عاماً على ظهورها، وفي عام 1865 كتب الفرنسي جون فيران رواية بعنوان رحلة إلى القمر وبعدها بمائة عام تقريبا انطلقت مهمة أبولووا 11 وهي الأولى من نوعها تقود إنسان إلى النزول على سطح القمر لأول مرة في التاريخ، وكُتب عن اختراع الغواصة النووية قبل ظهورها بزمن طويل، والكثير من الكتابات والروايات والتي استبعد بعض العلماء مدى صدقها آنذاك.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، كيف ستبدو حقائق العصر الحالي بنسبة للأجيال في المستقبل، وكيف وبماذا نتنبأ في الوقت الحالي على ما سيكون عليه العالم مستقبلاً، اذاً الأسس التي يجب الاستناد عليها، هي ببساطة، استقراء دروس الماضي ودراسة الحاضر واستشراف المستقبل.

لا شك بان دول العالم على تفاوتها الاقتصادي والاجتماعي، واختلاف انظمتها المالية والمصرفية، اضحت متغيرات سريعة في ظل منافسة حادة ومتصاعدة بين الحكومات والاقتصاديات القوية من اجل البقاء في مصاف الدول الحديثة والمتقدمة. وأصبح لزاماً على حكومات المستقبل أن تستجيب بشكل سريع للظروف والتطورات السريعة، وأن تمتلك القدرات على التكيف تجاه تلك الظروف والمستجدة لتضمن البقاء والاستمرارية في ممارسة أعمالها بما يتناسب مع معطيات المرحلة، والتي تتسم بالذكاء الاصطناعي والاستنتاج والتفكير المنطقي والقدرة على حل المشكلات وترتكز بشكل رئيسي على عامل الابتكار في المجال التقني او الاستغلال الامثل لتقنيات تكنولوجيا المعلومات بالاعتماد على عملية التخطيط الاستراتيجي واتخاذ القرارات السريعة وفق منهجية علمية.

فالطرق التقليدية للمنافسة وترتيبات الجودة والسعر والكفاءة والفاعلية لم تعد كافية وقادرة لوحدها على المنافسة في ظل بيئة تنافسية مختلطة، تشترك فيها الحكومات والقطاع الخاص بكافة مكوناته، وليس بعيداً عن التأثيرات الناتجة عن التقنيات المتطورة وعوامل السوق والتي تفرضها الدول المتقدمة والشركات العالمية وخصوصاً الشركات متعددة الجنسيات.

تمتلك الشركات متعددة الجنسيات Multinational Enterprise قدرات وامكانيات هائلة متفوقة على قدرات وامكانيات الكثير من الدول. وساهمت هذه الشركات في تعميق النظام الاقتصادي العالمي الجديد والتأكيد على عالميته، وبلورة ملامح وخصائص وآليات النظام الاقتصادي العالمي وتشكيل انماط جديدة في الاستثمار والانتاج الدولي، وتشجيع الحكومات وتوجيه رؤوس الاموال بعيداً عن اعتبارات المنافسة المحلية، بل من اجل الاستفادة من التطور التقني والعالم الافتراضي والعمليات الالكترونية العابرة للقارات، شركة ABB وهي مجموعة شركات سويسرية سويدية متعددة الجنسيات يقع مقرها الرئيسي في زيوريخ، سويسرا، تعمل بشكل رئيسي في مجال الروبوتات، الطاقة، المعدات الكهربائية الثقيلة وتكنولوجيا التشغيل الآلي، وتسيطر حالياً على أكثر من 1300 شركة تابعة منتشرة في معظم أنحاء العالم، اخذين بعين الاعتبار بأن السوق السويسرية لا تستوعب إلا نسبة بسيطة للغاية من إجمالي مبيعات الشركة.

شركة Appleالامريكية متعددة الجنسيات وتعمل على تصميم وتصنيع الالكترونيات الاستهلاكية ومنتجات برامج الحاسوب، بلغت قيمة نتائج اعمالها المالية لربع السنة المالية 2019 الأول، إيرادات ربع سنوية بقيمة 84.3 مليار دولار، كما ان شركة Google وهي شركة امريكية متخصصة في مجال الاعلام وتعتبر ثاني اكبر شركة في العالم وبعض التقييمات تعتبرها الاولى، تقوم بشكل اساسي على الابتكار، كانت بدايتها بسيطة مكونة من شخصين، كل عملها قائم على الابتكار، للنظر الى الماضي كانت العلامات التجارية العالمية قبل عشرين سنة، عبارة عن شركات نتنج منتجات، لكن اليوم اِشهر العلامات التجارية مثل أبل، وجوجل والقائمة تطول تستند في استمرارها على الابتكار في مجال تكنولوجيا المعلومات، وايضا الابتكار في طريقة تقديم الخدمات.

هل الابتكار يقتصر على القطاع الخاص؟ بالنظر الى اكثر دول العالم تنافسية بناء على تقرير التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، تعني الدول الاكثر تنافسية، أي الدول المزدهرة القادرة على توفير الخدمات وتوفير الازدهار لمواطنيها وتحسين جودة الحياة لهم في كافة القطاعات، هذه الدول الاكثر تنافسياً في العالم وهي سويسرا، سنغافورة، المانيا، تشترك مع اغلى الشركات في العالم Microsoft, Google, Apple تشترك بشيء وهو القدرة على بالابتكار وخصوصاً الابتكار في المجال تقنية المعلومات.

يتمثل الابتكار في سعي الأفراد والمؤسسات والحكومات الحثيث للتقدّم عبر توليد أفكار مبتكرة واستخدام منتجات وخدمات وعمليات جديدة ترتقي بجودة الحياة البشرية. واستذكر هنا مقولة الشيخ محمد بن راشد الى مكتوم حاكم دبي، عندما قال: الابتكار في الحكومات ليس ترفاً فكرياً أو تحسيناً إدارياً أو شيئاً دعائياً؛ الابتكار في الحكومات هو سر بقائها وتجددها وهو سر نهضة الشعوب وتقدم الدول، وإذا استطاعت الحكومات توفير أفضل بيئة ابتكار لموظفيها، نستطيع توفير أفضل مستقبل لشعبنا ولأبنائنا

حيث لم تعد الدول تقاس بمدى عتادها العسكري انما تقاس بقدراتها على الابتكار وتولد افكار المستقبل، الابتكار اساسي للنمو في القطاع الخاص واساسي لــلتقدم والنهوض في الدول.

ساهمت الشركات متعددة الجنسيات والعديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في التأثير وبشكل كبير على إحداث الثورة التكنولوجية ونقل التكنولوجيا عبر الدول والقارات،والتي لم تعد تقتصر على فئات دون الأخرى ولم تعد حكراً على الدول. لذا يبقى الدور لمدى جدية الحكومات في هذه الدول ومدى توفر الارادة المخططة للتغير والنهوض وفق منهجية علمية ومنطقية، وبيئة قانونية ضامنة، ورؤية طويلة المدى من اجل الاستغلال الامثل للموارد المتاحة:( البشرية والمادية والتقنية)،بشكل هادف الى تحقيق التنمية والنهوض على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية.

وفق النظام العالمي الحديث لا تعد تكنولوجيا المعلومات قطاعاً يبحث في المطلق بل انه يندمج بشكل كامل مع القطاعات الأخرى، مثلاً صناعة الطائرات ولّدت في حركتها فرصاً جديدة في مجال البنى التحتية المساندة للصناعة الجوية بما في ذلك تنمية انظمة المراقبة والمجسات واجهزة الحجز الحاسوبي ..، حيث ان قطاع تكنولوجيا المعلومات في العصر الحالي وفي المستقبل هو المولد الحقيقي للنشاطات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات.

حيث ان تكنولوجيا المعلومات ذات اطار شمولي لا يصلح تأطيرها في نطاق ضيق لما تمثله من دور ريادي يؤثر في مختلف القطاعات، حيث ان القطاعات الرئيسية كافة والمتمثلة بـ: (الزراعة والتنمية الريفية، التعليم، الصحة والرعاية العامة، الاقتصاد والنمو، البنية التحتية، والطاقة التعدين، البيئة، المالية، تغير المناخ، القطاع العام، القطاع الخاص، التنمية الاجتماعية، الايدي العاملة، التجارة، التنمية الحضرية)، وعلى اختلاف مستويات وجودها في المجتمعات تعتمد وبشكل رئيسي على تقنيات تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصالات، ولا تستطيع هذه القطاعات ان تقدم خدمات ومنتجات ومستوى انتاجية عالية ترتقي الى تحقيق الرضا وتلبية احتياجات وتطلعات المستقبل لدى متلقي الخدمات، الا من خلال الاعتماد وبشكل أساسي على تقنيات تكنولوجيا المعلومات، باعتباره احدى اهم دعامات التنمية الشاملة المستدامة.

مما لا شك فيه بان تقنيات المعلومات المتسارعة والتي تخرج بدون سابق انذار قد تغير كل شيء، وقد تغلق منشأة ضخمة وتسبب في افلاس مؤسسات عملاقة، وقد تكون فرص استثمارية لحكومات ورؤوس أموال تنبأت بالمستقبل وفق دراسات وابحاث واستخلصت التجارب النافعة والافكار والفرصة التنموية في المستقبل.

على سبيل المثال لا الحصر، أن تقنية مثل البلوك تشين Blockchain والتي تعتبر نظام بيانات لامركزي ذو قدرات حسابية عالية ونظام أمني قوي غير قابل للاختراق. بلوك تشين تعمل وفق الالية التالية ففي حال اراد A ان يحول مبلغ الى B سيقوم بالذهاب الى طرف ثالث ليس له علاقة بجوهر العملية وهو المصرف باعتباره الجهة المركزية للأجراء التبادل بين الطرفين، وفق تقنية بلوك تشين لن يكون هناك حاجة لمثل هذه العملية انما ستكون العملية بين الطرفين A و B مباشرةً ويتم التحقق منها بشكل فوري وذلك بناء على سجل مشتركة وموجود ومتاح للجميع كما ويتمتع بقدر عالي من السرعة والدقة ودرجة عالية من الأمان والخصوصية ويوفر بيئة جذابة في تعاملاتنا اليومية. وايضا نجد عملة البيتكوين Bitcoinوهي احدى تطبيقات بلوك تشين تتم بشكل كامل عبر الانترنت دون وجود فيزيائي لها وغيرها من انظمة العملات الرقمية والمشفرة. وما يمثل ذلك من ثورة في عالم الاقتصاد والمالية حول العالم. تتعدد التقنيات المتنوعة في فضاء تكنولوجيا المعلومات، كما وتتعدد استخداماتها ومنها بلوك تشين كما اشرنا سابقاً، ايضاً المساعدات الرقمية والاجهزة الذكية الصحية والروبوتات والسيارات ذاتية القيادة، وغيرها من التقنيات والتي تتعلق بالصحة والتعليم والاعلام والترفيه او المجال العسكري، إلخ.

هذه التقنيات المتطورة سترسم معالم بيئة ذكية، تمتع بدرجات عالية من الذكاء الاصطناعي، وتحمل في طياتها فرص تنموية واستثمارية لقيادة الاعمال والابتكار نحو المستقبل، واسس الاستثمار الحديثة القائمة على بنية تحتية مؤهلة وتعتمد على موارد بشرية فاعلة لديها القدرات التحليلية والتفكير المنطقي على اساس مبدأ الابتكار كأساس للنمو والنهوض وفق متطلبات المستقبل.

اما فيما يتعلق بوظائف المستقبل حسب تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، هناك ملايين الوظائف سوف تفنى، وهي الوظائف عديمة الجدوى والتي سوف يحل محلها الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وسوف تولد وظائف آخري اقل عدداً متعلقة بالتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. على الرغم من ذلك، فان الاحتياجات المستقبلية للوظائف تتغير بشكل سريع نتيجة المتغيرات الاقتصاديات والاجتماعية في ظل عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث اصبحت التخصصات مجزأة وتم ايجاد ارتباطات بين تخصصات مهنية متنوعة وبين تقنيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مثل تخصصات البرمجة وامن المعلومات ومطورو البرمجيات او الوظائف المتعلقة بالتجارة الإلكترونية وتكنولوجيا الطاقة البديلة والتعليم عن بعد وتحليل البيانات الضخمة او المفتوحة وايضاً تخصصات مثل نظم المعلومات الادارية او الجغرافية او المحاسبية او تخصصات تكنولوجيا الزراعة او تكنولوجيا التنمية او المناخ، إلخ.

تستحوذ الوظائف التي لها علاقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالحصة الاكبر في قائمة التوقعات حول اهم الوظائف التي يحتاجها سوق العمل في المستقبل، وبناء عليه فإن قدرات الحكومات والشركات على الابتكار والتنافسية في المستقبل، يعتمد على مدى قدرتها على استقطاب وتعيين موظفين يمتلوك قدرات عالية في تقنية المعلومات والاتصالات، ولديهم مهارات في ادارة الحلول والابتكار في ظل بيئة سريعة التغير، عالية المرونة، بالغة الاثار.

الاثر الذي يـــعمق الفجوات التنموية بين الدول المتقدمة اقتصادياً وتكنولوجياً وبين والدول النامية على الرغم من الانتقال السريع للتكنولوجيا المعلومات كما تم الاشارة سابقاً، الا ان الدور المنوط بالحكومات ومتخذي القرار في الدول النامية او الدول التي في طريقها الى النمو، بأن تكون التكنولوجيا الارضية الصلبة للبناء والنهضة والتطور وفق عملية تخطيط مدروسة ومنهجية فـالاختلالات المتراكمة بحاجة الى حلول متدرجة وبما لا يتعارض مع الاعتبارات المتنوعة المتعلقة بالدولة، ولكن يجب ان لا تقيد هذه الاعتبارات عملية التنمية في القطاعات الاساسية والتي تلامس الاحتياجات الاساسية للمواطنين، وترتقي بجودة الحياة البشرية وترفع مستويات التنافسية والابتكار لدى الدول.

اما الدول والتي في طريقها نحو النمو والنهوض، فأن استخلاص الدروس والتجارب الفاعلة في البناء والنهوض والتنمية من اجل تحقيق النهضة في القطاعات الصناعية والزراعية والخدماتية وفق الابتكار وتكنولوجيا المعلومات، حيث انه لا يمكن التعامل مع التحديات الحديثة بالآليات القديمة ومن يتعامل بالآليات القديمة سيواجه مشكلات كبيرة ستؤدي الى اندثار العملية التنموية .

ان مدى مساهمة تقنيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في القطاعات الاقتصادية على مستوى الحكومات ينعكس في مدى قدرة الدولة على الارتقاء في سلم التنافسية العالمي، قبل عدة اعوام كان الحديث يدور حول الحكومات الالكترونية وتطبيقاتها، في العصر الحالي اصبحت حكومة الهاتف النقال تلعب الدور الابرز من خلال تقديم الخدمات عبر الهاتف النقال، الخدمات التي تتعلق بالمعاملات الحكومية او خدمات القطاع الخاص المحلي او الشركات الدولية.

وفي النهاية؛ لم تعد الطرق التقليدية لتقديم الخدمات قادرة على تحقيق الرضا لدى المواطن، حيث اصبح المواطن يريد دائما الخدمات والمنتجات والتي تتفوق على مثيلتها السابقة من حيث الجودة والتقنية، حيث ان المعيار الحاسم يتمحور حول مدى قدرة الخدمات المقدمة على تسهيل الحياة اليومية واشباع الاحتياجات الحالية وتلبية التطلعات المستقبلية، والارتقاء في جودة الحياة البشرية والصعود على سلم التنافسية العالمية.