الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

رحلتي

نشر بتاريخ: 08/08/2019 ( آخر تحديث: 08/08/2019 الساعة: 15:37 )

الكاتب: خالد جميل مسمار

رحلتي - الحلقة التاسعة

في العام 1973م وأثناء عملي في اذاعة الثورة الفلسطينية اعلن في القاهرة عن افتتاح كلية الاعلام في جامعة القاهرة للدراسات العليا ويحق للعاملين في اجهزة الاعلام في مصر ممن امضوا ثلاث سنوات فما فوق ان يلتحقوا بقسم الدراسات العليا في الكلية. ومن حسن حظي انني أمضيت السنوات الثلاث في عملي في الاذاعة ما يخولني للالتحاق بالدراسات العليا وكان معي من العاملين في الاذاعة ما ينطبق عليهم الشرط المرحوم محمد اسماعيل والاخت اسماء عرفات شقيقة الاخ ابو عمار وبما ان جميع الملتحقين في هذه الكلية هم مذيعون ومذيعات ومخرجون ومخرجات في الاذاعة والتلفزيون اخترت تخصص الاذاعة والتلفزيون بالاضافة الى السينما للدراسة التي ستستغرق سنتين قدمت خلالها بحثين احدهما عن الاذاعة والتلفزيون والاخر عن السينما تمّت اجازتهما وحصلت عندها على دبلومي الدراسات العليا (الماجستير) بإشراف الدكتورة سهير بركات استاذة الاعلام.
كان من اهم الاساتذة الذين أشرفوا على تعليمنا الخبير الاعلامي المصري الراحل محمد فتحي وكان احد كبار المذيعين في فترة انشاء الاذاعة المصرية وكان لطيفا في تعامله معنا جميعا. وبسبب خبرته الاعلامية الطويلة وعلاقاته المتشعبة في العالم اقترح ان نحتفل بتخريجنا بزيارة عدد من البلدان الاوروبية التي له علاقات صداقة مع مسؤولي اذاعاتها وتلفزيوناتها وفعلا تم ترتيب استضافة من هذه المؤسسات لنغادر عن طريق البحر في رحلة الى روما وباريس ومدريد.
واجهتني مشكلة ان جواز سفري الاردني منتهي فترة صلاحيته بالاضافة الى ان تكاليف الرحلة لم تكن بحوزتي!
حُلّت مشكلة الجواز عن طريق السفارة الاردنية في القاهرة بواسطة أحد الاصدقاء المصريين لكن السفينة كانت قد ابحرت من ميناء الاسكندرية تقل جميع الخريجين المصريين من مذيعين ومخرجين من الجنسين. فأسقط في يدي ثم ان تكاليف السفر ليست ميسرة الا بالقليل الذي بحوزتي ولا يكفي للحاق بهم. ولكن الزميل والصديق ربحي عوض وكان وقتها معتمد الاقليم في جمهورية مصر العربية شجعني وساعدني في الحصول على تذكرة سفر بالطائرة الى باريس للحاق بهم هناك وأعطاني رسالة لصديقه ممثل (م.ت.ف) في فرنسا الشهيد الراحل محمود الهمشري لتسليفي بعض النقود.
حملت الرسالة وجهزت شنطة ملابسي وكانت شنطة كبيرة وتوجهت الى مطار القاهرة لاستقلّ الطائرة المتوجهة الى باريس ومن حسن الطالع جلس الى جانبي رجل عربي يتكلم الفرنسية بطلاقة عرفت انه جزائري عرف بوجهتي واني اريد اللحاق بزملائي الذين سبقوني بالباخرة على أمل اللقاء بهم في باريس وسعدت انه خبير في جغرافية باريس وسيساعدني للوصول الى عنوان الهمشري هناك. ولكن كانت المفاجأة في مطار باريس ان جاء البوليس الفرنسي واعتقل هذا الرجل الجزائري بأسلوب حضاري لم اعرف انه اعتقال الا عندما اخبرني هو بنفسه بذلك فأسقط في يدي ولم أدر كيف أصل الى عنوان الهمشري لكنه اخبرني بسرعة ألا اركب تكسياً من المطار لأنه سيكلفني الكثير ودّلني على باص لا يكلف الا القليل وفعلا خرجت من المطار واستقللت الباص وكان قد ذكر لي ان استقل المترو الى محطة سماها لي ومن هناك العنوان سيكون قريبا.
واجهتني مشكلة الشنطة الكبيرة والثقيلة التي ادخلتها الباص اولا ومن ثم المترو وبعد ذلك حملتها وصعدت بها خارج نفق المترو وكان الوقت قد قارب على المغيب وأحسست بتعب شديد خاصة انني غادرت القاهرة في الصباح والجو كان حارا ونحن في شهر تموز (يوليو) كنت اعتقد ان لغتي الانجليزية ستساعدني في باريس, ولكن للاسف اتضح لي انهم لا يتكلمون الانجليزية فاضطررت ان اوقف تكسي رغم تحذير الجزائري لي بعدم استعمال التاكسي الا انني اردت شراء راحتي وليكن ما يكون خاصة انني قاب قوسين او ادنى من الوصول الى شقة محمود الهمشري الذي سيسلّفني المبلغ المطلوب لاتمام الرحلة واظهرت العنوان المكتوب على رسالة الاخ ربحي عوض الى الهمشري لسائق التاكسي الذي اوصلني الى العنوان مباشرة وكان قريبا جدا الا انه كلفني مبلغا وقدره!
لم اجد البواب الذي من المفترض ان يكون داخل المبنى ويطلقون عليه (الكونسيرج). انتظرت قليلا واذا بسيدة تدخل المبنى وكم فرحت عندما علمت انها تتكلم الانجليزية ودلتني على شقة الهمشري في الطابق الثاني وحملت الشنطة اللعينة والتعب يهدني طرقت الباب .. مرة واثنتين وثلاثا ولكن لا جواب! ماذا أفعل ؟! ولا أملك ما يكفيني للمبيت في باريس. وفي هذه الاثناء خرجت امرأة عجوز من الشقة المقابلة للهمشري وقالت إنه مسافر ولن يعود الا بعد ايام. كارثة حلت بي .. ما العمل؟! حملت الشنطة وهبطت السلالم الى الطابق الارضي ومن حسن حظي ان السيدة التي تتكلم الانجليزية ايضا نزلت من شقتها خارجة الى عملها قالت متعجبة أنت ما زلت هنا؟ اخبرتها بقصتي وبأنني اريد الالتحاق بزملائي الذين توجهوا الى مدريد. قالت: الوقت متأخر واقترح عليك ان تنزل الليلة في احد الفنادق ولا تضِع احتفالات باريس هذه الليلة في ذكرى الثورة الفرنسية في الشانزلزيه واخبرتني انها اميركية متزوجة من فرنسي والاحتفالات جميلة. لكنها لا تدري اني لا أملك ما يكفي لذلك وقد فقدت المصدر الغائب الذي كان سيعطيني المال. طلبت منها ان تدلني على القطار الذي سيقلني الى مدريد وفعلا ساعدتني في ذلك وركبت المترو والجوع والعطش والشنطة (بتهد الحيل) .. تعرفت في المترو على زوجين شابين مع طفلهما حيث كنا وقوفا داخل المترو فلا مكان للجلوس بسبب الازدحام. الشاب اسمر وزوجة بيضاء وكذلك طفلهما، سألت الشاب عن محطة القطارات التي ستقلني الى مدريد, اتضح لي ان الشاب من أوروغواي وزوجته فرنسية ولغته الانجليزية مكسرة وقد لاحظ ارهاقي وتعبي فأعانني على الشنطة وقال سأدّلك اين تنزل من المترو وكيف تصل محطة القطار فحمدت الله ان هذا الغريب في هذا المكان الغريب سيساعدني وفعلا اشار لي ان انزل في احدى محطات المترو ودلني كيف التوجه الى محطة القطارات.
ودخلت محطة القطارات واذا بها ساحات واسعه تمتلئ بالقطارات التي تتوجه الى مختلف المدن والبلدان ومنها اسبانيا. وقفت في طابور طويل لشراء تذكرة السفر ولم يكن معي من العملة الفرنسية ما يكفي وعندما وصل دوري بعد طول انتظار عرضت المئة دولار التي بحوزتي على الموظف لشراء تذكرة الى مدريد لكنه طلب مني تغيير العملة وعدت مرة ثانية الى شباك التذاكر بطابور آخر جديد! وحمدت الله على حصولي على تذكرة السفر. ولكن اي القطارات الذي سيقلني من هذه القطارات التي تملأ الساحة الكبيرة! لا أحد يرشدني فالانجليزية لم تسعفني الى ان صادفت شخصين يتناقشان باللغة العربية وباللهجة المغاربية. هل انت عربي؟! سألت احدهما، نعم انا من المغرب.. اجابني. طلبت ان يدلّني على القطار الذاهب الى مدريد وعلمت منه ان هناك عدة قطارات بمواعيد مختلفة وطلب مني ان أريه تذكرتي فلما رآها ولاحظ موعد القطار قال اسرع قبل ان يفوتك القطار فهذا هو موعده حاولت جهدي بحملي الثقيل (الشنطة) وبجوعي وعطشي فحمل المغربي عني الشنطة وأخد يركض وأنا ألهث خلفه حتى ادركت القطار وما ان وصلت حتى انطلق بنا فورا. فلولا هذا المغربي الشهم لضاعت التذكرة وخسرت ثمنها وبتّ ليلتها في محطة القطارات جزاه الله عني كل خير.
جلست في احدى القمرات داخل القطار والقيت بجسدي المرهق بعد أن وضعت الشنطة جانبا وغلبني النوم. أثناء ذلك كان يمرّ مفتش التذاكر فسألته بالاشارة ان كنت استطيع شراء الماء او طعام أخبرني بأن البائع يمرّ بين الحين والآخر داخل القطار تستطيع ان تشتري ما تشاء مرّ البائع بالفعل وطلبت منه (aqua) ماء للشرب ولكن الذي كان معه مشروبات غازية معروفة كالبيبسي وغيرها وهذه لا تروي ظمأ, وعلمت ان بائعا آخر لديه طلبي فانتظرت حتى وصل وفتحت زجاجة الماء.. ويا للحسرة كانت صودا أي ماء غازيّا .. فلم أرتوِ بعد. كان القطار ينهب الارض ويمرّ بمحطات ينزل ركاب ويطلع غيرهم الى ان وصلنا الى محطة نزل فيها الركاب كلهم ولكن لم يطلع ايّ راكب .. وبقيت في القطار وحدي انتظر ركابا جددا، وتَحرُّك القطار الى هدفه في مدريد الى ان فاجأني أحد العاملين الذين ينظفون القطار من الداخل بعد خروج الركاب فاستغرب وجودي واخبرته اني ذاهب الى مدريد، فأشار علي ان اغادر القطار هذا لاستقلّ آخر. وكدت مرة اخرى ان افقد قطاري المتوجه الى مدريد حيث اتضح لي ان هذه المحطة هي آخر محطة للقطار الذي استقللته من باريس وهي مدينة ليون.