الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

أفلام "أكشن" عن "مدن الفضيلة" والنوادي الليلية في عمّان

نشر بتاريخ: 22/08/2019 ( آخر تحديث: 22/08/2019 الساعة: 19:36 )

الكاتب: نضال منصور

عاش الأردنيون خلال إجازة عيد الأضحى مع سلسلة من أفلام "الأكشن"، وكالنار في الهشيم انتشرت هذه الأفلام وأصبحت حديث الناس، وباتت منصات التواصل الاجتماعي ساحة لتبادل الاتهامات والفتاوى، وسعى بعض "فهلوية" السوشيال ميديا لوسم عمّان "بعلبة ليل" أو مرتع للعصابات، والبلطجية، والزعران.

عمّان التي نعيش فيها منذ عقود طويلة ليست عمّان التي تطبع صورتها "السوشيال ميديا"، وتوهم الناس أنها الحقيقة الوحيدة، وواقع الحال أن عمّان ما عادت المدينة التي "تنام مع الدجاج وتصحو مع الديوك" كما كان يصفها صديق ساخر، فهذه المدينة الوادعة تغيرت؛ عجنتها المتغيرات الاقتصادية وأوجعتها، ودقت أبوابها رياح التغيير، واختلطت لهجاتها وطباع أهلها، وتبدلت الكثير من قيمها.

المشهد الأول الذي أطلق شرارة الحديث عن الفلتان الأمني، وانهيار قيم الأخلاق، كان لحادث سير تحول إلى مشاجرة بين فتاتين ترتديان لباسا لافتا وامرأة كبيرة في السن وقف إلى جانبها وساندها شاب في مقتبل العمر.

كل لحظة يقع حادث سير، وتتلاسن الناس غضبا وتتقاذف الاتهامات، لكن "حادثة الجاردنز" كما أُطلق عليها، كانت مختلفة وظلت تلوكها الألسن، ووجهت أصابع الاتهام والإدانة للفتاتين؛ ليس لأن إدارة السير حملتهما المسؤولية عن الحادث، وإنما لأن لباسهما "غير المحتشم" حسب رأي جمهور السوشيال ميديا كان سببا كافيا لإدانتهما، بل والأسوأ وصفهما بألفاظ مُهينة وحاطة للكرامة الإنسانية، وتنميط صورتيهما، وما يُسيء أكثر ربط الأمر بـ "اللاجئين" أو بأشخاص عرب، وبأن هذه التصرفات عابرة للحدود ولم تكن معروفة بين أهل عمان.

ظهر المجتمع مصدوما بعد هذه الحادثة العابرة. "ملابس فاضحة"، باعتقادهم، كافية لإثارة جدل وتصاعد الاتهامات، "المتطهرون" كذبا لا يريدون الاعتراف أن عمّان مثل سواها من مدن العالم فسيفساء تتعايش بها كل التناقضات.

هؤلاء يُنكرون أحيانا ويتناسون أحيانا أخرى أن هناك نساء في الأردن يشتغلن بالجنس، ورجال يمارسون "القوادة"، هؤلاء يريدون أن يدافعوا عن صورة مُتخيلة لعمّان باعتبارها مدينة للفضيلة، وأن الخراب يتسلل من خارج أسوارها وحدودها.

المشهد الثاني كان فيديو لشخص يُطلق الرصاص ببرود على آخَر في آخر الليل، ويتلذذ بتعذيبه ويتباهى بتصويره، وامرأة تسعى بتردد إلى وقف الاعتداء والتنكيل به، ولكن لا حياة لمن تنادي.

قيل إن هذا الفيديو صُور أمام ناد ليلي في منطقة الصويفية، وعُرف أن المعتدي من أصحاب الأسبقيات الجرمية، واشتعلت بعد هذه الحادثة دعوات إلى إغلاق النوادي الليلية و "البارات"، والتصدي لظاهرة الدعارة، والتزايد في تجارة الرقيق الأبيض في الأندية الليلية، وابتعدت أكثر المعالجات والنقاشات عن الرصد والتفصيل للانتهاكات الحقوقية، وانصبت على مفاهيم أخلاقية ودينية مختلف وغير متفق عليها.
غاب أو تراجع خلال فوضى السوشيال ميديا صوت القانون الناظم للمجتمع، ولم ترتفع الأصوات التي تدعو لصيانة الحريات الشخصية وحماية الخصوصية والتنوع والتعددية، تجلت أحاديث ومظاهر شائنة تُحط من صورة المرأة، وتبث خطاب كراهية موجه للاجئين، وحتى المقارنات التي استخدمت لم تطالب بحفظ "الكرامة" والحقوق الإنسانية، فقد تعالت أصوات تحتج على السماح لنساء "النوادي الليلية" بالجلوس باحترام في مركز أمني بعد احتجازهن وكأن هذا الأمر جريمة، وظهرت بعض الأصوات التي تحض على ارتكاب انتهاكات بحقهن.

الاعتراض على سوء المعاملة لمعتقلي الرأي أو المُحتجين سلميا أمر مطلوب وحق مشروع وضروري، لكنه ليس مسوغا أو مبررا أبدا للمطالبة بحرمان الآخرين من حقوقهم حتى وإن كانوا متهمين أو مدانين.

وزارة الداخلية تصدت لما تعتبره حملة مبرمجة تستهدف الأردن وصورته؛ مؤكدة أن الدولة تبسط سيطرتها الأمنية، ولا مكان عصيٌّ على حكم القانون.

الأرقام التي عرضتها الداخلية للجرائم المرتكبة أظهرت تراجعها في عام 2018 مقارنة بالسنوات التي سبقتها، وعددت الإحصائيات منذ عام 2014 وحتى العام الماضي جرائم القتل من غير قصد، والسرقة، والاحتيال، والبغاء، والزنا، واستثمار الوظيفة، والاعتداء على الموظفين، والانتحار، والمقامرة، ومخالفة قانون الآثار، وإطلاق العيارات النارية.

لم تكد الحملة التي صاحبت مسلسل "جن" تهدأ؛ حتى تفاجأ الأردنيون بدعوة لمؤتمر وطني لمكافحة الرذيلة الشهر الماضي دعت له ما أطلقت على نفسها "جمعية أنصار الفضيلة (درع)"، والأدهى أنه يُعقد تحت رعاية وزارة الأوقاف، وما أن تسربت معلومات عن المؤتمر حتى كان الاستهجان والتساؤل عن الرذيلة التي يريدون محاربتها في الأردن، وهو ما دفع وزارة الداخلية لإلغائه بسبب دلالاته التي تحمل إدانة لمجتمع بأكمله.

لوهلة تشعر أنك تُشاهد مسرحا للدمى، وهناك من يُحرك الجميع بأصابع يديه، ويصنع المشاهد والأصوات ويصوغ البدايات والنهايات، وهناك من يروجون ويؤمنون بنظرية المؤامرة، وآخرون يرون أن هذا الاشتباك اليومي ملهاة تُبعد الناس عن مناقشة القضايا المصيرية والمفصلية.

بغض النظر عن التأويلات والتفسيرات لهذه الأحداث فإن الواقع يشي أن العنف في المجتمع موجود، والمثير للدهشة والحزن أن يحظَ لباس لافت لفتيات يرونه غير محتشم بتفاعل وصدى، ولا تجد زوجة معنّفة تتعرض للضرب على يد زوجها بالتعاطف وربما بالحماية الكاملة والإنصاف.

حين عدت للعمل في الصحافة الأردنية قبل ثلاثة عقود حدثني رجل أعمال بارز عن "المثلث الذهبي" الذي يربط ويشبك بين رجال السلطة السياسية، ورجال الأعمال، والنساء، شارحا بأن هذا المثلث متداخل وتحكمه قواعد، وهو طريق إجباري يقود إلى ذات الاتجاهات، فمن يملك السلطة السياسية، يؤثر في رجال الأعمال، ويملك المال، ويستخدم النساء في معاركه.

يتبادل الجميع الأدوار، فرجال المال يحكمون الساسة، ويوظفون النساء في شبكة علاقاتهم النفعية، وذات الأمر ينطبق على نساء يتلاعبن ويسيطرن ويتكسّبن من الطرفين، في سياق علاقات مصالحية وزبائنية.

لم تعجبني هذه النظرية كثيرا رغم تكرار حدوثها، كنت محتجا على تسليع المرأة في بازارات السياسة و "البزنس"، ولكن مع مرور الوقت تعايشت، وشاهدت، واطلعت على تفاصيل تكشف عن بشاعة المصالح وتقدمها على المبادئ وحتى على قيم العدل وسيادة القانون.
يسود الاعتقاد في الأردن أن النوادي الليلية مُحصنة حتى وإن خالفت القانون، وأن المستفيدين من تجارتها قد يجدون من يناصرهم علنا وسرا، أو يغض النظر عنهم في مواقع المسؤولية، ولهذا غضب الناس حين سمعوا تصريحات من محافظ العاصمة "الحاكم الإداري لعمّان" يُعلن أن أكثر من 100 "كوفي شوب" تُمارس أعمال النوادي الليلية خلافا لترخيصها والقانون، وعلى الفور استذكر الناس كيف تتحرك آليات أمانة عمان فورا لهدم كشك لشاب فقير يُعتبر مصدر رزقه الوحيد بحجة أنه غير مرخص؟!

ما يحدث اليوم في عمّان كان يحدث مثله سابقا وربما أكثر، والفارق الوحيد وجود السوشيال ميديا كاشف الظواهر، وليس مُنشأها، فما دام كل منا يحمل "موبايله" شاهرا كاميرته لتوثيق كل ما يحدث أمامه؛ فإن عورات الحكومات والمجتمع أصبحت بضاعة معروضة على منصات التواصل الاجتماعي.

السوشيال ميديا مثل الدواء لا غنى عنه، وإن كانت له أعراض جانبية، والمشكلة ليست في المنصات التي تُكبر الصورة وتضخمها، وإنما فيمن يرتكب الجريمة أو يتجاوز على القانون، أو لا يقبل بالاختلافات، وقبل ذلك في غياب رواية ذات مصداقية للأحداث تتحمل مسؤوليتها أولا وأخيرا الدولة، وليس السكوت والتواطؤ عن تسريب أفلام تنتهك حرية الأشخاص وخصوصيتهم.