الثلاثاء: 16/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

السقا مات..

نشر بتاريخ: 20/02/2020 ( آخر تحديث: 20/02/2020 الساعة: 13:16 )

الكاتب: أشرف صالح

الموت ليس فقط أن تخرج الروح من الجسد , ويدفن الجسد تحت الثرى , إنما هناك ظواهر كثيرة تعبر عن الموت في الحياة نفسها , فمنها ظواهر مادية ومنها معنوية , الظواهر المادية للموت هي مقدمات للموت الأبدي , وكما عبر عنها علماء اللغة والإعجاز العلمي , من خلال تفسير القرآن الكريم وشرح السنة النبوية , وتتمثل في نهاية صلاحيات جسد الإنسان تدريجياً , فمثلاً , كلما تقدم الإنسان في السن , يخف نظرة وسمعه , وتتجعد بشرته , ويتساقط شعره , وتتساقط أسنانه , ويتوقف جسده عن إنتاج الطاقة , ويتوقف مخه عن إنتاج المعلومات , ويستمر هذا الموت الفسيولوجي التدريجي للإنسان حتى يتوفاه الله..
أما الموت المعنوي , فعبر عنه القرآن والسنة أيضاً , بالإضافة الى التعبيرات الفلسفية والأدبية , والتي تأثر بها الشارع العربي , وأصبح يضرب بها الأمثال الشعبة , وأصبحت عنواناً للقصص والروايات والفنون , ومن أجمل ما قدمه الفن في هذا الموضوع , هي رواية الكاتب يوسف السباعي , والتي تحولت الى فيلم من روائع السينما المصرية بعنوان "السقا مات" الفيلم يتحدث عن شاب يعمل في مهنه السقا في فترة العشرينيات في القاهرة , ومهنة السقا هي مهنة الخدمة العطاء والنشاط وقضاء حاجة الناس للمياه , وكان السقا قد فقد زوجته بحسب الفيلم , والذي كان يعشقها , ومنذ موتها أصبح يخاف من الموت وما يتعلق بالموت , فعندما كان يرى جنازة كان يغمى عليه ويفر هارباً الى بيته , وهكذا تحولت حياته كالأموات , وجسد شخصية السقا في هذا الفيلم , الفنان الكبير عزت العلايلي , وإستمرت حياته التي تشبه الموت الى أن إلتقى برجل بالصدفة , وتكونت صداقه بينهما , وأسكن السقا هذا الرجل في بيته كمساعدة له , وجسد شخصية الرجل الفنان الراحل فريد شوقي , ومن خلال الحديث مع هذا الرجل إكتشف السقا بأن الرجل يعمل في مهنة "حانوتي" , فكانت هنا الفاجعة للسقا , فالآن أصبح عزت العلايلي "السقا" والذي يخاف من الموت , يعيش في بيت واحد مع فريد شوقي "الحانوتي" , ولكن إستطاع الحانوتي إقناع السقا بأن لكل أجل كتاب , ولا ملاص من الموت , ولكن الموت في القبور أهون من الموت في الحياة.. وفي نهاية الفيلم مات الحانوتي في بيت السقا , ولم يمت السقا والذي كان يخاف من الموت , وأدى هذا القدر الى عودة السقا الى الحياة الطبيعية , بلا خوف وبلا يأس , ومارس عمله بجد ونشاط حتى ترقى وأصبح كبير السقايين..
إن حياة الشعب الفلسطيني تشبه حياة السقا تماماً , من حيث الجهد والعمل وإسعاد الغير , وزد على ذلك سمة التضحية التي يمتكها الشعب , وحتى أن الشعب فقد أعز ما يملك وكما أن السقا فقد زوجته التي يعشقها , وأن الشعب عاش حياة الخوف من المجهول وكما أن السقا عاش حياة الخوف من الموت , وأن الشعب تهرب من الواقع وكما أن السقا تهرب من الموت , ولكن السقا إمتاز وتقدم عن الشعب الفلسطيني بميزتين إيجابيتين , وهما كالتالي .
أولاً كان السقا ذا رأي ومشورة وكلمة مسموعة بين الناس في الحي الذي يعيش فيه , ولكن الشعب ليس له رأي ولا مشورة ولا كلمة , لأنه وبالأصل لا يملك أن يذهب الى صندوق الإقتراع , ولا يملك حتى أن يستفتى في أبسط الأمور .
ثانيا إستطاع السقا في نهاية الفيلم أن يخرج نفسه من دوامة الخوف والهروب من الموت , ولكن الشعب الفلسطيني لا زال في دوامة الخوف من القادم , والهروب من الواقع .