الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

البعد العقائدي لصفقة القرن

نشر بتاريخ: 23/02/2020 ( آخر تحديث: 23/02/2020 الساعة: 12:32 )

الكاتب: سامر سلامه

منذ تولي الرئيس الأمريكي الحالي ترمب سدة الحكم في البيت الأبيض، لم يمضي يوما دون أن نسمع منه أو من إدارته تصريحا من هنا أو هناك له علاقة بإسرائيل، حتى أصبح من الصعب أن نميز إن كان ترمب رئيسا للولايات المتحدة أم رئيسا لوزراء إسرائيل. حتى هو نفسه وفي أحد المقابلات الصحفية حول نية الكونغرس الأمريكي عزله فقد أجاب "إذا عزلني الكونغرس عن رئاسة الولايات المتحدة فإنني سأصبح رئيسا لوزراء إسرائيل" فهل هذا الجواب جاء عن وعي أم زلة لسان أم على سبيل الدعابة؟

منذ إعلان ترمب وعده لإسرائيل بضم القدس والمستوطنات ضمن ما أسماه صفقة القرن فإن البعض قد عزا ذلك لنفوذ الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وتأثيرها العميق على صناعة القرار الأمريكي وكأن الساسة الأمريكان أغبياء وما هم سوى دمى بأيدي الصهيونية. ولكن للمتعمق في صناعة السياسة الأمريكية ومنذ مؤتمر بازل عام 1897 فإننا نلاحظ العكس. إن عمق التأثير الأمريكي وعلى وجه الخصوص جماعة المسيحيين الإنجيليين على هيرتزل نفسه والحركة الصهيونية من بعده كان ولا يزال كبيرا حتى أصبح قادة الحركة الصهيونية ومن بعدهم حكومات إسرائيل المتعاقبة دمى في أيدي تلك الجماعة. إذ لم يستطع أي منهم إتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بإسرائيل دون موافقة جماعة الإنجيليين المباشرة أو غير المباشرة من خلال الرؤساء الأمريكيين المنحدرين من تلك الجماعة. ومن أمثلة ذلك أن هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية حينما طرح فكرة "الدولة اليهودية" لم تكن دوافعه دينية بالأساس، فهو قومي علماني في الصميم، لذلك كان مستعدا لقبول استيطان اليهود في أوغندا أو العراق أو كندا أو الأرجنتين. أما المسيحيون الإنجيليون في أميركا وغيرها قد آمنوا من أول يوم بفلسطين وطنا لليهود، واعتبروا ذلك شرطا لعودة المسيح الثانية، وأخرجوا "المسألة اليهودية" من الإطار السياسي إلى الإطار العقائدي، لذلك فقد انتقدوا الموقف المتساهل لهيرتزل، حتى إن منظر تلك الجماعة في ذلك الوقت القس وليام بلاكستون قد أرسل إلى هرتزل نسخة من العهد القديم، وقد علَّم على صفحاتها الآيات التي تشير أن فلسطين هي "الوطن المختار للشعب المختار"

ولم تأتي كلمة الرئيس عباس أمام وزراء الخارجية العرب في القاهرة غداة إعلان ترمب وعده لإسرائيل (صفقة القرن) من فراغ عندما إستعرض فيها تاريخ القضية الفلسطينية وخاصة عندما قال "أن وعد بلفور كتبه بلفور في بريطانيا ولكن أفكار الوعد جاءت من أمريكا" في إشارة إلى جماعة الإنجيليين الذين أملوا على بلفور وعده مقابل دعم الولايات الأمريكية لبريطانيا في حربها الكونية الأولى والتي إنتهت لصالح الإنجليز الذين فرضوا سيطرتهم على فلسطين لاحقا وبدأوا بتطبيق بنود الوعد المشؤوم. فالمحرك الأول لسياسات بريطانيا والحركة الصهيونية في فلسطين هم جماعة الإنجيليين الأمريكيين الذين يؤمنون بأن عودة اليهود إلى فلسطين شرط أساسي لعودة المسيح في تفسير مشوه لما جاء في أسفار الكتاب المقدس.

وإذا تعمقنا أكثر في سلوك تلك الجماعة فإننا نرى أنها نفسها التي إفتتحت لها سفارة في القدس في العام 1980 بإسم السفارة المسيحية وهي نفس الجهة التي تقدم الدعم غير المحدود للجمعيات الإستيطانية في الضفة الغربية إنطلاقا من إيمانهم بأنه على اليهود الإنتشار في جميع المناطق الفلسطينية وإستيطانها من جديد حتى تكتمل متطلبات تحقق النبوءات المتعلقة بعودة المسيح. فهذه الجماعة هي المسيطر الأكبر على الإقتصاد الأمريكي وأعضائها يمتلكون كبرى الشركات الأمريكية والعالمية وبالتالي فإن هذه الجماعة تمتلك من الأموال ما يمكنها من تعميق نفوذها وسلطتها على الساسة الأمريكيين من رؤساء للولايات المتحدة أمثال ريغان وبوش الإبن وترمب وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمر الذي يعزز نفوذهم السياسي في الولايات المتحدة ومنها إلى إسرائيل. فبما أن الولايات المتحدة هي الداعم الأكبر لإسرائيل فإن القرار النهائي لهذه الدولة المصطنعة لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس هو بأيدي تلك الجماعة بشكل مباشر أو غير مباشر. فعندما أشار الرئيس عباس إلى إتفاق أوسلو الذي تم بشكل سري بين منظمة التحرير وإسرائيل دون علم الولايات المتحدة، قد تم التراجع عنه من قبل إسرائيل عندما علمت الولايات المتحدة به وها هو ترمب يجهز عليه نهائيا بإعلانه الأخير. كما أنه عندما توصل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي للتفاهمات التي تمت للإنسحاب من الخليل قد جاءت مجموعة كبيرة من الإنجيليين من الولايات المتحدة وبتنظيم من ما يسمى بالسفارة المسيحية في القدس للتظاهر ضد هذا الإتفاق. فالقرارات في إسرائيل وخاصة تلك المتعلقة بالسلام مع العرب وإعادة الأراضي المحتلة عام 1967 هي بأيدي الولايات المتحدة والجماعات الإنجيلية وليس بيد حكومة إسرائيل بغض النظر عمن يحكم في إسرائيل من الأحزاب الصهيونية.

ومن هنا فإنني أكرر دعوتي السابقة أنه حان الوقت لتأطير كافة المبادرات المسيحية الفلسطينية التي تشكل رأس حربه في فضح الإحتلال وداعميه من منطلق لاهوتي أصيل. فهذه المبادرات هي القادرة على مواجهة الفكر الإنجيلي المتصهين والتفسيرات اللاهوتية الشاذة التي تبرر الإحتلال والإستيطان دينيا ولاهوتيا. فإن إنشاء وحدة خاصة ومتخصصة باللاهوت الفلسطيني في إطار منظمة التحرير الفلسطينية أصبح ضرورة ملحة لمواجهة الفكر اليميني المتشدد في الغرب ومواجهة صفقة القرن المرتبطة بها.