الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

مدير أباريق الجامع

نشر بتاريخ: 23/08/2015 ( آخر تحديث: 25/08/2015 الساعة: 13:53 )

الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام

هناك نوع من البشر لا يستحق أي منصب مهما صغر شأنه ، لأنه اذا تولى هذا المنصب جعله لعنة على العباد وعقوبة لا تحتمل للأخيار من البشر. ومثال على ذلك من يأخذ منصبا على اتصال يومي مع احتياجات الناس ، فيجعل حياتهم جحيما .
ولانه مريض بالمنصب فانه يعتقد ان الامّة لا تصلح من دونه ، وانه عبقري وجهبذ زمانه ، ونبي عصره . فتأخذه اللوثة ويكابر حتى اخر لحظة ويعيش الدور حتى الثمالة ، فترى الناس يسخرون منه ومن طريقه مشيته ومن لباسه وطريقة استعراضه امام العامة ولكنه لا يعلم ويعتقد العكس فتزداد حالته تدهورا ، وهؤلاء عادة ما يلتصقون بسيارة الحكومة او بيونيفرم العمل أو بالبدلة العسكرية فيرتدونها حتى في داخل منازلهم ، او في الافراح والاتراح ، وكأنهم يريدون ان يثبتوا لانفسهم اولا ولاقرب المقربين منهم ثانيا انهم اصبحوا في منصب مهم ، وأحيانا يحاولون الحديث بصوت منخفض في محاولة لشراء الثقة بالنفس وجذب انتباه الناس ولكنهم أمام انفسهم مرضى ويصرخون بعائلاتهم ويفقدون اعصابهم امام اصغر مشكلة حتى لو كانت تافهة . وقد تذكرون فلم النجم الراحل احمد زكي في فلم " زوجة رجل مهم " وهو نموذج على هؤلاء المرضى .

حين دخل الزعيم ابو عمار الى أريحا ، بدانا العمل هناك لاقامة دولة فلسطين ، وبدأت الكفاءات الفلسطينية من كل العالم تأتي لتضع لبنة اخرى في مداميك الدولة ، وذات يوم وصل الى أريحا رجل كبير في العمر وكبير في المقام ، وأمضى معنا نحو شهر قبل ان يودعنا ويقول انه سيهاجر مرة اخرى ولن يعود . تأثرنا كثيرا وقلنا له يا استاذ يا أبو فلان امكث معنا نبني الوطن لكنه رفض رفضا حاسما .
وفي جلسة الوداع سألناه بالحاح عن هذا القرار المفاجئ ، فأوضح لنا انه لن يمكث في بلد يكون فيها فلان " المريض " مسؤولا . فسخرنا من هذا الذريعة وقلنا له ان فلان " المريض " ليس مسؤولا من الدرجة الاولى بل هو مجرد مسئول صغير ولن يؤثر في مسيرة بناء الوطن . فسرد لنا قصة مدير اباريق الجامع .
ذات يوم اشتكى اهل قرية للوالي التركي عن مختار جعل حياتهم ضنكا ، ونهب اموالهم وقهر رجالهم وأخرب بيوتهم ، ومن شدة الظلم استجاب الوالي لطلب الناس وعزله عن منصبه .
ولكن هذا المختار " الحقير " توسّل للوالي وقبل يداه ورجلاه ألا يعزله عن كل المناصب مرة واحدة ، وان يبقي له أي منصب مهما صغر مقامه ... ولكن الوالي رفض . فطلب المختار المعزول من الوالي ان يجعله مديرا لاباريق الجامع وتنظيف المطاهر ، فعجب الوالي بهذا المنصب المتدني واعتبره عقابا مناسبا للمختار على ما فعله بالناس .

ولكن ومنذ ذلك اليوم تحوّلت حياة سكان القرية الى جحيم ، فقد استولى المختار المخلوع على اباريق الجامع وقسمها الى لونين لون احمر ولون أزرق ، وكلما جاء رجل زاهد الى المسجد ليصلي وحمل ابريقا احمر ، طلب منه " مدير الاباريق " ان يعيده فورا ويأخذ الازرق ، وهكذا تحكّم بوضوء وصلاة جميع اهل القرية بموجب فرمان رسمي من الوالي . حتى عزف اهل القرية عن المسجد وترك بعضهم الصلاة من تحت رأسه .

استمعنا الى الرجل وهو يغادر اريحا الى الاردن ويترك الوطن من تحت رأس " مدير اباريق الجامع " وهي مهنة محترمة وشريفة وتستحق كل الاحترام ولكن من تولاها في هذا المثال لا يستحق الاحترام  ، وفي حينها كنّا نعتقد ان الرجل يبالغ قليلا ... لكن ما نراه اليوم من هذه النوعية ، تستوجب ان ندرك ان هناك مسؤولين في مناصب ليست خطيرة ، لكنهم يتحكمون برقاب العباد ، ويسجنون هذا ويوقفون ذاك ، ويصادرون ممتلكات هذا ويمنحون ذاك ، وهم اخطر من اصحاب المناصب العليا .