الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

عن زيارة الباب تواضروس للقدس المحتلة

نشر بتاريخ: 27/11/2015 ( آخر تحديث: 27/11/2015 الساعة: 12:46 )

الكاتب: حيدر عيد

أثارت زيارة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسيةللقدس المحتلة جدلا كبيرا, على الرغم من محاولته تبريرهابالقول أنه جاء للمشاركة في العزاء والصلاة على جثمان الأنبا إبراهام مطران القدس،" و بالتالي "فإن هناك أسبابا خاصة وجانبا شخصيا" وراء حضوره لوداع الأنبا إبراهام! و من الطبيعي أن تثير هكذا زيارة المشاعر لمخالفتها للحظر الذي فرضته الكنيسة الأرثوذكسية في مصر على زيارة القدس، قبل تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي, كما قال البابا المرحوم شنودة الثالث الذي كان قد منع أقباط مصر من السفر لإسرائيل اعتراضا على إعلان اسرائيل أن القدس بما فيها القدس الشرقية المحتلة عاصمة موحدة وأبدية لها في عام 1980.

و لكن التساؤل الأكبر يكمن حول اعتبار هذه الزيارة نوعا من أنواع التطبيع, أم تضامنا مع أهل فلسطين المحتلة تحت ذرائع "الزيارة" و "الصلاة"..الخ.. و لكن, و في الطرف الأخر, هناك من اعتبرها مساندة للصمود الفلسطيني, المقدسي منه بالذات, في مواجهة التهويد المستمر للمدينة المقدسة, و النضال ضد احتلالها منذ عام 1967 و" تجذير المسيحيين وجودهم في العاصمة الفلسطينية!"

الأهم في هذا الموضوع هو الموقف الفلسطيني. و من الجدير بالتذكير هنا أن المرجعية لتعريف التطبيع هي اللجنة الوطنية للمقاطعة, التي تضم الغالبية الساحقة لتحالفات ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني بالإضافة لهيئة العمل الوطني و الإسلامي. وكانت اللجنة قد اعتمدت التعريف الذي عملت على صياغته الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية و الثقافية لإسرائيل والذي ينص على أن (لتطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفرادا كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية.........)

ولكن اللجنة الوطنية تعتبر أيضا أن مواقف لجان و حملات المقاطعة في الدول العربية ملزمة لسكان هذه الدول حتى وأن كان سقف التعريف أعلى مما اعتمدته لجنة المقاطعة الوطنية نفسها. و بناء عليه يجدر بنا أن نأخذ بالحسبان موقف النقابات و الأحزاب و القوى الشعبية المصرية, وهو موقف واضح وضوح الشمس في رفضه المطلق لأي شكل من أشكال التطبيع مع اسرائيل.

و من الملاحظ أن هذه الزيارة تأتي في نفس الوقت الذي تمنع فيه إسرائيل مسيحيي فلسطين, بالذات من غزة, من زيارة الأماكن المقدسة في بيت لحم و القدس و الناصرة. ألا يتوجب على قداسته إبداء الحد الأدنى من التضامن معهم, كما فعلت العديد من القيادات الدينية المسيحية و الكنائس الغربية؟
ألا يحق لنا ان نتوقع من قداسته أن يبدي احتراما لوثيقة "كايروس" التي أعدها بعض من رجال الدين المسيحيين في فلسطين و طالبوا من خلالها دول العالم بالوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية! و كان هذا النداء قد قوبل باستجابة بعض كنائس العالم حيث اتخذت بعضها قرارات بسحب استثماراتها من دولة الاحتلال ومقاطعة بضائعها. ألم يسمع عن الموقف المتقدم للأسقف دزموندتوتو الذي أيد الوثيقة و أصبح من أبرز الداعين لمقاطعة إسرائيل, بل أنه اعتبر ذلك "مسئولية أخلاقية" ملقاة على عاتق كل إنسان, و بالذات رجال الدين.؟

والجدير بالذكر في هذا السياق أن سكان قطاع غزة البالغ عددهم 1.5 مليون مواطن ممنوعون تماما من زيارة القدس و بيت لحم و الناصرة و الصلاة في كنائسها. و الأنكى أن 70%من سكان القطاع (تحت سن 18) لم يزوروا المدينة المقدسة على الإطلاق!
لا شك أن هذه الزيارة ستستغل أيما استغلال من حملة الهاسبرا (الدعاية) الاسرائيلية التي تعمل جاهدة على تصوير إسرائيل على أنها دولة حضارية, ديمقراطية تمارس فيها حرية العبادة, و أن القدس مفتوحة لجميع الديانات على الرغم من كونها "العاصمة الأبدية" للدولة! ففي الوقت الذي تعاني فيه إسرائيل من عزلة دولية متنامية نتيجة لجهود نشطاء حملة المقاطعة و شركائهم الدوليين, تجد من يعمل, بعلم أو بدونه, على تبييض وجه الاحتلال القبيح و الملطخ بدماء أطفال غزة و القدس و الخليل, المسلمين و المسيحيين, التي لم تجف بعد! فالمجتمع المدني الدولي لم يعد يغض الطرف عن جرائم إسرائيل بحق أهل فلسطين. بل أن بعض المتضامنين قد دفعوا حياتهم ثمنا لهذا التضامن. فما هي الرسالة, اذا, التي يوجهها لنا البابا تواضروس ؟! و كيف يفسر الحراسة المشددة التي وفرتها قوات الاحتلال يوم زيارته للأماكن المقدسة؟ و تأتي هذه الزيارة بعد عام من المجزرة التي قامت نفس القوات التي توفر الحماية للبابا بهدم العشرات من دور العبادة في غزة! بالإضافة لقتلها أكثر من 220 فلسطيني في غزة, منهم 530 طفل معظمهم مات دون أن يتخطى أسلاك القطاع الشائكة!

أي تضامن هذا الذي يأتي بخاتم إسرائيلي؟ فهذه الزيارة , تتم بالتنسيق مع إسرائيل و بإذنها . و بما أن المقارنة مفيدة في هذا السياق, فان حملة مناهضة الأبارتهيد في جنوب أفريقيا, و التي نستلهم الكثير من دروسها, كانت تنتقد بشدة اي زيارة يقوم بها مواطن غير جنوب أفريقي حتى للمدن السوداء, مثل سويتو, ابان نظام التفرقة العنصرية البغيض, و تعتبرها فعلا تطبيعيا فاضحا و بامتياز, تطبيعا يعمل على تجميل وجه النظام العنصري و التسويق لسياساته المعادية للإنسانية.

كان من الأكرم لرجل في مقام البابا الذي بقراره هذا يدير ظهره لمسيحيي فلسطين, بدلا من التضامن معهم, أن يزور قطاع غزة المحاصر منذ 8أعوام, فهذا هو المعيار الحقيقي هذه الأيام للتضامن مع الشعب الفلسطيني. فغزة, بمسلميها و مسيحييها, ولمن لا يعلم بعد(!), محاصرة بلا كهرباء و لا ماء أو دواء أو وقود. وقد ازدادت شدة الحصار في الفترة الأخيرة بشكل جعل نصف إسعافات القطاع تتوقف عن العمل, و العديد من مولدات الكهرباء في مستشفياتها توقفت عن الدوران! الا يستلزم هذا موقفا تضامنيا من رجال الدين؟ أو حتى فتوى تجرم كل من يساهم في خنق أطفال القطاع؟
لا شك أن البطريرك قد تم التنسيق له مع الاحتلال على الرغم من ادعائه الطبيعة الدينية و الشخصية للزيارة. و لكن السؤال الذي يجب طرحه هو هل من الممكن القيام يتلك الزيارة دون موافقة الاحتلال؟!
أن إسرائيل تحتاج لكل الدعم الذي يمكن أن تحصل عليه, حتى لو جاء من رجال دين, لأنها تعلم علم اليقين أنها الخاسر الأكبر , و أن عزلتها الكاملة قادمة لا محالة.
لكن يبدو أن البابا تواضروس قد نسي أن زمن التطبيع قد ولى.