الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

مئوية ثورة أكتوبر... جديد تاريخ البشرية..ثورة أكتوبر الإشتراكية.

نشر بتاريخ: 12/11/2017 ( آخر تحديث: 12/11/2017 الساعة: 16:26 )

الكاتب: نايف حواتمة

ثورة أكتوبر في عام 1917، ثورة الأيام العشرة التي هزت العام ، هي ثورة تعبر بإمتياز عن الروح الروسية الوقادة، على إمتداد التاريخ، وعن حقبة هي الأهم في تاريخ روسيا، حين قدمت تجربتها في الإشتراكية. نقول تجربة، لأن العديد من الباحثين والمختصين، وكذلك قراءات بعض الأحزاب الاشتراكية والديمقراطية الثورية والشيوعية لهذه التجربة، أجمعت على أنها قامت بعملية تحول جذري في التاريخ البشري، عبر التاريخ الروسي. وكما هي ملك للروس.. هي أيضاً ملك للبشرية.
وبعد إنهيار التجربة، ثار نقاش تاريخي في أصقاع الأرض كافة، في تسعينات القرن الماضي، ولما يزل بعد. عدنا إلى كتب لينين والبلاشفة في سياق عصرهم، وكتب التيار الإصلاحي في سياق ذات التاريخ، كما جرت فبركة ما سميّ بـ وصية بليخانوف والتي دحضها الموثقون الروس، بأنها مفبركة في معاهد الغرب الأمريكية المختصة بدراسة روسيا.
نقصد بالروح الروسية على إمتداد تاريخها، مقومات الصمود والإنتصار، ومقومات الذهنية والعقلية الروسية، وأثرها في الفرد الروسي، والصمود في زمن خاطف. كما أننا نشاهد هذه الروح راهناً بقوة، وهي مذهلة تعيد إكتشاف الدهشة المخبؤة لدنيا، ونحن في عصرٍ تنعدم فيه الدهشة بالعودة لأطنان ماكتب عن ثورة الأيام العشرة التي هزت العالم ، والتاريخ الجبار لروسيا. البعض يقرأه قراءة ترتبط بـِ بليخانوف مؤسس التيار الاصلاحي في الماركسية الروسية في البدايات النظرية ، لكننا أمام التجربة الإشتراكية الروسية نستخلص بأن: تاريخ البشرية في القرن العشرين، كان سيمضي في دربٍ آخر، لولا هذه الثورة ، فقد قضت على النظام القيصري الاقطاعي شبه الرأسمالي، مسجلةً بداية إنهيار الإمبراطوريات الإستعمارية، من جانب ومن جانب آخر تصاعد الحركات الاشتراكية والعمالية، وحركات التحرر الوطني في جنبات العالم..
تقدمنا نحن في المشرق العربي وفي فلسطين بالذات على قراءة كتب لينين، وكتاب زعيم التيار الإصلاحي (المناشفة) بليخانوف في خمسينيات القرن الماضي، حول دور الفرد في التاريخ.. ، بليخانوف وكتابه بالذات، وبحسب أعداء الاشتراكية، أعداء البلاشفة، هو من أدخل فايروس الماركسية إلى روسيا، بل أيضاً إلى أماكن عديدة في جنبات هذا العالم، وقام بترجمة البيان الشيوعي إلى اللغة الروسية، وأسس في منفاه في جنيف أول منظمة ماركسية روسية بإسم تحرير العمل ، ثم أسس لاحقاً: إتحاد الإشتراكيين ـــــ الديمقراطيين الروس في الخارج ، فضلاً عن كتبه في الفلسفة وعلم الإجتماع والثقافة التي كانت توزع سراً.
النقاش دار ويدور بين التيار الإصطلاحي (المناشفة)، أي أنه آمن في درب التطور الرأسمالي، مما يناسب الماركسية الأوروبية في البلدان المتطورة في الغرب الأوروبي، وقد تعرف على فلاديمير إيلتيش لينين في العام 1889، وأسس معه جريدة الشرارة ، وبدأ بالتحضير لعقد المؤتمر الثاني لحزب العمال الإشتراكي الديمقراطي الروسي، معتبراً أنه من السابق لأوانه التحضير للثورة الإشتراكية، برز هذا في مقولته: إن التاريخ الروسي لم يطحن بعد من الحنطة ذلك الدقيق الذي ستصنع منه بمرور الزمن كعكة الإشتراكية ، عاد إلى روسيا بعد ثورة إكتوبر، وتوفى في فنلندا في (أيار/مايو 1918) ودفن في بتروغراد، وقال عنه أحد مريديه: لقد كان للمسيح يهوذا فقط، أما لدى بليخانوف فعددهم كبير قاصداً البلاشفة.
أما لينين فقد علق في العام 1921 بأن المرء لا يمكن أن يصبح شيوعياً واعياً وحقيقياً إلا بعد دراسة جميع ما كتبه بليخانوف في الفلسفة، لأنه أفضل ما كتب في جميع الأدب العالمي حول الماركسية.
ما يهمنا هنا في السرد، غياب حقائق، هي أن لينين فور عودته إلى روسيا قدمّ موضوعات نيسان التي دعا فيها إلى تحويل ثورة شباط 1917 البرجوازية - الديمقراطية إلى ثورة إشتراكية، منطلقاً من مبداً قطع السلسلة في أضعف حلقة فيها، أو حرق المراحل، وكان هناك موقفان: الإصطلاحي، واللينيني المتمثل بشعار: السلطة للسوفيتيات، والأرض الفلاحين، والمصانع للعمال، والسلام للشعوب هذه الدعوة وجدت التفافاً واسعاً في صفوف الناس، دون أن تغفل أن لينين قام بإلغاء الشيوعية العسكرية معلناً عن الخطة الإقتصادية الجديدة النيب لإعمار البلاد، وأن تقف الدولة على قدميها، لمواجهة حروب القوى الداخلية المضادة لتوزيع الأرض وتحقيق السلام، ولمواجهة التدخل الخارجي، وأطماع الدول الاستعمارية في أراضي روسيا وثرواتها. وبدأ تنفيذ الخطط الخمسية: إعمار البلاد، كهرباء البلاد، بناء الصناعات الثقيلة ، وسريعاً ما حققت البلاد الاكتفاء الذاتي، وتم تطوير الصناعات والعلوم والاجتماع والطب، وبناء العلم والعلماء، في نهوض قياسي متسارع. سرعة قياسية في إعادة بناء ما دمرته الحروب المختلفة. هنا برزت بجلاء الروح الروسية الموصوفة، وبرزت أكثر حين نجح الاتحاد السوفيتي في قهر أعتى قوة عسكرية في أوروبا، في الحرب العالمية الثانية، عندما هاجمت جحافل وجيوش النازية الألمانية الاتحاد السوفيتي، وجرى دحرها وهزيمتها وإسقاط نازية برلين، ورفع العلم السوفيتي فوق مقر الرايخستاغ. تعبيراً عن أن الروس يقفون صفاً واحداً لدى وقوع هجوم خارجي على بلادهم، أعيد إعمار ما سببته الحرب الضارية النازية الألمانية. أيضاً بزمن قياسي، صنع الاتحاد السوفيتي القنبلة الذرية، وأطلق الأقمار الصناعية، قدم أول رجل (غاغارين) للسير في الفضاء.
في هذا الجانب، وفيما يخص بلدان العالم، أرغمت ثورة أكتوبر الامبراطوريات الإمبريالية على التخلي عن مستعمراتها، وأرغمت السلطات الرأسمالية على تخفيف إستغلال الكادحين. ساندت وساعدت حركات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. كشفت اتفاق سايكس – بيكو لتقسيم واقتسام البلاد العربية والشرق الأوسط بين الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية. كشفت وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على أرض الشعب الفلسطيني وحسابه وهو يشكل 90% من السكان، بينما اليهود أقل من عشرة بالمئة 10%، وأعلنت ثورة أكتوبر أن الصهيونية حركة رجعية إستعمارية .
بعد تسعينيات القرن العشرين، بيد الدولة الروسية اليوم كمّ هائل من الوثائق ومن الأرشيف الضخم للدولة، يجري نبشه وتمحيص على يد خبراء موثوقين، يأخذون وقتهم في معالجة أرشيف هذا التاريخ ورقةً ورقة، في مهنية رفيعة، بعيداً عن الإيديولوجيا، لإستخلاص العبرة والدروس، علماً أن النهوض الروسي الراهن والمتسارع .. هو بحد ذاته استخلاص الكثير من هذه الدروس..
روسيا بلاد غنية مترامية الأطراف، وهي أكبر بلدان العالم من حيث الجغرافيا ( أورو- آسيوية)، يرمز لذلك نسرها برأسين في اتجاهين – شرق وغرب. بمساحة سدس مساحة اليابسة تقريباً. يقطنها حوالي145 مليون نسمة من مختلف الأديان والأعراق، والثقافات والقوميات. على مدى قرون من التاريخ تعرضت لحروب، منذ ما قبل الغزو المغولي وبعده السويد، بولندا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبروسيا الألمانية، وفرنسا نابليون بونابرت، والألمان قبل النازية وهتلر ومعه (حربان عالميتان).
إن إنهيار التجربة الاشتراكية الروسية، لها عواملها الداخلية:
أولاً: في تفشي البيروقيراطية، التي بدأت من داخل الحزب، وفي أجهزة الدولة وهيمنة مواقع الفساد.
ثانياً: غياب معادلة ماركس الشهيرة إشتراكية الديمقراطية وديمقراطية الاشتراكية وهذا كان الغائب الأكبر في تجربة الحزب والدولة ومؤسسات المجتمع.. نقابات وثقافات إلخ..
ثالثاً: الجمود الاقتصادي بعد أن استنفذت تجربة إقتصاد الدولة المركزي طاقتها، والبلاد في حالة أزمة فكرية وإقتصادية وإجتماعية وسياسية.
رابعاً: الأزمة العامة في التجربة السوفيتية إمتدت إلى غياب العلاقات الديمقراطية الاشتراكية بين القوميات والبلدان السوفيتية.
خامساً: عجز مؤسسات الحزب الشيوعي السوفيتي عن تقديم الحلول الملموسة للواقع الملموس . تراكمت الأزمات والصراعات داخل الحزب إلى تيارات وتكتلات متناقضة (ماركسية، ديمقراطية إجتماعية، ليبرالية سياسية، توترات قومية حادة، إقتصاد السوق، الأسواق تضبط نفسها،...).
هكذا إنفجر الحزب والدولة في داخل كل منها، فكان ما كان: إنهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، إنهيار وتفكك الحزب، إنهيار التجربة الاشتراكية السوفييتية.
كما كان لها امتداد من العامل الخارجي، برز جلياً بعد الإنهيار السوفييتي في محاولات تقطيعها إلى ثلاث دول، وقد واصل الغرب الإمبريالي عداءه لروسيا، وللذات الروسية، رغم إنهيار التجربة الإشتراكية وتفكك الإتحاد السوفييتي، لخوفه من نهوضها (سباق التسلح، حرب النجوم، الحصار الاقتصادي التكنولوجي، والحروب الأيديولوجية والإعلامية بإنتصار الرأسمالية وهزيمة الأشتراكية، وللإنفراد الأمريكي بقيادة العالم، كما يشتهي).
لقد أدى اختلال توازن القوى إلى الحرب على يوغسلافيا وتقسيمها، وإلى أحداث البلقان، والحرب على العراق، ثم عبر وكلاء الإرهاب العالمي في سوريا والعراق مجدداً، وليبيا واليمن: الحرب عبر وكلاء كما أسست وبرزت دولة الخلافة (داعش)، ومنظمات القاعدة.
إن عموم الحروب التي شنها (الناتو)، والتحالفات التي تقودها واشنطن في القرن الحادي والعشرين ومنذ مطلعه، لا تخضع لأحكام القانون الدولي العام، أو لمؤسساته، حيث جرى تهميش دور الأمم المتحدة، عبر حروب (الوكالة) وهي حروب متخفية ، لكنها لا تخفى على أحد، تستخدم لتنفيذ المخططات ضد كل من يخرج عن طاعة واشنطن، ما يؤدي إلى إنبعاث الفاشية الجديدة، على غرار ما يجري في أوكرانيا، وصعود القوى المتطرفة اليمينية والفاشية الجديدة في عموم جنبات أوروبا ذاتها..
إن جملة غوتة التي كررها لينين كثيراً: النظرية، رمادية اللون يا صديقي، لكن شجرة الحياة خضراء إلى الأبد . شجرة الحياة الروسية عميقة الجذور، ضاربة في أرضها، خضراء يانعة، وهي خير معبر عن روسيا الراهنة، في نموذجها وروحها في فن الحياة على الطريقة الروسية. فالواقعية الروسية الراهنة، وذهنيتها الجماعية، وتعاقبها في أجيالها، وفي خضم تقدمها العلمي الباهر وخلاصاته الثورية، وفي خضم الحراك الضخم والمأساوي للأفكار في عالم اليوم، بينها وبين نظام مروع ومتوحش يفرض فرضاً بقوة الحديد والنار والمقابر الجماعية، وميديا الأكاذيب والإعلام والحروب بالوكالة، وأزمات ومافيات الرأسمالية المحافظة، والليبرالية الجديدة، والحصار الاقتصادي. يبرز جلياً من جديد البحث الروسي عن عالم ما بعد حضارة الغرب ولصالح الحضارة الانسانية ، ومعه الروح التواقة للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، الباحثة عن استقرار لهذا العالم في توازن محكم في مواجهة أخطار ومغامرات متوحشة، بل ومواجهة الكوارث المخبوءة مخططاتها في الإدراج، وقد رسمت ملامحها، نحو عالم العنصرية الرأسمالية المتوحشة ذات اللون الواحد والملامح الفاشية.
إن الصعود السريع لروسيا من الرماد والركام، هو مقاربتها من جانب العلم ووظيفة التربية والتعليم، التي أخذت مديات عالية، بدءاً من التشجيع على التفكير والبحث الذاتي، وإلغاء عملية التلقين، والدفع إلى الكشف الخاص عن النشاط الذهني والتفكير الذاتي، والتصويب الذاتي في حال الوقوع بأخطاء، أي تعميق ديناميكية العلم والاختصاص، والتبادل المعرفي المباشر، بعيداً عما نسميه نحن العرب اليقينيات الراسخة.
هذه الأضواء الكاشفة الموجزة للقدرات الجماعية الروسية، وإحدى المميزات الهامة حين تتصاعد في المنعطفات الحادة، تتوضح مفاهيم كيف تتكامل السياسة مع الفكر وصناعة البشر والعلماء، فضلاً عن الأدب والإبداع، من (الموجيات) والقنانة وعذابات الريف والاستغلال المدمر. والعمال وفقراء المدن. هي حقل متكامل في الواقع الاجتماعي.
تحية للروح الروسية الناهضة، التي تبني البشر قبل الحجر. للعقلية والذهنية الجماعية في الدفاع عن كل ماهو إنساني، وصولاً إلى صناعة العلم والعلماء في تراكمها نحو الحرية والديمقراطية: التنمية من جديد والعدالة الاجتماعية.